الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: التّوْطِينُ الرِّوائِي بِذَاكرَةٍ أخْرَى

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

الرواية أصبحت سيدة المشهد الأدبي العالمي. كوكبة الأسماء التي تمر عبرها اليوم، لا تعد ولا تُحصى. الجوائز العالمية التي تتحكم في قطاع واسع من المقروئية، لا تنكر فضل هذا الجنس مطلقا. عربيا، لم تشذ الممارسة الروائية عن هذه الحالة التي تكاد تكون غير طبيعية، لأنها طحنت في طريقها كل أو معظم الأجناس الأخرى. لهذا، لا نقاش، في كون نجيب محفوظ يشكل وحده ذاكرة روائية عربية كبيرة بمجمل نتاجاته. فقد رسخ الرواية في النموذج المثاقفاتي المتسيد على المسارات الروائية اليوم. صحيح أن نجيب محفوظ انتقل بالفعل الروائي في أواخر عمره من المثاقفة acculturation إلى التثاقف interculturalité مع روايات مثل “ليالي ألف ليلة”، و”ملحمة الحرافيش” وغيرهما، لكن نصوصه الترسيخية الأساسية ظلت في أفق النص الزولي (إميل زولا) الذي تأثر به بعمق. ومع ذلك، فقد أصبح الجنس الروائي العربي مع نجيب محفوظ حقيقة موضوعية. وكل الجيل الذي سار في أثره، وفي أثر القطيعات السردية التي أحدثها في سرده، ظل وفياً لمنطلقات جوهر محفوظ من أمثال حنا مينة، والطيب صالح، والطاهر طار، وعبد الحميد بن هدوقة، وصنع الله إبراهيم، وخناثة بنونة، وعبد الرحمن الربيعي، وعبد الرحمن منيف، ونبيل سليمان، وأسماء أخرى لم تخرج عن المدارات التي بنى عليها نجيب محفوظ مشروعه الكبير. يتفرد في هذا السياق مجموعة أدباء وهم قلة، طرحوا مشكلة النموذج بحثا عن خروج جزئي من النمطية الأوروبية المترسخة. أولهم محمود المسعدي الذي حاول في روايته “حدث أبو هريرة” أن يستعيد التقاليد السردية العربية، ويخرج بطله من عالم الثبات والتقاليد المغلقة في مكة، نحو عالم الحرية والحياة، بالخصوص بعد التقائه بريحانة التي غيرت فيه كل شيء بما في ذلك علاقته بجسده الذي ظل ينتظر الموت لينعم به أخروياً. حاول المسعدي استرجاع التقاليد السردية العربية القديمة، لكن المثاقفة كانت أقوى من سلطان التثاقف، فلم يكتب لتجربته الاستمرار والنجاح.

الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تجربة جمال الغيطاني في الزيني بركات التي عاد فيها بدوره إلى نص مرجعي عربي مقتفيا طرائقه السردية، تاريخ ابن إياس، “بدائع الزهور”( )، فجسد لنا صورة شبيهة بصور اليوم لكبير البصاصين الشهاب الأعظم زكريا بن راضي ووالي الحسبة الزيني بركات. لكن هنا أيضاً لم تتطور التجربة لتصبح حقيقة مرئية ووازنة في المشهد الثقافي العربي، على الرغم من نية استعادة السرديات العربية المنسية، وظلت محصورة في دائرة ضيقة، بل أن الكاتب نفسه تخلى عنها لصالح النموذج المحفوظي العام. وقد يقول قائل الرواية الأمريكية الجنوبية (اللاتينية) مرت بنفس المسالك في تأثرها بالرواية الأوروبية. صحيح، لكن الفرق الوحيد والعميق، هو أن رواية أمريكا الجنوبية بنت مشروعها بالعودة إلى ذاكرتها الجمعية التي محاها الاستعمار، فقد تم استرجاعها من غياهب الماضي المقتول الذي بقي محفوظا في الذاكرة الجمعية. فقد تم تجميع الحكايات الهندية القديمة ووضعها في متناول القارئ. ومن لا عقلانية هذا التراث، أي من سحره، بنت تاريخها الروائي الكلي الذي شيده أستورياس قبل ماركيز بكثير. عندنا النموذجان الكبيران المؤسسان للرواية العربية، هيكل ومحفوظ، اعتبرا النموذج الغربي مطلقا. بينما الأمريكيون الجنوبيون قرأوا التاريخ الغربي من موقع الفعل التثاقفي وليس المثاقفاتي، فاستعادوا ذاكرتهم ووجدانهم المسروقين وأضافوا له من عبقريتهم. وأعادوا البناء، حتى ولو كان ذلك داخل اغتراب لغوي قسري بعد اندثار اللغات الهندية وعوضتها الإسبانية والبرتغالية، وفق المعطيات الثقافية المحلية ضمن منظور كتابي كلي اسمه الواقعية السحرية. أي الواقعية المحلية التي يطير فيها البشر خارج نظام العقلنة الأوروبية. ماركيز لا يستغرب طيران بعض شخصياته لأنه في الثقافة الشعبية العامة يحدث ذلك. الغرابة عند الأوروبي وليس عند الأمريكي الجنوبي.

