فضاءات

الروائي الأردني جلال برجس يكتب مقالا عبر “أثير” عن الرواية العربية والإرهاب

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي الأردني جلال برجس

رسخت الرواية – في المفهوم العام – ذاتها كأهم الأشكال الأدبية تداولا بين القراء، في مختلف أنحاء العالم، لأنها عبرت عن واقع الشعوب وأحلامهم وطموحاتهم، وعوالمهم الجوانية، فصار جزء كبير منها دليل مهم للقارئ يصور واقعه، وجزء آخر صار يستشرف مستقبله. لذلك يمكننا القول أن الرواية – رغم انحيازها للبناء الفني – أصبحت منذ زمن قادرة على تشكيل رأي عام حول قضية ما، وصار بإمكانها أيضا إلقاء الضوء على كثير من القضايا وكشف أسرارها؛ فهي بعناصرها وأساليبها ولغتها، سريعة التأثير في وعي القارئ، وخاصة في هذه الأيام التي ارتفعت فيها أسهمها لدى القراء مقابل باقي الأصناف الأدبية الأخرى.
وقد تناولت الرواية منذ نشأتها العديد من المواضيع التي تهم القارئ، على الصعيد العاطفي، والسياسي، والتاريخي، وفيما يتعلق بالحروب والكوارث الطبيعية، والإنسانية. وعاينت أيضا الديانات وعلاقة الناس بها، وكسرَ كثير من الروائيون تابو المحرمات في هذا المضمار، وبلوروا وجهات نظرهم عبر الحكايات التي صاغوها. وتطرقت الرواية للإرهاب الذي لا يتعلق فقط بالمنظمات الدينية المتطرفة، إنما يشمل أيضا الإرهاب الاجتماعي، والديني، والسياسي، والفكري، وحتى الثقافي.


فقد تداول القراء روايات تعاين الإرهاب الاجتماعي عبر حكايات على سبيل المثال لنساء لم يمتلكن حريتهن في مجتمعات لا تعتني بمفهوم الحريات العامة.
منذ أن منيت المنطقة العربية بتلك الزعزعات الأمنية، نتيجة ولادة عدد من المنظمات الإرهابية المتطرفة، بدأت الرواية العربية تستلهم هذه الموضوعة لتكون محورا أساسيا يغلب على النتاج الروائي العربي، لكن إلى أي مدى كانت تلك النتاجات الروائية جريئة في مقاربة الحدث؟ إذ يغدو هذا السؤال مهما ونحن نشهد تغولاً ملحوظا للإرهاب يهدد القيم الإنسانية.
تفاوتت نسب الاقتراب الروائي من واقع الإرهاب في المنطقة العربية، فمنها ما أتت جريئة تقترب من هذه المعضلة بكل بسالة إبداعية، ومنها ما لمح تلميحا وطاف فقط بالحدث، وهذا بالطبع عائد إلى كون تلك المنظمات الإرهابية، في بعض المناطق، قد فرضت نفسها كسلطة تهدد المثقفين، بالاغتيال كما حدث لروائيين جزائريين على غرار جيلالي اليابس، وأبي بكر بلقايد، وعبد القادر علولة. وبالتهجير كالجزائريين أيضا مثل رشيد بوجدرة، ورشيد ميموني، وواسيني الأعرج، وأمين الزاوي.


وكما هو معروف فقد حظيت المكتبة الروائية العربية، بعدد لا بأس به من الروايات التي اقتربت من موضوعة الإرهاب، لكن هنالك روايات أخذت تسلك سبلاً غير نمطية في مقاربة هذه الموضوعة، إذ حافظت على البناء الفني الذي لم يغب لصالح الطرح المباشر لهكذا موضوع. ومن النماذج المهمة التي اقتربت من موضوعة الإرهاب رواية (فرانكشتاين في بغداد) للروائي العراقي (أحمد سعداوي) الفائزة بجائزة الرواية العربية البوكر 2014 إذ أخذ هذا الاقتراب طابعا فانتازايا غير تسجيلي أو مباشر، ذهب عبره إلى الواقع بكل بشاعته، مستلهما طريق الخيال.
فمنذ سقوط النظام العراقي، غرق العراق بأشكال وأطياف عديدة من الإرهاب، وتحولت تلك المنطقة عبرها إلى مسرح يومي للدم والبارود والمتفجرات والأشلاء والخطاب الطائفي، وبدت المنطقة كما لو أنها مقبرة لن تخرج من سياق الموت أبدا، لقسوة ما يحدث فيها بشكل يومي.


