أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة
مع التقدير لجهود وزارة التربية والتعليم بشأن تنفيذ مؤتمر مجالس أولياء الأمور “شراكة مجتمعية وأدوار ريادية في التعليم”، إلا أننا نؤكد أن معادلة القوة في نجاح مسار الشراكة المجتمعية في التعليم وتفعيل برامج العمل يجب أن يبدأ من المدرسة وبيئة التعليم والموقف الصفي، فهي التجسيد العملي لمفهوم الشراكة وقدرته على تحقيق أهدافه، يبدأ من ميدان الخبرة والتجربة وعرصات العطاء والإنتاج والمنافسة كونها المحدد الرئيسي لشكل هذه العلاقة وقدرتها على صناعة الفارق وإحداث تأثير في حياة الطالب الشريك الإستراتيجي في عمليات التعليم والتعلم، ولكن يبدوا أن ما أشارت إليه نظريات التعلم حول مفهوم الشراكة المجتمعية في التعليم، وما أكدته مسارات التعليم في سلطنة عمان حتى وقت قريب من أهمية العلاقة بين المدرسة والأسرة، وأهمية تقوية جوانب الاتصال بين المعلمين وأولياء الأمور لخدمة وتحقيق مصالح الطلبة التعليمية والدراسية والسلوكية، وأهمية وقوف ولي الأمر مع المعلم لمساعدة الطلبة في رفع مستوى تحصيلهم الدراسي، تم اختزاله عنوة، ولم يعد اليوم يقرأ بصورة عملية تجسّد حضوره في قاموس المدارس، بقدر ما هو تنظير إعلامي وظاهرة صوتية يفتقر لواقعتيه وروحه التواصلية، فهل يراد من الأمر تغييب ولي الأمر عن المدارس وإبعاده عن فهم ومعرفة ما يدور بداخلها من عمليات التعليم والتعلم وممارسات وثقافات وسلوكيات؟ وهل ما اتخذ من إجراءات تمنع أولياء الأمور من القدوم إلى المدرسة للسؤال عن أبنائهم إلا في حالات ضيقة جدا تحددها المدرسة فقط؟ وماذا يعني لولي الأمر والطالب ملتقى فصلي واحد تنفذه المدرسة، هل سيصنع الفارق ويحقق الهدف؟ وهل عُطّلت مجالس الآباء والأمهات والمعلمين من المدارس عن عملها بهذه الأفكار الأحادية ولم يعد لها حضور في واقع عمل المدارس؟
وإذا كانت أدبيات التعليم والدراسات والبحوث وغيرها حتى فترة قريبة تلقي باللوم على ولي الأمر في غيابه عن المدرسة كأحد أسباب تدني مستوى التحصيل الدراسي للعديد من الطلبة أو عدم قدرة المدارس على خلق تواصل فعال مع الأسرة نظرا لعدم استجابة الآخر (ولي الأمر) لذلك، وتصرخ المدارس من انقطاع خيوط التواصل والترابط بين المدرسة وأولياء الأمور الأمر الذي أسهم في زيادة الفاقد التعليم والفجوة لضعف التكامل والتناغم الفكري الذي يؤدي إلى تحسين أداء الطالب والإنفاق على نطاق مشتركة للعمل في سبيل علاج تدني التحصيل الدراسي له أو معالجة مشكلة التأخر الدراسي أو ضعف المشاركة الصفية وغيرها، الأمر الذي جعل من أهمية وجود مجالس الآباء والأمهات ضرورة تعليمية ومجتمعية حنى تنافست وتسابقت المدارس لتوفير بيئة أفضل لهذا اللقاء المتكرر والمثري وأنتجت المدارس أساليب تحفيزية تشجيعا لأولياء الأمور للقدوم إلى المدارس والسؤال عن أبنائهم؟
هذه الصورة النضالية الإيجابية كما يظهر أنها لم تُرح بعض القائمين على أمر التعليم، ليأتي التوجه إجحافا لهذا الحق وتملصا من هذا المسؤولية، وركونا إلى حالة عدم الاهتمام التي التزمها بعض أولياء الأمور في السؤال عن أبنائهم، فإن لا يأتي ولي الأمر للمدرسة إلا بدعوة منها فقط، وليس له أن يسأل عن ابنه او ابنته وتحصيله الدراسي بالمرور على الصفوف كما كان يفعل أولياء الامور -زمن الطيبين- ويوم أن كانت المدرسة حياة للمجتمع وإشعاعه ونوره الذي يضيء جنبات المكان، تنويرا وتثقيفا واحتواء، تلكم الصورة النموذجية من التواصل التعليمي الأسري بدأت تختفي بشكل تدريجي لتسقط الملتقيات التي تنعقد في الفصل الدراسي مرة واحدة فقط لتكون الفرصة الوحيدة لأولياء الأمور -والتي لا خيارات أخرى فيها- منصة تواصلية لأولياء الأمور بالمدرسة والسؤال عن أبنائهم واللقاء بالمعلمين.
