أثير – مكتب أثير في تونس
حاوره : محمد الهادي الجزيري
هذا رجل تونسي تعلّق قلبه بعُمان وشُغف بها، حَرصنا على محاورته بعد أن كتب قصصا حقيقية عن السلطنة، لاقت نجاحا لدى القراء، إنّه صالح البلعزي أستاذ عربية قاده الحظّ إلى معرفة العمانيين والاحتكاك بهم والعيش معهم قرابة 13 سنة، وقد ولجنا معه الحوار، وتوغّل بنا في ثنيّات الحنين والوفاء، صدقا لقد أجريت عدّة حوارات ولم يشدّني شخص كما شدّني هذا الأستاذ، متيّم بعُمان لا خوفا ولا طمعا، فالرجل أصبح اليوم متقاعدا في إحدى المدن التونسية، وليس له سوى ديدن واحد: عُمان.
ـ ..لكن وقبل كلّ شيء، لو تبوح لنا بسرّ أو بأسرار هذا الحبّ المكنون الذي تكنّه لسلطنة عمان، ما خبايا هيامك بمطلع الشمس؟
أنا بطبعي عروبي وكنت دائما مشدودا إلى مشرق شمس العروبة فوجدتُ ضالتي في عُمان أوّل حدود الوطن وأوّل النور فيه، تعلقتُ بها لأنّها بداية الأرض لأمّة وبداية تاريخ لهوية، عُمان في مخيلتي هي الأصل وهي مفتاح فَهْمِ هذه الأمة، حيث في ربوعها بزغت قيم الإنسان العربي: كرم وفتوة وشجاعة وشعر، هكذا بدأت رحلة عشق عُمان كبر واشتدّ عوده، عندما وصلتُها أستاذا منحتها صدقي ومنحني شعبها الطيب الحفاوة وجمّ المشاعر الإنسانية الصميمة، أحببتُ عمان إذْ فيها نزعتُ عن نفسي بعض الخشونة وكثير من الانفعال، فأصابني أهلها بعدوى الهدوء والحلم ولطيفِ المنطوق، ووطّنتُ نفسي على الإيمان و معرفة الحدود.. حدود الله، أحببتُ عُمان لأن شعبها يكره التعقيد ويفخر بالبساطة في المأكل والمشرب والملبس وفي المجالس، عُمان كانت سفينتي للإبحار في بحر جودة الحياة و التفاؤل والأمل…

ـ قدمت 1991 إلى السلطنة، فنودّ معرفة أولى المصافحات واللقاءات التي قمت بها أثناء اكتشافك عوالم عُمان؟
سنة 1991 كانتْ مفتاحا لكلّ خير، سبقتْها سنةُ زواجي في شهر أوت 1990، وكان بالصدفة الشهر الذي تمّ فيه دخول العراق للكويت، وبداية حرب الخليج، ذكرت هذا لأنّ في سنة 1991 كان الخوف هو المهيمن ولم يعد هناك استعداد من الأساتذة للمغامرة والذهاب للتدريس في دول الخليج، إلاّ أنّ موقفي كان مغايرا، كانت لي الشجاعة وكانت تلازمني قناعة بأن عُمان لا يمكن أبدا وإطلاقا أن تكون بلد حرب، فقدّمتُ مطلبين للإعارة إلى سلطنة عُمان، واحدا لي والثاني إلى زوجتي أستاذة انجليزية، وكانت المفاجأة المفرحة قبولنا الاثنين معا وكُنا هناك في الشرقية شمال، وفي قرية “بعد” عروسة وادي الطائيين قرية بين جبلين على سفح وادٍ عريض جحري التربة، التقينا ناسها وانبهرنا بالابتسامة على كل الوجوه.. وجوه أهل القرية من الأطفال إلى الرجال إلى النساء الأصيلات المكافحات الساعيات بين الأفلاج، منهنّ من ترعى ومنهنّ من تجلب الماء وأخريات في واحات النخيل، ما أروع هذا الاحتكاك مع الإخوة العمانيين، أوّل ما سمعت منهم قول أحد الشيوخ: “والنعم فيكم أستاذ إحنا ضيوف عندكم جيتوا تنوروا عقول أولادنا يا مراحب يا أهلا وسهلا”، هذه أوّل مصافحة وأجمل مصافحة، تبدّد على إثرها مفهوم الغربة ووجع البعد عن الوطن الأم تونس وعن الأهل هناك، بسرعة صار لنا أهل وإخوة طيبون أهل عُمان
