أثير – الروائي الأردني جلال برجس
إيقاع أول
لم تكن بعد مكانا مأهولا بالبيوت حينما قرر جدي أن يستغني عن زمن الحل والترحال، ويذهب إلى إغراءات الاستقرار. اختار تلة تشرف على واد تمتد بعدَه أرض حمراء التربة إلى أن تصل (مادبا) المدينة التي تعربشت بيوتُها جبلا صعد من رأسه صليب وهلال، يحوم حولهما سرب من الحَمام. بني البيت من حجارة ألف بينها الطين بأمانة طويلة الأمد. جدرانه سميكة، نوافذه واسعة، وحوله ظل الأشجار وهوائها، وسور، وبئر للماء، وحظائر للأغنام والأبقار، وأقنة للطيور. ومنذ ذلك الحين توالت البيوت في القرية، بمسافات تفصلها من دون أن تلغي مسافة القلب؛ فولد الوعي، والإحساس في هذه القرية، التي كنت أرى في صباحاتها الطريةِ النساء يُخرجن الخبز من الطوابين طازجا كقمر الحصادين، وأرى الرعاة يسوقون أغنامهم إلى المراعي، وحداءاتُهم تسبقهم كدليل وفيّ، وكنت أرى جدي يحوم حول أشجار العنب والرمان والتين والزيتون مبتهجا بالاخضرار، وأرى أمي تنثر للدجاج الشعير فرحة بولادة نهار جديد. وأرى الأطفال يشرعون باب نهارهم باللعب، يركبون العصي حلما بالطيران، ويصنعون بيوتا صغيرة من الحجارة والمخلفات، حلما بفكرة البيت. كنت أرى الحياة طازجة شهية كابتسامة عروس في صبيحة أول يوم في بيتها الجديد. بخلاف ما أرى الآن من وحشة الهندسة، التي لا يعرف كثير من دارسيها معنى العمارة وفقهه.
البيت الأول (بيتنا)
“عادة ما يحدث التعلق بالأشياء مع بداياتها الطازجة”
حدث ذلك لي في صباح ربيعي من أواخر السبعينيات، حينما مرّت أشعة الشمس عبر النافذة العريضة لبيتنا القروي العتيق ذي الجدران السميكة، وارتطمت بأرضية المكان محدثة بقعة ضوء بقيت عبرها تتراقص كائنات صغيرة تؤدي مزاجا موسيقيا لا يسمعه إلا من تعلم الإنصات باكرا. تارة كنت أراقب شلال الضوء واتساع صدر النافذة له، وأراقب ذرات الغبار تارة أخرى، وكأن ما يجري، محض لحظة خلق أولى. وعبر نوافذ الغرفة الثلاث بقي الضوء يتنقل ويرسم على أرض الغرفة ملامح النهار، إلى أن نزعت الشمس -كأنها برتقالة-قشرتها الذهبية، وألقت ببدنها في فم المغيب؛ فاشتعلت الفوانيس تطرد الظلمة في بيت منذ وعيت على نفسي فيه والدفء لا يتعجل بالرحيل، وبرودته في الصيف لا تخذل من فر من شموس آب الملتهبة.
البيت الثاني (بيت جدي)
وانهمر المطر. أخذت السماء تهيل الماء، كأن العطش بات على مقربة من أن يقوض آخر نفس في بدن الحياة.
رحت أركض تحت مزاريب البيت وهي تنشج الماء محملا ببقايا (الزبيب) الذي نُشر في الصيف على سطح الدار. أملأ كفي من الماء، وأنثره في الهواء كما كان يفعل جدي حينما يرمي البذار في الحقل. أقف على زاوية السور، وأرفع رأسي عاليا، وفمي ينفتح نحو السماء التي ُبتر شريانها في تلك اللحظة، وأشهق بالماء، وفي مسامعي رهط كمنجات يصحن عاليا، ويشعلن في روحي حُمى الرست والبيات وشهوة الغناء. أهبط من السور وأقف بباب (الديوان) بينما جدي قرب (الكانون) الذي بدى الجمر فيه كعيون جنيات رأيتهن في المنام، يمنح المكان دفئا يعوزني الآن. أتعرى من ملابسي المبتلة، وألوذ بـ(فروة) جدي بينما البخار يتصاعد من ملابسي كفكرة لا تخرج إلا أمام النار.
البيت الثالث
(بيت الشعر)
ارتحلت جدتي والأعمام مع الأغنام إلى مشارق مادبا، كان الشتاء على مقربة من الانتهاء، والربيع في أول خطواته. كنت آنذاك في إجازة قصيرة من الدراسة، فحملت ما أحتاجه واتجهت شرقا. حينما وصلت رأيت بيت الشعر المصنوع من شعر الماعز، قد نصب بعيدا عن الوادي ليأمن ساكنوه السيل. وقربه استدار سياج معدني فيه خراف صغيرة لم تلتحق بالقطيع. وتكدس الحطب حوله.
حينما حل المساء وعاد الرعاة بالأغنام ونهضت الفوانيس تقاوم العتمة، جاء المطر. كان غزيرا ومُداهما. تفقدنا الأغنام وزودنا البيت بالمزيد من الحطب. وفي الداخل تحلقنا حول حفرة النار. كنت أراقب جوانب البيت وسقفه وبي خشية والرعود تزعق في المدى، والبروق تشج صدر الأفق. لكن ما من شيء حدث؛ فالقنوات التي شيدت حول البيت أخذت الماء إلى الوادي والماء يهدر فيه، وفتحات البيت قد التأمت وما نفذ إلى الداخل شيء من الماء، وحفرة النار الصغيرة كانت كفيلة بأن تشيع الدفء في الداخل.
صباحا أشرقت الشمس على الكائنات وكأن ليلة مجنونة مثل تلك لم تحدث؛ فتدفق الضوء، والدفء من كل جوانب البيت، واشتعلت الحياة ببدن الكائنات.