ومع التقدير لهذا التوجه -لكنه غير قادر على سبر الحقيقة والدخول في عمق الحدث بالإنصات والاستماع الذي يجمع ولي الامر بالمعلم، وكلمات الشكر والتقدير التي كانت تتناثر كحبات اللؤلؤ من أولياء الأمر لمن يعلم أبنائهم تقديرا وتبجيلا واحتراما “قم للمعلم وفه التبجيلا”، فيوم واحد قد لا يحمل الهاجس والذعور ذاته كما قد لا يحقق تلك الروح التشاركية بين ولي الأمر والمعلم لوضع خطة عمل قادمة يصنعها الاثنان معا في غرفة الضيوف لتصبح لهما شرعة منهاجا من أجل رفع المستوى التحصيلي للطالب والدور المعقود على البيت في تنفيذ مقتضيات هذه الخطة، فلن يقدم هذا الملتقى الوحيد الحل والنموذج والخطة ويمنح الفرص لعمل مشترك، والتعويل عليه قد لا يكون ممكنا، فقد يتقاطع مع ظروف أولياء الأمور لأسباب مختلفة، الأمر الذي لا يجد فيه ولي الأمر فرصة للذهاب لحضور هذا الملتقى سواء كأب أو أم، وقد يحصل وهذا واقع فعلا أن يكون المعلم في ظرف منعه من الوصول إلى المدرسة ذلك اليوم بما لا يعطي ولي الأمر صورة حقيقية عن أداء ابنه أو ابنته لعدم وجود المعلم أو المعلمة، وهكذا تبرز حالة التراخي وعدم الاهتمام وحالة الانسحاب من المشهد التعليمي التي يجد فيها بعض أولياء الأمور فرصة للهروب من مسؤولياتهم التعليمية وكذا الممارسين التعليمين.
في تقديرنا الشخصي مع التأكيد على أهمية التقنين والضبطية في هذه المسألة خاصة في كثرة تردد أولياء الأمور على المدارس ومع قد يحصل من إشكاليات وتباينات وتناقضات في الفهم، والذي تجد فيه المدارس بعض التخوف في ظل التقنيات الحديثة والمنصات الاجتماعية من سلوك التشهير بالمدرسة وما يحصل من البعض من تصوير المشهد التعليمي ووصف الواقع التدريسي بصورة شخصية، وما قد يترتب على ذلك من تجاوزات، إلا أن ذلك لا يصنع من المدارس مبررا لإخفاء الواقع عن ولي الأمر وكتم الصورة الحقيقية للتفاعلات الحاصلة في المدارس، ولعل ما أشرت إليه في إحدى مقالاتي بأن الرقابة على المدارس أصبحت ضرورة، إنما هو بسبب هذا التسطيح في دور ولي الأمر ومحاولة إبعاده عن المشهد التعليمي وإخفائه عما يحصل في المدارس من ممارسات وثقافات وتباينات وإنتاج، ويبدوا في الوقت نفسه أن المدارس اعتمدت على حضورها في المنصات الاجتماعية كبديل لقدوم ولي الأمر إلى المدرسة رغم أن واقع عمل المدارس في هذه المنصات يبرز حالة من عدم التفاعل مع حساباتها من قبل أولياء الأمور الطلبة، والاستجابات في الغالب الأعم للمدارس قليلة جدا، والتفاعل مع مستجدات المدارس يكاد لا يذكر –إلا قليلا منها-، وبالتالي يعيش واقع العمل التعليمي اليوم حالة من الفجوة غير المبررة والتي قد يكون من بين أسبابها أن ولي الأمر أصبح غير مرغوبا به في المدارس، ويتحسس أولياء الأمور من عدم السماح لهم بزيارة المدرسة والتعرف على تحصيل ابنه وابنته في الواقع ليضعه أمام عدم قبول دعوته بالتواصل والتفاعل عبر العالم الافتراضي وحسابات المدارس في المنصات التواصلية التي قد لا تعكس صورة حقيقية عن ما يدور في الواقع، وإذا كانت إدارة المدرسة والكادر التدريسي غير مستعدين لاستقباله والترحيب فيه وتسجيله ضمن أولياء الأمور المتفاعلين مع المدرسة بل ودعوته لحضور طابور الصباح ليقدم لأبنائه الطلبة بعض النصائح والتوجيهات والرسائل التي تدعوهم إلى التمسك بقيمهم ومبادئهم وهويتهم في مقابل اهتمامهم بالتحصيل الدراسي والمذاكرة والمطالعة وغيرها من الأمور التي تخدم الطلبة، فهو بالتالي غير مستعد لأن يقبل التواصل غير المباشر وعبر المنصات أيا كان وسيلتها.