وكما هو معلوم فإن أحداث رواية (فرانكشتاين في بغداد)، تدور في مدينة بغداد وخاصة حي (البتاويين) و الباب الشرقي ومنطقة السعدون وشارع أبي نواس، والكرادة وساحة الطيران. ففي حي البتاويين الذي يقطنه الفقراء وتؤثثه إثنيات وديانات وجنسيات مختلفة، يقطن رجل اسمه (هادي العتاك) يعمل تاجرا للخردوات والانتيكات، لكنه في المقابل يراقب ما يحدث أمامه من مجازر إرهابية، يروح ضحيتها آلاف المدنيين العزل الذين تتناثر أشلاؤهم أمام عيني (هادي العتاك) كمعادل موضعي للشريحة العراقية التي تراقب الحدث، إذ يقوم العتاك بجمع أشلاء الضحايا عبر فعل فنتازي ويتوصل في نهاية الأمر إلى تكوين إنسان مؤلف من أشلاء من سقطوا نتيجة تلك الأعمال الإرهابية، وعبر هذا الكائن الغريب، الذي يطلق عليه لقب الـ (شسمه) بالانتقام من المجرمين المتسببين بتلك الإعمال. لكن هذا الكائن الغريب الذي يعبر الشوارع ويجوب الحارات ويتسلق الجدران لا يتأذي بالرصاص ولا يمكن قتله، اذ يشكل هاجسا مقلقا للجهات الأمنية وللمنظمات الإرهابية على حد سواء.

ويذهب أحمد سعداوي في روايته هذه إلى ما يمكن أن تخلفه الجرائم الإرهابية في النفس البشرية، فالروح الفنتازية التي سيطرت على الرواية ليست بعيدة عن فنتازيا الواقع الذي رزح تحته العراق لسنوات، وكأن أحمد سعدواي ينقلنا من الواقع إلى بعد آخر، لنرى الموت كيف يعصف بالحياة، فالانتقام في رواية سعداوي ليس انتقاما كيديا له دوافع إجرامية إرهابية، إنما انتقاما لأجل الحياة التي شوهها الإرهابيون.
ولم يعز سعداوي ما يحدث في العراق إلى جهة إرهابية، واحدة بل إلى جهات عديدة، حتى أنه جعل مصطلح الإرهاب في هذه الرواية يشمل العديد من أشكال الإرهاب السياسي المتمثل ببعض الشخصيات السياسية، التي تتحرك في فضاء الرواية، والأمني المتمثل بضابط الشرطة المتوافق مع قوات التحالف، وحتى الثقافي المتمثل بريس تحرير المجلة.
لكن كل تلك الجهات العديدة التي تؤلف المشهد الإرهابي لم يكن لها أن تكون لولا ما حدث في العراق من احتلال و تهشيم للبنية العسكرية وبنية الدولة وبالتالي ما عادت هنالك ضوابط تمسك بزمام الأمور. إذ تفشى الفقر أكثر مما كان عليه، وانتشرت الامراض البدنية والطائفية والسياسية ، وأصبحت المنطقة مرشحة لتنامي الإرهاب الذي لا ينمو إلا في بيئات كهذه.


وفي نموذج آخر، لمسلك روائي مختلف، تأتي رواية (مملكة الفراشة) لواسيني الأعرج، كعمل تناول المؤلف فيه مسألة الإرهاب من وجهة نظر الشخصيات، التي أتت عبر الحوارات والمونولوجات، لتحكي دون مباشرة، انعكاسات الإرهاب على دواخلها النفسية. ومن ثم إفساح المجال للقارئ أن يطلع على أحلامها وتصوراتها للحياة، خاصة بعد الحرب الأهلية التي مني بها الجزائر وكان الإرهاب عنوانها الرئيسي، حيث اختلط الدين بالسياسة، وباتت البندقية والقذيفة هي القاضي، وهي التي تنفذ الحكم، في بلاد عاشت مرحلة إشكالية بعد انتهاء الثورة الجزائرية وما أعقبها من صعود مفاهيم جديدة، وفساد، وفقر وجهل، فظهر الإرهاب على الساحة الجزائرية، وتحولت المنطقة إلى ساحة للدم والأشلاء في اغتيالات يومية، ومذابح جماعية، وإقصاء وتهجير ونفي في حرب أهلية موجعة للإنسانية.

