أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
كثيرا ما نقرأ ولا نسأل عن تلك الليلة الغريبة التي جاءت لتحتل مكانا مميزا في ألف ليلة و[ليلة]؟ ما سحر تلك الليلة المضافة إلى الألف؟ ما جدواها ثقافيا؟ لماذا لم يتوقف الراوي في حدود الألف؟ ماذا حدث فيها بالضبط ليدرجها الراوي أو الرواة ضمن العنونة التي هي مركز النص رمزيا. لا يمكن أن يكون الأمر عبثيا أو اعتباطيا. اللغة سلسلة من الرموز الغامضة عبرها تمر خطاباتنا، وتمر أسرارنا أيضا.
ولأن نص ألف ليلة وليلة إشكالي، فقد ووجه بالرفض الدائم والحرق، لدرجة أن صرنا نتساءل اليوم: لماذا كلما فرض نص عربي نفسه عالميا، وأصبح جزءا من الذاكرة الجمعية، انتابتنا الشكوك في أن وراءه آلية معادية لنا دينا وعرقا، تعمل في الخفاء لتدميرنا من الداخل؟ أمر مثل هذا يحتاج إلى وقفة تأملية حقيقية، لأن المعني بالأمر، جزء من ميراثنا الإنساني: لماذا نرفض الاعتزاز بالمنجز الثقافي العربي المميز، الذي حقق مساحة من العالمية وأصبح جزءا من الذاكرة الإنسانية، وينام في نصوص عالمية كثيرة من خلال علاقات تناصية ليس صعبا اكتشافها؟ هناك حتما أسباب ظاهرة، وأخرى غير مدركة في كليتها. كثيرا ما استعمل الدين، أو التقاليد كوسيلة لهذا المحو الغريب والمرفوض وعدم الاعتراف. بالمقابل هناك بلدان صغيرة أقل ثقافة وحضارة من العرب، تفتخر بأي منجز صغير يمنحها اعترافا دوليا. كل العلامات الثقافية التي صنعت مجد العبقرية العربية في أعالي تألقها وتمايزها، تُرفض، أو تُنسب للآخر الذي يحاول تدمير الذات الثقافية العربية بالعمل على تصحيرها. عقلية النفي ورفض التمايز لا تقتصر فقط على هذا، فهي تمس كل مناحي الحياة. نعرف مسبقا أنه لا توجد آلة أكثر تدميرا من التطرف.
أي سحر يملكه نص الليالي ليستمر في الوجدان الإنساني على الرغم من المتابعة بالنفي والحرق دون أن يتحول إلى رماد، كما كانت تفعل محاكم التفتيش المقدس في القرون الوسطى في الأندلس، والتي كان المسلمون الضحية المثالية لها. بعد أن طاردتهم في الأندلس وخارجها، أحرقت مخطوطاتهم العلمية الثمينة التي غير الكثير منها وجه أوروبا. كل شيء جاء وفق تراتبية. منع كتاب الليالي في البداية من التداول لأسباب أخلاقية تتخفى وراءها سلسلة من الهواجس السياسية بصبغة دينية، وأزيحت من المشهد السردي كل القيم الإنسانية ونقيضها، التي بني عليها نص ألف ليلة وليلة: قيمة الزواج، الوفاء، العنف، الظلم/ الطموح، الحب، النظام، السلطة، الكذب، الخير والشر، الثقافة والعلم، الذكاء والغباء، ما الذي أنقذ شهرزاد سوى عبقريتها ومخيالها الغني المتأتي حتما من ثقافات عالمية تكاتفت داخل نص الليالي، فهي لم تكن أمية، فقد كانت من أكثر بنات الوزراء والبطانة ثقافة وعلما. مع أن الأصل في الكتاب كما يعلن ذلك بنفسه، هو للتسلية لا أكثر. المشكلة هي أنه كلما فقد المجتمع العربي المبادرة الحضارية، ارتد إلى ذاته الجريحة بعنف، وبدل أن يداويها بالعقل ويحررها من الخرافات والمرويات الأسطورية، وينتصر للقيم التي تدفع به على الأمام، يحاربها بالمزيد من التصحر والتجفيف الثقافي.