عليه نعتقد بأهمية إعادة توجيه هذا المسار وتصحيحه وتقييم نتائج هذا التوجه ومدى قدرته على تحقيق تفاعل نشط مع أولياء الأمور والمعلمين والبيت والمدرسة وما إذا كان قد أنتج فرصا تحسينية أوسع للشراكة بين البيت والمدرسة، وما المعالجات التي يجب أن تتم في هذا الشأن فمن جهة المحافظة على تحفظ المدارس في قدوم أولياء الأمور وفي الوقت نفسه منح ولي الأمر الفرصة الأوسع ورفع سقف شغف زيارته للمدرسة، وعبر تبني إجراءات تنظيمية بسحب الهاتف المحمول عنه في بوابة الأمن بالمدرسة، كإجراء وقائي لمنعه من استخدام الهاتف داخل المدرسة بالتصوير أو غيره بما يضر سمعة المدرسة أو المعلمين أو الطلبة، الأمر الذي سيكون له حضوره النوعي في مشاركة ولي الأمر أفكاره بصورة متدرجة، فقد يقدم أولياء الأمور الأفكار النوعية للمدرسة عندما يكون التواصل فرديا أكثر من تقديمهم له في الملتقى، والذي لا يكفي الوقت فيه للتعرف على الطالب نظرا لأن المعلم مطلوب منه أن يجيب عن تساؤلات أكثر من 30 طالبا أحيانا يمثلون طلبة الفصل.
أخيرا نؤكد على أن نقل هذا المفهوم من المدرسة إلى الأبراج العاجية قد لا يعطي صورة حقيقية عما يحصل في ميدان التعليم، ولا يقدم حالة واقعية للطالب في المدارس، إذ التجربة يجب أن تبدأ في الميدان والتأصيل الفعلي والممارسة يجب أن تنطلق من شعور ولي الأمر بهذا التقدير والترحيب بدخوله المدرسة، كما لن تكون مجموعات الواتسأب ولا منصات التواصل الاجتماعي كتوتير وفيسبوك وإنستاغرام والموقع الإلكتروني للمدرسة بديلا لهذه الزيارات المباشرة، ولن يؤدي الغرض نفسه، بما تحمله اللقاءات المباشرة من أبعاد نفسية واجتماعية وفرية وثقافية، وتؤصله من روح الحوار وشفافية التواصل والتعرف عن قرب على واقع تعلم الأبناء في ظل بعض الخصوصيات التي لا يمكن الإفصاح عنها عبر التواصل الجماعي أو الملتقيات المدرسية الشحيحة أو المؤتمر السنوي، تساؤلات ونقاشات يجب أن تطال هذا الموضوع، للوصول إلى نقاط مشتركة وارضيات عمل تتفاعل فيها الرؤى وتنضج خلالها الأفكار، بما يحفظ للطالب حقه التعليمي، ولولي الأمر مسؤولية المتابعة والسؤال عن تعلم ابنه وابنته وتحصيلهما، وواجب المدرسة في وضع الجميع في صورة ما يحدث في ظل تحولات بات يعيشها الطالب بدأت تظهر نواتجها في ظاهرة التنمر والفاقد التعليمي والممارسة اليومية المتكررة، والافتقار إلى مهارات الحياة والعمل وغيرها من الجوانب التي أفقدت الطالب ثقته بالمدرسة والتعليم.