1- العالم واحد/ لا حاجة للأب العربي؟
عندما نقرأ حوارات الكتاب العرب من جيل ما بعد محفوظ: بمن تأثرتم؟ تأتي الاجابات سريعة، ويغيب فيها المؤثر العربي: ماركيز، موراكامي، فارغاس يوسا، وغيرهم. لم يغلق الجيل الجديد على نفسه بأسئلة الأجيال السابقة المرهقة التي لا تملك أجوبة مقنعة. منذ البداية أختار الشباب آباء أجانب، بعد قتل الأب العربي لأنه أصلاً مقتول لأن جهده ظل تحت مظلة كولونيالية تتجاوز إرادته. جيل شديد الحساسية لكل ما يحيط بعصره. رهانه أن يكتب رواية تندرج داخل النسق الأدبي الإنساني وليس العربي فقط، تقطع مع العلاقة المرضية بالأيديولوجية. يمكن تسجيل العديد من الأسماء التي أصبحت اليوم كبيرة بغنى تجربتها: أمير تاج السر، إلياس خوري، رجاء عالم، علاء مشذوب، عبده خال، علاء الأسواني، إبراهيم نصر الله، إبراهيم عبد المجيد، سميحة خريس، ليلى الأطرش، ابن سالم حميش، شكري المبخوت، وغيرهم. تخلى هذا الجيل نهائياً عن يقينيات الأجيال المتعاقبة في ظل حياة عربية لم تعد تضمن فسحات كبيرة ومقروئية شروطها تكثر وحاجاتها الجديدة تترسخ. صاحبَ هذا الجيل الكثير من الخيبات الكبرى، فسجلها بحثاً عن مجتمع آخر أكثر إنسانية وديمقراطية وجمالاً. تجاوز الدكتاتوريات التي خاضت ضدها الأجيال السابقة حربا ضروسا دون التمكن من إسقاطها. واعتمد هذا الجيل من الروائيين الجدد على المشكلات الكبرى التي تخترق المجتمعات العربية بقوة، مثل مشكلات الهويات، الحروب، الحب، الأحقاد، الخير والشر، المسخ الإرهابي، الهويات المتقاتلة، الثنائيات التي تصنع الذاكرة الإنسانية أمام تاريخها العميق. جيل كتابي وليس عمري، وجد نفسه في خضم المعضلات الإنسانية الكبيرة. الأمر الذي أعطى خصوصية عالية لنصوصه، قبل أن يلتحق به جيل الحاضر الصعب، خالد خليفة، سينان أنطون، أحمد سعداوي، عمارة لخوص، سعود السنعوسي، بثينة العيسى، محمد علواني، حجي جابر، لينا هويان الحسن، حمور زيادة وغيرهم كثيرون. هم لم يعيدوا الواقعية إلى الواجهة لكنهم استعانوا بواقعية جديدة جعلت قضاياهم المعالجة ترتسم في أفق إنساني واسع، بما في ذلك تناول القضية الفلسطينية التي انتفت فيها الخطابات الوثوقية. وربما اتسم عصرها بالتعقد كالهويات، الحرب، الحب، الإنسان في مواجهة مستحيلات العصر الوجودية مثل التاريخ: من نحن وإلى أين نتجه في عالم لم يعد رحيما كما كان.


عالم عربي أسس في مجمله على تاريخ كاذب. وكان على رواية هذا الجيل والذي سبقه أيضا أن تعيد تناول المسالة التاريخية لا بوصفها تاريخاً جديداً يقع خارج التجاذبات السياسية والإيديولوجية، ولكن لتشييد عالم آخر خارج اليقين التاريخي الواهم وداخل عالم التخييل. لكن هذا الجهد اصطدم من جهته بتاريخ مقولب ممنوع على الرواية الخوض فيه بحرية وكأن أي لمس للتاريخ هو مس بقداسة الأشياء، مع أنه لا قداسة فيما ينجزه البشر من أفعال. هذا التصور انجر عليه منع الكثير من الروايات التي لامست التاريخ في أفق الأدب والرواية وليس الوفاء للتاريخ الذي يحتاج هو في أصله إلى مراجعة حقيقية. كل مجتمعاتنا العربية تنام في كذبة التاريخ الذي كتب في أفق أيديولوجي أو ديني، أي بالاستناد إلى اليقينيات، وننسى أن أي تاريخ كيفما كان، وحيثما كانت وجهته، فهو تاريخ يكتبه المنتصر ولا أحد آخر غير المنتصر. ولنا أن نـتأمل الوضع العالمي في علاقته بالتاريخ كيف سيكون لو تغير المنتصر، الحلفاء، ستتغير رؤية التاريخ.

وسيكتب المنتصر انتصاراته ويمعن في إذلال المهزوم. لهذا ستكون علاقة الروائي بالتاريخ مختلفة جذرياً، فهو في النهاية يبحث عن الحقيقة، حقيقته هو التي يتأسس عليها منجزه الأدبي الروائي.

Your Page Title