فقد تمّ حرق نص ألف ليلة وليلة، في حواضر عربية متعددة، منذ القرن العاشر فقط إلى اليوم، وحُوِّل إلى رماد في العديد من المناسبات. المدهش هو أنه كلما أُحْرِق، زاد انتشارا، فنهض من رماده كطائر الفنيق أو العنقاء، محلقا عاليا ومثيرا غضب سدنة الخوف من الحرية والعقل والصفاء الروحي والديني، مع أن نص الليالي شكل معبرا نحو واقعية سحرية غير معهودة في الثقافة العالمية والغربية تحديدا، ونحو تخييل جديد كان وراء الكثير من النصوص العالمية المميزة. فقد اعتبر كبار الروائيين العالميين أن ألف ليلة وليلة شكلت أرضية خفية لكتاباتهم. مارسيل بروست، أكد على ذلك كله في تصريحاته لتبرير عنصر التجديد في روايته الخالدة: في البحث عن الزمن الضائع. الروائي الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز يعتبر ألف ليلة وليلة كتابه المرجعي الدائم الذي صنع جزءا من مخيلته وبنيات الكثير من رواياته ومنها: “مائة عام من العزلة”. خورخي لويس بورخس يرى في نص الليالي، الكتاب الكبير والمدهش الذي ترك في حياته كلها أثرا كبيرا. أكثر من ذلك كله، فقد حول الموسيقي الروسي الكبير ريمسكي كورساكوف ألف ليلة وليلة، في القرن التاسع عشر، إلى سيمفونية خالدة حملت اسم شهرزاد.
يكفي أن الليالي ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة عالمية.
لا تتوقف إشكالية الليالي عند حدود الرفض ولكن في بنيته ومكوناتها. فالنص تخترقه سردية شعبية بكل نظمها الكلاسيكية المتعارف عليها، تضعنا أمام موضوع حيوي يستحق التجريب والاختبار. والسؤال كيف استطاع نص مثل ألف ليلة وليلة أن يستدعي لغة شعبية مرفوضة بالنسبة للتحليل النقدي العربي في عمومه، ويشيد عليها عالما أدبيا كان مرجعا لكتابات عالمية كثيرة، نجد أصداءه في الكثير من النصوص الكبيرة المعروفة، بعضها فاز بجائزة نوبل العالمية؟ ربما لأن هذه اللغة هي نتيجة مرويات شعبية، لا تعطي القدر الكبير من الاهتمام للبلاغة الكلاسيكية المتداولة في النصوص، وهو ما نراه اليوم عالميا، وكأن عهد البلاغة توقف ومات، ولم يعد نافعا، أو تغير مدلوله. هناك جيل من المتلقين لا يميل كثيرا إلى التنميق المتكرر للجملة ولا يعني له ذلك الشيء الكثير سوى النفور. الكثيرون يقولون اليوم إن لغة الروائي الفرنسي الشاب غيوم موسو الذي يقرأه الملايين لا تكلف جهدا كبيرا للفهم، أي أنها تصل قارئها مباشرة وبدون معوقات بلاغية، أو السلسلة الروائية هاري بوتر التي تخطى عدد القراء لها المائة مليون قارئ. كتابات مباشرة ترسم رماد الداخل وسحر العالم الذي يخرج المتلقي من عالم الدوران والتكرار. لا علاقة اليوم للكاتب موسو من ناحية الكتابة بلغة فولتير أو موليير، وإن ظلت اللغة المكتوبة هي نفسها الفرنسية بضوابطها وقواعدها اللغوية. مع موسو تنتصر لغة التداول التي تتبطن جمالياتها الخاصة، جمالية التلقي باشتراطاتها المسبقة، بينما مع موليير أو فولتير، نحن مع بلاغة ترتقي فيها اللغة الفرنسية بقدر تعقدها وتبيان خصوصياتها وعظمتها وكأن مسالة القيمة تُقاس بمدى التعقيد والابتعاد عن جمهور العامة، وليس بمدى تحقيق فعل التواصل مع الحفاظ على سحر الحكي.