ـ قدمت 1991 إلى السلطنة، فنودّ معرفة أولى المصافحات واللقاءات التي قمت بها أثناء اكتشافك عوالم عُمان؟
ـ تحوّلتَ إلى سلطنة عُمان في إطار إعارة.. وكانت محافظة الشرقية شمال إبراء أوّل احتكاك لك بالمجتمع، فكيف كانت التجربة؟
بمجرد وصولي إلى محافظة الشرقية شمال وجدتني في إبراء، وتجربتي فيها كانت ثرية، بدأتها في “بعد” حيث لا كهرباء وقتها ولا دكاكين كل سكان القرية يلجؤون إلى إبراء، فأركب معهم سياراتهم البيكاب الشهيرة، نعبر الوادي على موسيقى تناثر الحصى تحت عجلات السيارة، فلا نأبه للمشقة لأنّ في “سوالف” الطريق ما ينسي في كل عناء، ما ألطف حكايات رجال عُمان فيها عبق السيوح ونقاء ماء الأفلاج وروائح القهوة العمانية المضرّجة بالهيل وفي بعض الأحيان بخالص الزعفران وأنواع التمور بدءًا بالخنيزي والخلاص والمدلوكي والهلالي وغيرها، حكاياتهم عن أشجار الليمون تزيّن واحات النخيل تراقب شجرات المانجا العمانية، يحتفلون بأوّل حبّاتها تغمس في الفلفل والملح وتأكل فتنزل في البطون صحة وشفاء، هكذا حالي في إبراء منشرحٌ، شعلةٌ من نشاط حتّى أنّ طلابي بمدرسة المتنبي الثانوية، كانوا يلقبونني بالعسكري، مفعم دائما بالبحث عمّا ينفع الطالب العماني الخلوق، شديد معهم في لينٍ، ليّنٌ معهم في شدّة، صادق حتى في غضبي لأجل مصلحتهم، ولأنّ العماني يكره النفاق والتلوّن رفعوني فوق رؤوسهم ووضعتهم من جهتي في قلبي وعقلي…

ـ ثمّ أكملت الأربع سنوات الأخيرة في البريمي.. فهلا وصفت لنا التغييرات التي لاحظتها بين المكانين والمدرستين؟
ثمّ أكملت الأربع سنوات الأخيرة في البريمي.. فهلا وصفت لنا التغييرات التي لاحظتها بين المكانين والمدرستين؟
بعد إبراء انتقلت إلى البريمي، القاسم المشترك بينهما أنّ النهضة العمانية شملت كلّ مدن عُمان وأنّ البنية التحتية للمدارس متشابهة بين المدينتين كأنما هناك نظرة عادلة في التعامل بين المحافظات في عُمان، الطالب العماني في البريمي أكثر انفتاحا، ويعود ذلك إلى موقعها على حدود الإمارات، وكثرت اختلاط الناس من كلّ الجاليات ولكن تبقى عُمان هي عُمان بخصوصيات أهلها وتشبثهم بأصالتهم… ـ
لاحظت أنّك راو وقصاص من خلال صفحتك الفيسبوكية، فهل تتحفنا بحكاية حدثت لك مع الناس والتلاميذ؟
لن أنسى شقاوة التلاميذ في مدرسة عزّان الثانوية للبنين بالبريمي، فهؤلاء إذا اتفق طلبة قِسم على أخذ نصيب من الراحة، فالحلّ جاهز عندهم في كلّ مرّة يبتكرون طريقة ناجعة فعّالة، تضمن الفرار الجماعي من قاعة الدرس مع العلم أنّه لكلّ صفّ دراسي قاعة خاصة به، فالتلميذ ثابت والأستاذ هو من يتحرّك بين القاعات، ما حصل معي أن أحضر تلاميذ أحد الصفوف بيضا متعفّنا نتنَ الرائحة إلى درجة يصيبك فيها الدوار، فإذا بجلبة وهرج أمام القاعة سألتُ عن السبب فلم يجبني أحدٌ، دخلت القاعة ومن خلفي علت الضحكات: “أستاذ ما فيش درس اليوم، حد كسر بيض متعفن ولازم غسل أرضية القاعة”، فهمتُ الخطة.. غادرتُ المكان مقطوع الأنفاس لهول ما شممتُ، بقيتُ لأكثر من أسبوع وأنا في شبه عزوف عن الأكل، ولكن تلك هي شقاوة الأطفال.. يفاجئوننا في كلّ مرة بطرفة تكسر روتين الدرس..