تجري أحداث الرواية في الجزائر بعد انتهاء تلك الحرب حرب الأهلية التي اشتعلت في بداية التسعينيات القرن الماضي وأودت بحياة الكثيرين بضحايا وصولوا الى 200,000 إنسان، عبر بطلة الرواية «مايا» التي تعمل صيدلانية تبحث عن الأدوية في شح الحرب وظروفها، إضافة إلى كونها عازفة في فرقة هواة لموسيقى الجاز تحاول إحياء الأمل في القلوب الميتة وتتحدى هي وفرقتها كل الطروحات الإرهابية بالموسيقى. والدها خبير طبي متخصص بالأدوية شارك في حرب التحرير، وعاش مرحلة الفساد التي أعقبت تلك المرحلة، ووقف بوجه المافيات التي تلعب بمصائر الناس الصحية فقتلوه. تعيش مايا أيضا مع أخ يمتلئ بالحياة، لكنه حين تجند في الجيش، ورأى سفك الدماء وكل مظاهر الإرهاب أدمن على المخدرات. أسرته جماعة إرهابية أمنت له المخدرات مقابل قيامه بعملية إرهابية، فألقي القبض عليه من الجهات الأمنية فأصيب في السجن باختلال عقلي.

وتظهر أيضا في الرواية أخت مايا التي جذبتها الحضارة الأوروبية فهاجرت إليها. وأيضا تقوم الرواية على شخصية الأم (فيرجي) التي عاشت مرحلة نفسية شائكة بعد اغتيال زوجها وبات لديها يقين بأنها ستغتال برصاصة من رصاصات الجماعات الإرهابية، أدمنت قراءة روايات (موريس فيان) وراحت تتخيل نفسها أنها عشيقته المهمة، وأنه ترك زوجته وكل نساءه لأجلها، وبدأت تعيش ذلك الوهم إلى ماتت بعد أن فقدت عقلها.

عالج واسيني الأعرج مسألة الإرهاب بشتى ألوانه بمحاولته الناجحة في استنطاقه لشخصيات الرواية. إذ تعبر مايا بعد أن فقدت حبيبها داوود العازف في الفرقة الموسيقية برصاصة إرهابية، وبعد فقدانها لأبيها على نفس يد تلك الجماعة، عن دواخل نفسية مهشمة تعيش أثر تلك المرحلة الصعبة. مرحلة مكللة بالخوف وعدم اليقين غياب الاستقرار على مختلف ألوانه. كما تعبر الأم فيرجي عن التشظي الموجع فقدانها وطنها المحتل من قبل الإرهابيين وفقدانها لزوجها الذي اغتالته يد المافيات، فغياب الوطنان- كون الحبيب وطن مواز للوطن المادي- أخذاها إلى عالم الخيال المرضي الذي جعلها تتوهم علاقة خفية بموريس فيان، فتعقدت حالتها وماتت بعد أن فقدت عقلها.
حينما ننظر إلى مصائر الأم والأب والابنة مايا وأختها وأخيها، الذي شكلوا في الرواية الآثار المترتبة عليهم نتيجة الإرهاب الذي أوجد الحرب الأهلية، وكثير من الشخصيات الفرعية في الرواية، ندرك كم أن الرواية مساحة مهمة لاستنطاق الشخصيات عبر حواراتهم ومونولوجاتهم لتقفي آثار الأزمات والكوارث الإنسانية التي تحل بالإنسان.


يمكننا القول أن الرواية العربية اقتربت – كونها باتت مساحة مهمة للتعبير عن أفراح الناس وأوجاعهم وتطلعاتهم– من موضوعة الإرهاب بأساليب فنية مختلفة، وبأكثر من مستوى لغوي، وبنسب متفاوتة من الجرأة، فشكلت رأيا شعبيا رافضا، يضاف إلى رفض الإنسان العربي للإرهاب الذي يعد هذه الأيام من أكثر الكوارث الإنسانية تعقيدا، وتهشيما للبنية الإنسانية. وأثبتت أنها قادرة على معاينة الواقع بكل تعقيداته، وخفاياه، كما وأثبتت أنها قادرة على الدفاع عن حق الإنسان في العيش بأمن وأمان، ضمن المفاهيم الإنسانية التي تقبل الآخر، وتحترم الاختلافات، وترى الإنسان المقوم الرئيسي في بنية الحياة، وأن احترام رؤاه وتطلعاته من أهم سبل التطور البشري الذي لا يمكن أن يقوم في ظل العنف، وشتى أنواع الإرهاب، والإقصاء على أسس عرقية ودينية.

Your Page Title