لا تبتعد لغة الحكي في الليالي كثيرا عن هذا المفهوم الشعبي والتواصلي. فهي لغة بعيدة كل البعد عن بلاغة الجاحظ، أو التوحيدي، وحتى طه حسين، ولغتهم العالمية التي عبرت عن العبقرية العربية في أرقى مراتبها. لغة الليالي تضعنا وجها لوجه أمام أنفسنا واستعمالاتنا، فإما رفضها بوصفها ليست لغة، لغة من درجة ثانية، بالمقياس البلاغي العربي القديم، حتى ولو كانت اللغة الأكثر تلقيا بالنسبة للقارئ، أو القبول بها ومحاولة فهمها وفق نظامها، لأن التلقي يتوقف على هذه العلاقة. إن هذه المقاربة البلاغية التي تتوغل في عمق النص [هي لغة بلا اعتراف]، لم تجد للأسف من يأخذ بها ويقودها نحو مساحات الجدل والسجال، ووضع كل شيء تحت مشرط التحليل وفي مجالاته وزمنه وجمهوره الذي يستهدفه. تمنح مقاربات ميخائيل باختين في الحوارية، هذه اللغة، شرعيتها لأن بها محمولا تاريخيا كبيرا يخرج النص من دائرة الأنا ويبعد الشخصيات حتى لا تصبح مجرد أصداء لإيديولوجية الكاتب. توفر لنا أيضا هذه المقاربات، مادة حقيقية من الناحية المنهجية للقيام بدراسة لغوية حقيقية لليالي. لو افترضنا أن قضية مثل هذه وضعها النقد العربي في سياق الجدل وتمحصها ودفع بها للواجهة، بل ونظَّر لها، أي أعطاها مسوغات الشرعية، لتغيرت كليا مسارات الليالي، أو زاوية النظر لها. وربما ساهم هذا في إخضاع النص للعديد من الولادات القيصرية وكأنه نص الفتنة والخوف. ولسبب أخلاقي، لان السارد يتحرر أحيانا أكثر من الجرعة المسموح بها اجتماعيا. مشكلة نص الليالي إذن تتلخص في كونه ولد حرا من ضوابط المجتمع القسرية، والمسبقات اللغوية الجاهزة التي توقف اللغة في لحظة تاريخية محددة وترفض أية تهوية لها، لدرجة الانغلاق، وهو ما يضر حقيقة باللغة، إذ يعزلها عن الحياة والدينامية. فنص الليالي تخطى كل معوقات المصادرة، ولا يخضع لنظام المنع. فقد أحرق العديد من المرات دون جدوى، وقام من رماده كطائر الفنيق، خاطا مسالكه بين الأجيال والقراء وكأن شيئا لم يكن. أية قوة استثنائية تبطنها نص الليالي؟
عندما نتأمل نص الليالي، ونحاول قراءة عتباته كما حددناها في المقاربة النظرية، فإنه يضعنا أمام معضلتين تتعلقان بالمحيط النصي الداخلي، هما في النهاية جزء طبيعي من مكونات النص وبنيته وخصوصيته أيضا.