لاحظت أنّك راو وقصاص من خلال صفحتك الفيسبوكية، فهل تتحفنا بحكاية حدثت لك مع الناس والتلاميذ؟
ـ نشرنا لك قبل هذا الحوار قصة في أثير، فما حكاية القهوة التي ذكرتَ.. وهل ما زلت مدمنا عليها إلى حدّ الآن؟
نشرنا لك قبل هذا الحوار قصة في أثير، فما حكاية القهوة التي ذكرتَ.. وهل ما زلت مدمنا عليها إلى حدّ الآن؟
عن القهوة العمانية.. أحدثك علاقتي بها تذكرني بعلاقة جميل بن معمر ببثينة، أوّل ما قاد المودة بينهما بوادي بغيض سباب وخصام، أفرز حبّا عذريا شغل الناس وملأ الآفاق، كذلك أنا في البداية، عفتُ القهوة العمانية لمرارتها ولكن بعد ذلك أسرتني هذه المرارة وأوقعتني في فخاخ الإدمان عليها، وإلى اليوم هي مؤنستي في كل جلسة وصار ضيوفي يأتون إلى مجلسي في مدينة “نابل” خصيصا لشرب القهوة العمانية البديعة…
ـ كنت بمعية زوجتك المصون تمارسان مهنة التدريس على مدى 13 سنة في عُمان، فهلا تحدّثنا ولو قليلا عن أوقات عملكما وهل وفقتما في التنسيق بينكما، خصوصا بعد أن رزقكما الله ثلاث بنات؟
كنت بمعية زوجتك المصون تمارسان مهنة التدريس على مدى 13 سنة في عُمان، فهلا تحدّثنا ولو قليلا عن أوقات عملكما وهل وفقتما في التنسيق بينكما، خصوصا بعد أن رزقكما الله ثلاث بنات؟
في عُمان لا شيء صعب، ساعدنا في ذلك الزمن المدرسي من السابعة والنصف صباحا إلى الثانية ظهرا، وكنتُ وزوجتي نعمل في مدرستين صباحيتين، نغادر المنزل لنترك البنات عند عائلة إيرانية، تهتم بأبناء المعلمين ولها سيارة تؤمّن نقل الأطفال من وإلى بيوتهم، وتكون العودة بعد الساعة الثانية ظهرا إلى أن دخلن المدرسة الواحدة تلو الأخرى وصار النقل المدرسي العماني والمجاني هو من يتكفل بالطالبات…
ـ كلمة الختام..
سأبقى أردّدُ اسم عُمان.. مادام في القلب نبض وفي العروق دم يسيل، لن أنسى فضل سنوات قضيتها هناك، أسستُ لي فيها أسرة وبنيتُ لي في تونس بيتا أحجاره من تعبنا وجهدنا وصدقنا، أنا وزوجتي في تعليم الجيل الذهبي في عُمان الحداثة، أغلبهم الآن يتقلّدون مناصب في الدولة، يصنعون غدا أفضل.. لوطن يستحقّ الأجمل …