فضاءات

قامات مضيئة عبر “أثير”: خليل قنديل؛ أحد رواد القصة في الوطن العربي

قامات مضيئة عبر “أثير”: خليل قنديل؛ أحد رواد القصة في الوطن العربي
قامات مضيئة عبر “أثير”: خليل قنديل؛ أحد رواد القصة في الوطن العربي قامات مضيئة عبر “أثير”: خليل قنديل؛ أحد رواد القصة في الوطن العربي

 

أثير – مكتب أثير في تونس
حنين: محمد الهادي الجزيري


في هذا الشهر الفضيل.. أترحّم على روح قامة أدبية أردنية، غادرنا عام 2017 عن سنّ 65 سنة، وهو المغفور له بإذن الله خليل قنديل الذي عانى طويلا من المرض قبل أن يسلم الروح لخالقها ويرتاح الراحة الأبدية، ولسائل أن يسأل لم تكتب عنه اليوم؟ والجواب: إنّه الحنين، حنين للشخص المثقف الطيب المنشرح، وحنين لأماكن جمعنا فيها القدر وأقصد بغداد حين كنّا نحجّ إليها لحضور مربد الشعراء، ثمّ رأيت أنّه من واجبي أن أزيل عنه الغبار وألخّص مسيرته الحياتية الأدبية في هذه السطور، تخليدا لما فعله وما كتبه وأبدعه من قصص رائعة، ممّا جعل الدولة الأردنية تخصّص بعض قصصه للدراسة من قِبل طلاب المدارس الثانوية، وثمّة أشياء سيكتشفها القارئ أثناء القراءة…..

يقول خليل قنديل معرّفا بنفسه وبمنجزه السرديّ:

“أنا الابن الشرعي للواقع، وأنا من أعطى رأسه الصغير لفنتازيا الواقع في وقت مبكر؛ فالطفولة الكامنة فيّ تجعلني أرى الصباح وكأنه حادثة كونية تحدث للمرة الأولى، والمسألة لا تأخذ بتلك الجفافيّة التي يطرحها الآخرون…”.

ولد خليل قنديل -واسمه خليل محمّد العيسى- عام 1951 في مدينة إربد شمال المملكة الأردنية وكان قد أنهى الثانوية العامة سنة 1979 ثمّ بعد ذلك أقام في الإمارات العربية المتحدة حيث اشتغل سكرتيراً لاتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، وعمل محرراً ثقافياً في صحيفة “الخليج” قبل أن يصبح لاحقا مراسلاً لها، وأشرف على القسم الثقافي بصحيفة الدستور، وقد عمِل قنديل في الصحافة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، يكتب فيها مقالاته التي لم تخرج بعيداً عن مناخات السرد، يلتقط تفصيلاً تائهاً في تجربة كاتب، أو يتخيّل تكملة لحدث عاشه، وقد زان جدران حياته بهذه الكتب الخالدة:

“وشم الحذاء الثقيل” (1980)،
و”الصمت” (1990)،
و”حالات النهار” (1995)،
“عين تموز 2002 ”
“سيدة الأعشاب 2009”



وعن هذه المجموعة كتب الأستاذ إلياس محمد سعيد مقالة منشورة بصحيفة الدستور، وممّا ورد فيها:

“يحثنا خليل قنديل على الانتباه إلى أنّ لكلّ سلطة مناطق ضعفها وهشاشتها، بحيث يستطيع كلّ من تُحاول هذه السلطة أن تخضعه لجبروتها الانفلات منها..

أزعم أنّ (سيدة الأعشاب) مجموعة قصصية تقدّم لنا بحثا فريدا في تفاصيل حياتنا وجزيئاتها التي يصعب علينا رؤيتها”.

وقال عنه وزير الثقافة الأردني آنذاك في بيان صحفي: “إن الوزارة تقدر عالياً أن الراحل هو من جيل أخلص لفن القصة، وعالج كثيراً من القضايا والهموم الميثولوجية الشعبية في بلاد الشام وعموم المنطقة العربية، فضلاً عن كونه أحد الأقلام الإعلامية المهمة في صحيفة “الدستور” من خلال مقالته الأسبوعية التي ظلّت تحمل صفاته الأدبية والقصصية”.

وممّا قاله خليل قنديل في حواراته الكثيرة عن الكتابة الإبداعية كيف يراها وكيف يفهمها وقد أخلص لمفهومه ذاك ورؤيته تلك، إلى أن رحل إلى مولاه -يرحمه الله-:

“..ما من كتابة إبداعية يمكن أن تتشكل حبرا بالشكل المدهش من دون أن تكون ابنة واقعها، فنحن ككتاب لا نستل خامتنا الإبداعية من خارج هذا الكوكب، ننتمي لهذه الأرض وما تفرزه من واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي أيضا، ونبقى أسرى الضربات الموجعة لهذه الإفرازات”.

لست أدري كيف عثرت على كلمة نازفة ومؤلمة لابنه محمد عيسى، يتحدّث فيها عن خليل قنديل بحبّ جمّ واحترام كبير، اقتطعت من هذا النصّ مقطعا يصف فيه موته بطريقة من يرفض التصديق، على كلّ هذا الجرح المفتوح نُشر أيّاما بعد الرحيل:

“أزعجتني جدا تلك العناوين التي وصفتك بأنك مت وأنا أعذر كل من أختار هذه العناوين ولكنك حقا لم تمت فنحن يا أبي ينتابنا شعور أنك في سفر بعيد ونعلم أنك لن تعود ولكننا وبصوفية أجدادنا نعلم أننا آتين إليك وسنحظى بالفوز العظيم، حتى أنني أخبرتك بالأمس وأنا أقف بين قبرك وقبر “رولا” أنك لم تمت حتى أنني ما شعرت أنك تحت التراب وأنا الذي حملتك وهنا على وهن بيدي ووضعتك تحته…”

هذه خاتمة قصة لخليل قنديل بعنوان “رهان” تمّ تدريسها لطلاب الثانوية في المدارس الأردنية لمدّة 12 سنة، وتتحدّث عن حمّال كبير السنّ راهن مع نفسه والآخرين على رفع أكياس ثلاثة دفعة واحدة، ونجح في عناده:

“..شدّ الحبل ووضعه على كتفيه، أحسّ بدوخة، امتدّت يده المرتعشة لتقبض على عشرة قروش بقوّة، سار بخطوات بطيئة باتجاه أحد الجدران، تنفّس بعمق..
وفجأة أدار ظهره للسوق وسار بخطوات واهنة باتجاه البيت، وهو يصارع رغبة عارمة في البكاء..”


أريد أن أقول في نهاية هذا التدّفق الشعوري وهذا الهبوب خلف الحنين، كم كبرنا في غفلة منّا، وصار لنا راحلون نترحّم عليهم، من ضمنهم المبدع الكبير خليل قنديل، الذي عرفته في بغداد سنوات قليلة قبل نهاية الألفية الثانية، وسحنا في شوارعها وأسواقها ومتاحفها، واستمعنا إلى أجمل القصائد والقصص وتسامرنا وبكينا حين اقتراب موعد العدوان، وأروع خصلة في حكايتنا أن من رحل منّا، ترك أصدقاء يكتبون عنه وينفضون عنه الغبار، والأهمّ من كلّ ذلك، أنّ الراحلين تركوا إبداعا لا يُمحى ولا يُزيله الزمن…

Your Page Title