1- تتعلق المعضلة الأولى بالاسم الغائب للكاتب بوصفه اللحظة الأولى التي لا يمكن تخطيها إذ إننا كثيرا ما نشتري الكتاب بسبب اسم صاحبه بعدما اختبرنا نصوصه السابقة وأصبحنا جزءا من غواياتها؟ السؤال الذي تمت الإجابة عنه بالكثير من التبسيطية، وبالكثير من الاختزال: كيف لنص عظيم مثل الليالي ألاّ يظهر صاحبه ولا يتصدر الكتاب؟ ما السبب الموضوعي لذلك، هل هي الصدفة أم أن وراء ذلك قصدية حقيقية؟ سنفترض فرضيتين، الأولى وهي المسيطرة ثقافيا والسهلة، كما افترضها غيرنا، أن النص هو مكون جماعي، سافر عبر الحقب التاريخية دون أن يدعي أحد أنه كاتبه. [كتبه الكلّ، ولا أحد كتبه] المقولة تنطبق كليا على ألف ليلة وليلة. وهذا كثيرا ما يحدث في الآداب الشعبية. قد يكون ذلك صحيحا، ولا يقتصر على الثقافة العربية. لكن لا شيء يمنعنا من افتراض صيغة ثانية للتحليل، متجاوزين سهولة البياض في المحيط النشري كما حدده جيرار جنيت، وأن هناك نسخة أصلية كتبها صاحبها الذي لا نعرف اسمه، وخوفا من المنع [مصدر المحو الإرادي بسبب الخوف] قام بإغفال اسمه، وليس هذا بالأمر الجديد على الثقافة العالمية والعربية، رأينا ذلك مثلا مع محمد حسين هيكل عندما نشر رواية زينب [مناظر وأخلاق ريفية]. بدّل اسمه بفلاح مصري، عندما نشرها لأول مرة في مصر [1913] لأن الآلة الاجتماعية والمؤسسة الثقافية تعمل على محو الاسم بلا تردد. وكتب الكثير من حوارات الرواية باللهجة العامية مما يفقد النص هيبته اللغوية، وربما هيبة الشخص نفسه الذي كان ينتمي لعائلة ثقافية كبيرة؟ وهي عناصر حاسمة في تقييم النصوص وقتها. وانتظر هيكل نجاح الرواية ليضع اسمه عليها. حدثت عملية الاسترجاع في حياة الكاتب، لكننا نفترض ووفق المقاييس نفسها، أن اسم الكاتب محي إراديا أو مؤسساتيا، ومع الزمن انتفى واضمحل ولم يبق إلا النص، فالنصوص تأكل أحيانا رؤوس أصحابها. نعرف جيدا الإلياذة والأوديسة ودون كيخوتي، ولا نسأل إلا قليلا عمن كتبها. بالنسبة لألف ليلة وليلة، ظل اسم الكاتب معلقا. والبحوث الكثيرة في هذا السياق لم توصل إلا إلى المزيد من البياض، ثم إن النص خضع لتحولات كبيرة، غيرت في الكثير من مساراته. فالمؤسسة الاجتماعية والدينية والثقافية قهرية، ولها سلطانها. والناس يخافون التبعات.
من هنا، فطرح اسم كاتب الليالي، في العتبات، يحتاج حتما إلى البحث عميقا في الوثيقة وتاريخها ولو أنها حتى اليوم لم تظهر شيئا على الرغم من الجهود التي بذلت في هذا السياق. هناك طبعات مستقرة، بالخصوص طبعة بولاق التي تعتبر مرجعا حقيقيا، أو الطبعة التي تلتها والتي نسخها الشيخ سعيد علي الخصوصي وأولاده، المتداولة اليوم.
2- الجزئية الثانية من عتبات ألف ليلة [وليلة] تتعلق بالعنوان بوصفه المؤشر المباشر الجاذب للقارئ بغرابته. وهو شيء مركزي وليس أمرا ضافيا. فقد تنبه الباحثون ليس فقط لقيمته ولكن أيضا لتفرده في المجال البحثي، وقد أولوه الأهمية التي تليق به في مجالات الدرس الأدبي النصي، من أمثال جيرار جنيت، لوسان غولدمان، هنري ميتيران وغيرهم. يضاف إلى هؤلاء كلود دوشي الذي يعتبر العنوان عنصرا أساسيا من النص الكلي الذي يستبقه، ويستذكره في الوقت نفسه، فهو حاضر في البدء، وخلال السرد، بشكل استرجاعي، يعمل في النهاية كأداة وصل بين النص وقارئه. فهو بهذا المعنى “مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي” وهذا يعني أنه علامة ضمن علامات أوسع يتشكل منها مجمل العمل الفني “باعتباره نظاما ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا تراكميا بدلالات أخرى.”
يقودنا هذا نحو سؤال لا أعتقد أنه تمت دراسته، بالشكل الكافي. لماذا لم تتوقف قصة الليالي عند حدود الليلة الألف؟ العقل البشري يميل عادة نحو الأرقام المغلقة. ما جدوى الليلة الإضافية؟ ثم ماذا حدث فيها لتمييزها عن غيرها؟ أسئلة تحتاج أن نتوقف عندها. يمكننا أن نقرأ ذلك كله من خلال العناصر التالية: البنية، الدلالة، الوظيفة، والقراءة السياقية المزدوجة الداخلية والخارجية، التي تضع كل شيء في إطاره الطبيعي.
