فضاءات

كيف يعزز التعليم الحس الأمني للناشئة في مواجهة الأفكار السلبية والحركات التحريضية؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

يواجه ناشئة اليوم الكثير من المسارات الفكرية المتشعبة التي باتت ترهق فكره، وتشتت ذهنه، وتعصف بقناعاته، وتغير أمزجته، وتؤثر على ثوابته وتنتزع منه –في أكثر الأحيان- روح القيم والأخلاق، لتضعه أمام مسارات غير واضحة المعالم، ومحطات غير مكتملة البناء، ويشكل التحدي الفكري أهم التحديات التي باتت تؤثر سلبا على البناء الإنساني واستدامة التنمية ورفع سقف الهدر في الموارد، الأمر الذي وضع الحكومات والمؤسسات والأسر والأفراد أمام تبني سياسات تضمن المحافظة على البناء الفكري للنشء والحد من الترهلات التي باتت تؤثر على إنتاجية الفرد وولائه وانتمائه، وللمحافظة على مساحة أكبر من التوازنات في شخصية النشء بما لا يفقده جوهر المبادئ والثوابت في مواجهة المتغيرات الخارجة عن المألوف الإنساني والمتعارضة مع الفطرة السوية.

ومع القناعة بأن الفضاءات الإلكترونية المفتوحة ودخول المنصات الاجتماعية في عالم الشباب، وغياب الضابط القيمي فيها، سهلت من فرص انتشار الأفكار وتداول المعرفة بين الناشئة وتفاعلهم مع محتوياتها، إلا أن  ذلك لم يعد مبررا في السماح لها  بتغييب النشء عن عالمه وواقعه وإبعاده عن أولوياته الوطنية، بما يلقي على منظومات المجتمع مسؤولية إعداد الناشئة وبنائها الفكري وتأصيل حس التغيير لديها في التعامل مع التيارات الفكرية، للقناعة بأن الانغلاق ومنع تأثير هذه المكونات على البناء الفكري والنسيج الاجتماعي غير ممكن، إلا من خلال تحصين النشء وإكسابه القوة في التصدي لهذه الموجات التغييرية والأفكار التحريضية وعبر تبني أطر ومسارات ومنهجيات وبرامج وخطط تعيد إنتاج الواقع الفكري في المجتمع وتصحح ما لديه من معلومات خاطئة وأفكار غير واقعية ومفاهيم تشويهيه باتت تتخذ من الظروف الاقتصادية وقضايا الباحثين عن عمل وغيرها، أو المفاهيم المتداولة من المنظمات الدولية حول حقوق الإنسان والحريات مساحة تبريرية للخروج عن الثوابت والمبادئ وفرض واقع جديد يتجاوز الخصوصية والهوية والقيم الأصيلة في مجتمع سلطنة عمان، الأمر الذي يدعو مؤسسات التعليم خاصة وغيرها أمام مسؤولية التعاطي الواعي معها؛  فإن الدعوة لترسيخ ثقافة الأمن الفكري تستهدف الوقوف أمام حالة عدم الاستقرار التي يعيشها الناشئة وما تُعرضه منصات التواصل الاجتماعي من ترويج للعديد من القضايا الفكرية وتحسين صورتها أمام الأجيال مثل الإلحاد والنسوية وغيرها.

لذلك كانت قدرة التعليم على تأصيل البناء الفكري وتقوية السلوك الآمن في حياة النشء محطة لإعادة إنتاج الحياة في صورتها المتجددة خارج إطار الأوهام والخرافات والتخيلات السلبية والقناعات غير السارة، في إطار استشعار العلاقة التكاملية بين الأمن والتعليم، وما يمتلكه التعليم عالٍ الجودة من خلال مناهجه وبرامجه ومساراته ومنظورات الوعي وبناء المهارات وإنتاج الذات القادرة على العيش في عالم متغير وظروف صعبة، في قدرته على صناعة الإلهام في حياة النشء، وإخراجه من كومة التراكمات السلبية والأفكار الأحادية والصورة القاتمة التي يصورها لهم المؤثرون في المنصات الاجتماعية عبر منصات الترويج والداعية والإعلانات التجارية التي تتخطي فيها الضوابط والقيم والمبادئ وتتجاوز الخطوط الحمراء، وهنا يأتي دور التعليم في كسب ثقة الناشئة، وتعظيم التفكير الخلاق والمعرفة الحقة والإرادة الواعية والثقافة الصحيحة والأساليب القويمة والممارسة التأملية التي تضعهم أمام  فرصة أمان عنوانها التأمل والإدراك والبصيرة وتزودهم بمهارات المستقبل، مثل: التعامل مع الأزمات وحل المشكلات وإدارة السيناريوهات والتحليل والاستنتاج وعمليات التفكير العليان وانتزاع الرهبة والخوف من تأثير التقنيات وما تحمله من منغصات على الوجود الإنساني الآمن في ظل استخدامها  في غايات دنيئة قائمة على الابتزاز  والاحتيال الإلكتروني والإشاعات ومعاداة القيم وتشويه صورتها أمام الناشئة، ووصفها بالنمطية القاتمة كحالة مقاومة للتطوير، ونعتها بالرجعية والهروب من الواقع، فإن التعامل مع هذه الأدوات والآليات وتحقيق الرقابة والضبطية فيها لا يمكن أن يتم من خلال ممارسة تقليدية تعتمد على منع الأجيال من استخدامها للفضاءات المفتوحة أو إغلاقها عنهم بل من خلال تتبنى مبادرات ريادية قادرة على تحويل الاستجابة لهذه الأدوات لصالح الفرد وتنميته وتطوير قدراته. وهو أمر يتطلب تبني أساليب مبتكرة في التوجيه والتثقيف واعتماد إستراتيجيات عمل مستدامة تمنح الناشئة مجالاً أكبر لفهم واقعهم وإدراك متطلبات مستقبلهم والنظر إلى ما وفرته التقنية والفضاءات الإلكترونية وما أوجدته وسائط التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت والهواتف الذكية باعتبارها فرص لنمو الممارسات الأفضل والترويج للقيم والأخلاقيات الإنسانية، وإثبات القناعات في إطار من البحث عن المعرفة الصحيحة من مصادرها.