العنوان يعكس حتما تضاريس النص الخفية ويقدم بعض علاماته وغواياته ويترك الباقي للقراءة التوالدية، خالقا علاقة تفاعلية وجدلية من خلال القراءة التي تكشف عن الأسرار، كما هي الحالة الغرائبية المتعلقة بالرقم المتفرد [1001]. إن فتح الرقم يعطي ويمدد في روح القصة ولياليها التي لا تنتهي. حتى لو انتهت الليالي في الحكاية فهي مستمرة من خلال الليلة الاستثنائية المضافة، وكأن السر الكبير موجود فيها وليس في الليالي الأخرى. وهو ما يقودنا، وفقا لهذا المنطق، إلى التنبه وقراءة الليلة المضافة ومعرفة محتواها.
القصة تختتم في الليلة الواحدة بعد الألف، وهي (آخر الكتاب) كما يسميه كاتب النص أو مدونه. تبدأ كالتالي: ذهب الملك إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد. فقالت لها أختها دنيازاد: تممي لنا حكاية معروف. فقالت حبا وكرامة، إن أذن الملك بالحديث. فقال لها: قد أذنت لك بالحديث لأنني متشوق إلى سماع بقيته. قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك معروفا صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح، وإنما كان يطعمها احتسابا لوجه الله تعالى. فلما رأته ممتنعا على وصالها منشغلا بغيرها، بغضته، وغلبت عليها الغيرة، ووسوس لها إبليس أنها تأخذ الخاتم [السلطة لأنه يتحكم في المارد من خلاله] منه وتقتله وتعمل ملكة مكانه…” وكان الملك كلما نام مع إحدى محظياته، نزع الخاتم لأنه مكتوب عليه الأسماء الشريفة. وصادف أن رأى ابنه يلعب بسيفه، فقال له: “إن سيفك عظيم يا ولدي، ولكن ما نزلت به حربا، ولا قطعت به رأسا. ” عندما دخلت فاطمة العرة [زوجة الملك الأولى] على زوجها الملك معروف، بحثت عن الخاتم حتى وجدته. “نظرت إلى الخاتم وقبلته، فلم يزل (ابنه) صابرا عليها حتى لقيته (الخاتم) فقالت ها هو. التقطته وأرادت أن تخرج، فاختفى خلف الباب، فلما خرجت من الباب، نظرت إلى الخاتم وقبلته في يدها، وأرادت أن تدعكه، فرفع يده بالسيف وضربها على عنقها فزعقت زعقة واحدة، ثم وقعت مقتولة.” لكن حكاية الليلة الأخيرة، الحقيقية، تبدأ قبل ذلك بقليل، في الليلة 982، بحكايتها مستقلة تحمل عنوان: “حكاية معروف الإسكافي” وتبدأ كالتالي: “ومما يحكى أيها الملك السعيد أنه كان في مدينة مصر المحروسة، رجل إسكافي يرقع الزرابي، القديمة وكان اسمه معروف، وكان له زوجة اسمها فاطمة العرة. وما لقبوها كذلك إلا لأنها كانت فاجرة شرّانية، قليلة الحياء، كثيرة الفتن، وكانت حاكمة على زوجها في كل يوم تلعنه وتسبه ألف مرة. ويخاف من أذاها لأنه كان رجلا عاقلا يستحي على عرضه، لكنه كان فقير الحال”
ما يثير الانتباه في هذه المرأة وهذا الإسكافي هي الصفات الأخلاقية التي تقولها الليالي. كل الصفات الرذيلة مقرونة بالمرأة، وكل الصفات الحميدة تلتصق بالزوج. إن توغلا بسيطا في خطاب النص، يفضي بنا إلى إعادة النظر في أخلاقيات الشخصيات، فهي أي فاطمة العرة محكومة بحالة حقد حقيقية [حالة انتقامية حارقة] لأنه أهملها نكاحيا، وفضّل عليها المحظيات والجواري [أين العفة الأخلاقية؟]. الصفات السلبية تجعل المآلات في النهاية مقبولة، بالخصوص عملية القتل.
في النهاية، ما جدوى الليلة الأخيرة بعد الألف التي أعاد الكاتب/الكتاب، من خلالها، فتح النص من جديد على احتمالات كثيرة، ولكنها احتمالات تكاد تكون هي انغلاق الدورة التي انفتح بها نص الليالي في البداية. وكأنها تتمة للقصّة الإطار التي وضعت قصة شهريار وشهرزاد، في دائرة الضوء، عندما اكتشف خيانة زوجته وصمم على قتل كل امرأة يتزوج بها، في صباح اليوم الموالي إلى أن جاءت شهرزاد، فغيرت النظام كله. الخيانة الزوجية، منذ بداية الليالي هي شكل من أشكال التعدي على سلطة الزوج، أي الحاكم، خاتمتها الموت، وقتل كل احتمال أو شبهة قبل أن يتسعا. في الليلة 1001، كانت العبرة أخطر وأدق. فاطمة العرة تريد أن تسرق خاتم الملك معروف. خاتم الحكمة المرصع، الذي يتحكم الملك من خلاله في شؤون البلاد، إذ يكفي أن يدعكه ليخرج منه المارد. الابن يحمي والده بشكل مكشوف ليثبت لوالده أهليته، وأن سيفه لم يكن سيفا خشبيا، بلا تاريخ ولا معنى، ولكنه سيف حقيقي. فهو أهل للتوريث ولم يعد طفلا. يقتل فاطمة العرة، زوجة والده، بالضبط، في اللحظة التي تريد فيها أن تستولي على الحكم [من خلال السيطرة على الخاتم وعلى المارد]. تنتهي الليالي بدفن فاطمة العرة، أي دفن كل من يطمع في السلطة، رجلا كان أم امرأة. “فقال له ما هذا يا ولدي؟ قال يا أبي كم مرة وأنت تقول لي: إن سيفك عظيم، ولكنك ما نزلتَ به حربا، ولا قطعت به رأسا. وانا أقول لك لابد أن أقطع به عنقا مستحقا للقطع، فها أنا قد قطعت لك عنقا مستحقا للقطع. وأخبره بخبرها. ثم إنه فتش على الخاتم فلم يره. ولم يزل يفتش في أعضائها، حتى رأى يدها منطبقة عليه. فأخذه من يدها، ثم قال له: أنت ولدي بلا شك ولا ريب. أراحك الله في الدنيا والآخرة كما أرحتني، من هذه الخبيثة. ولم يكن سعيها إلا لهلاكها.”
لم تكن إضافة الليلة الأخيرة بعد الألف، عملا عبثيا. الليلة الأخيرة حددت فاطمة العرة بكل الصفات القبيحة، ولا يمكن أن ننتظر من وراء ذلك إلا إقدامها على الجريمة.
زوجة شهريار، قُتلت في القصة الإطار لأنها خانته أخلاقيا مع خادمه [عبده]. مع من هم الأدنى في السلم الاجتماعي. وفي الليلة 1001، خانت فاطمة العرة زوجها الملك معروف، لأنها طمعت في السلطة. خاتمة تبرر بوضوح لماذا وضع الكاتب/الكتاب، هذه الليلة في ميزان التمايز. الليلة الدرس. حتى ولو تمددت الليالي نحو ليال أخرى، ستظل هذه الحكمة/ الدرس، ماثلة للعيان. صحيح أن ابن الملك معروف، لم يدخل بسيفه المرصع، حربا ولم يقطع عنقا، لكنه قتل من هو أخطر، فاطمة العرة التي حاولت أن تستولي على الخاتم ومارد السلطان، فكان أن قتلت، وكان ذلك برهانا بأن الابن أصبح بالغا، ليستلم زمام الأمور.