وتبقى صورة التشويهات التي باتت تؤثر في منظومة البناء الفكري وتعكس حالة من التشويه والنفوق الأخلاقي وغربة القيم وحالة الإفلاس الفكري التي ترافق النشء في تعاطيهم مع المنظور الديني والمكون الاجتماعي، وما نتج عنها من فجوة ربط النشء بقيمه وأخلاقه ومبادئه وثوابته من   تحديات انعكست على واقعه في ظل اتساع ممارسة الفكر السلبي بين مختلف فئات المجتمع، وما أوجدته من اتساع للجرائم والظواهر السلبية والممارسات غير الأخلاقية والشذوذ الجنسي والخروج عن المألوف من طباع الفطرة والعادات الحسنة، محطات تؤكد الحاجة إلى  مراجعة جادة لأساليب التوعية والتثقيف ونمط الخطاب الأبوي والديني والمؤسسي واحتواء لمحطات الفراغ التي يعيشها النشء في أحضان هذه المنصات.

وعليه فإن الحديث عن دور التعليم في تعزيز الحس الأمني وتأصيل الأمن الفكري يعيد إلى المشهد دور المدرسة كأول مؤسسات التربية التي  تكسب النشء حصانة ذاتية تقف في وجه الفكر السلبي والحركات التحريضية، وتجسد صورة عملية في فقه الناشئة القائم على الاستشعار بالمخاطر الفكرية والأمنية ومعرفة مصادرها وانتهاج بدائل وسيناريوهات أكثر ابتكارية في سبيل مواجهتها باستخدام أفضل الأساليب وأنجع الأدوات، والتنبؤ بالمواقف الأمنية المختلفة والسيطرة عليها قبل وقوعها، وعبر دورها في تعزيز الفكر الإيجابي للنشء من خلال عناصرها ومكوناتها المختلفة، ومسؤولياتها في الاهتمام بإنتاج النماذج وصناعة القدوات وبناء القدرات، والاهتمام بأساليب التوجيه القائمة على الاحتياج الفعلي المبني على الحوار والتسامح والنقد الهادف البناء، وتعزيز ثقافة الوعي والمبادرة والتجديد والتطوير، وتعزيز قيم الولاء والانتماء، وإتاحة الفرص للنشء لمزيد من الابتكار والخيال العلمي، وتعزيز الاتجاهات الإيجابية وتغيير القناعات السلبية عبر تكوين مناخ إيجابي وثقافة مدرسية نوعية واعية ومنفتحة للبيئة والعالم الآخر، وقادرة على بناء شخصيات المتعلمين من جوانبها المختلفة، واحتواء المواهب وإبرازها وتبنيها بالرعاية والاهتمام والتحفيز المستمر والتدريب المباشر والفعال واحترام ميول النشء واختياراته وخياراته المهنية ليكونوا قادرين على البناء وتحمل المسؤولية.

أخيرا يبقى التساؤل كيف يمكن توظيف التجديدات التربوية والتعليمية في البنية التعليمية والتنظيمية والهيكلية والتسويقية والتدريبية والبحثية على مستوى مؤسسات التعليم المدرسي والعالي والجامعات، والتي  شهدتها المنظومة التعليمية بسلطنة عمان خلال ما يزيد على خمسة عقود مضت من تحقيق البناء الفكر الإيجابي، وما هي الثغرات التي تحتاج إلى التركيز عليها في المرحلة القادمة في ظل ما تشهده من موجهة الأفكار والمفاهيم والظواهر السلبية؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات تضعنا اليوم أمام  الحاجة إلى جهد وطني موحد، ينطلق من رؤية عمان 2040 وأهدافها الإستراتيجية ومحاورها المعززة للهوية والقيم والأخلاق والمبادئ العمانية بحيث تؤسس في النشء مسار الأمن الفكري النابع من جوهر المبادئ والقيم التي يؤمن بها المجتمع العماني، لتشكل نبراسا ينير لأجيال الغد الطريق نحو استشراف مستقبل زاهر تنمو فيه مناخات الثقة والتعاون والتكافل وتتأصل فيه فرص التسامح والتعايش والتعددية والسلام والإنسانية لـ “مجتمع إنسانه مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام” .

Your Page Title