وكأن العنوان: ألف ليلة وليلة، لم يكن كافيا، أضيفت له لاحقة توضيحية، كما في الكتب القديمة، بالخصوص مؤلفات القرون الوسطى الأوروبية التي استفادت كثيرا من النصوص العربية القديمة، واستهلالاتها الشارحة. لها وظيفة وضع القارئ في المدار العام وربما أكثر من العنوان المختزل، هذه خاصية نصية قليلا ما اهتمت بها الدراسات السردية العربية مع أن قيمتها كبيرة. [ألف ليلة وليلة، ذات الحوادث العجيبة والقصص المطربة الغريبة، لياليها غرام في غرام، وتفاصيل عشق وهيام، وحكايات ونوادر فكاهية، ولطائف وظرائف أدبية، بالصور المدهشة البديعة، من أبدع ما كان، ومناظر أعجوبة من عجائب الزمان.] هذا النص الواصف، إن كان لا يشرح العنوان ولا يقدم حلولا لفهمه، فهو يقدم محتوى النص. قوته تكمن كما يحدث اليوم، في جانبه الإشهاري الإغوائي. لا ينقصه شيء ليكون واجهة إشهارية اليوم في مطار دبي، أو مول الرياض، أو في طرقات القاهرة، أو واجهات الدوحة، أو المواقع السياحية في تونس أو مدخل الميناء القديم لطنجة، أو في شوارع وهران، بالنيونات الليلية اللماعة لدعوة القراء لاكتشاف سحر هذا النص. وهو نص مرتبط بعامل التلقي أكثر. محتواه في النهاية تسلية وليس شيئا آخر، مع أنّ النص سياسي بامتياز لأنه يتعلق بالحكم وظروفه وصراعاته الداخلية. الواجهة الإشهارية، أو اللاحقة الشارحة، لا تتخطى العتبات الأولى للنص، ولا تثير أية شبهة تأويلية من حيث الظاهر. لكنها تتبطن موقفا حقيقيا غير معلن، من الحياة، يمر سرّيا عبر لغة تكاد تكتفي ببلاغة اليومي، المناسبة لنصوص التسلية، التي لم تكن مسلية فقط. ظلت دائما تضمر عنصرا حيا أبدا، ضمن لها الحياة حتى بعد حرقها العديد من المرات، دون جدوى.
اللغة ليست فعلا ضافيا، بل هي الضامن الأول للحياة واستمرار الثقافة والأمم. نعيش من عبقرية الجاحظ، والمعري وأبي حيان حيث اللغة العالمة La Langue Savante، لكننا نعيش أيضا من عبقريات اللغات السردية الشعبية كالتغريبة الهلالية، الظاهر بيبرس، سيرة سيف بن ذي يزن التي لم تقطع علاقتها باللغة العربية ولا بنحوها، ولكنها تميزت بسرديتها البسيطة/ المعقدة في الآن، بحسب موقع القارئ. وربما كان أجل ما قام به نص ألف ليلية وليلة، أنه جعل اللغة العربية تتآلف مع طبيعة المتلقي البسيط ما دام النص يقدم تسلية قرائية، والمثقف أيضا، الذي يعلو بالنص نحو مساحات أوسع تتخطى العتبات الأولى للتلقي. ولهذا تفترض القراءات المتعددة، من التسلية العادية التي لا يشتغل فيها الفكر كثيرا، إلى السجال حول وضعية المرأة المثقفة في مجتمع تحكمه الأعراف والذكورية التي تتجلى في الكثير من اللحظات الرمزية حتى خارج سلطة شهريار، بل تعيد شهرزاد أيضا إعادة إنتاجها من خلال تقديمها لشهريار- في نهاية النص- أبناءها الثلاثة (كلهم ذكور) ليصفح عنها لأنها ارتكبت معصية فقط لأنها ولدت أنثى. لهذا يمكننا أن نقول إن طبقات هذا النص كثيرة وكبيرة وتحتاج إلى إعادة قراءة لهذا السرد المركب، الذي انتقل إلى العالمية بأن شكل مرجعية لكبار الكتاب العالميين، وظل يتيما عندنا، بل عدوا حكما عليه مرات عديدة، بالحرق. فلم نعترف به. ماذا لو جعلناه مثالنا في التخييل والكتابة والذكاء السردي والعبقرية اللغوية التي ابتدعت اللغة الثالثة (بين العامي والفصيح دون الإخلال بقواعد اللغة)، والقدرة على تحويل السياسي إلى أدبي داخل النسيج القصصي؟
ماذا لو… نحتاج فقط إلى القفز بلا مظلة في الغني اللغوي العربي بلا مسبقات.