أخبار

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: هل كتابة الرسائل العشقية جريمة؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

تزخر الآداب العالمية بالرسائل العشقية، بمختلف أشكالها وأغراضها، والجمهور الذي تستهدفه، لدرجة أن أصبحت اليوم فنا قائما بذاته، له متابعوه وجمهوره العاشق له. ما السرّ في ذلك؟ قوة الرسائل بجانبها المعرفي والذاتي أيضا، هي أنها تكشف خفايا الإنسان، وتعطشه للمعارف، ولمعرفة هويته العميقة، بما في ذلك معرفة الأنا الغامضة والمرتبكة أمام تاريخها السري، في مختلف تحولاتها وتشكلاتها المختلفة.

لقد كتب مونتيسكيو (1689-1756) “رسائل فارسية” الخيالية بين مسافرين فارسيين أزوبك وريكا. ونُشرت هذه الرسائل في 1721 في أمستردام، بلا اسم لتفادي الرقابة وقتها. انتقد فيها المجتمع الفرنسي بحدة، بل وسخر منه ومن يقينياته، بعيون المسافرين الشرقيين. كيف يرون مجتمعا لم يكن دائما جميلا ولا ساحرا كما تصوروه. من خلال المسافرين انتقد كل الممارسات الطبقية التي كان يعرفها جيدا. فهو من عائلة مارست القضاء، تنتمي إلى طبقة النبلاء، تعيش في قصر لابريد – حيث يخضع كل شيء لنظام النبالة.

كتب أبو العلاء المعري (973-1057) رسالة الغفران الوجودية ووجهها إلى ابن القارح منتقدا فيها الجهل الذي يغيّب المعرفة ويعوضها بسلسلة من اليقينيات المريضة التي تلغي العقل كليا، وتخفي أسرارها الإيديولوجية والتسلطية، مفككا يقين الأشياء، واضعا قارئه أمام حيرة وجودية حقيقية، لا يقدم له حلولا ولكن مسالك معرفية عليه ارتيادها ومعرفة ما يناسبها.

وكتب ابن حزم الأندلسي (994-1064) رسالته العظيمة في الوجود الاجتماعي الذي جعل من الحب خطيئة: “طوق الحمامة، في الألفة والألاّف”. وناضل بقوة لاستعادة إسلام العقل والتنوير والتسامح في عز القلاقل في قرطبة التي انتهت بنفيه وحرق كتبه.

وكتب إخوان الصفا رسائلهم السرية: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، التي بشروا فيها، في القرن العاشر، بنظم ثقافية وسياسية جديدة ستغير العالم. وظلت الرسائل سرية، يلفها الغموض، من كتبها؟ ما يزال إلى اليوم هذا السؤال معلقا.

كتب الشيخ النفزاوي، أبو عبد الله بن محمد (ق15) رسالته: الروض العاطر في نزهة الخاطر، بناء على طلب حاكم تونس وقتها، عبد العزيز الحفصي. واعتبر كتابه واحدا من أخطر الكتب، ليس فقط لأنه في الجنس كما يعتقد الكثيرون، ولكن لكونه أول كتاب عربي في التربية الجنسية، أي تحويل الحاجة البيولوجية، إلى ثقافة، تتخطى العتبة الحيوانية المعتادة. وقد كثر المناوئون لمصادرة المؤلف، لكنه ظل محميا من عبد العزيز الحفصي، وظل كتابه مرجعيا مفيدا.

أبو حيان التوحيدي (ق10) كتب رسالة من نوع آخر، رسالة الحرق أو اليأس الكبير. أخبرنا فيها لماذا قام بهذا الفعل الذي حول الكثير من نصوصه إلى رماد، بعد أن أدركته حرفة الوراقة التي كانت قاسية عليه ومنعته من الحياة. تخفى في مغارة وأحرق كل ما وقعت عليه يداه، ثم أختلى ليكتب نصه العظيم “الإشارات الإلهية”. رسالة الحرق هي صرخة يأس في عالم تغير كثيرا ولم يعد يحفل كثيرا بالأدب والأدباء وما يعانونه لتوصيل مادتهم إلى القراء من السلاطين والأمراء ومحبي المخطوطات التي كان يعيد نسخها.

وهناك عدد لا يحصى من الرسائل الفلسفية التي كتبها أصحابها لمناقشة فكرة معينة ووضعها في المدارات العامة حتى لا تبقى رهينة الدوائر الضيقة. الكثير من هذه الرسائل ضاع أو أحرق لجرأة ما طرحته ثقافيا وحضاريا ودينيا، وتوبع أصحابها بتهم مختلفة أغلبها انتهت بكره الزندقة ومس النظام.

كل هذا، وغيره، بمختلف أنواعه، من الرسالة العشقية إلى الرسالة الفلسفية واللغوية، تزخر به آدابنا العربية لدرجة أن أصبح أدب الرسائل ظاهرة حقيقية تستحق التوقف والدراسة لمعرفة ما يتخفى وراءها. لكنها رسائل مقبولة عموما لأن مادتها الأساسية ثقافية وسجالية وحضارية.

هناك نوع من الرسائل تعرض لكل أشكال الرقابة والقمع والإهمال، من الرقابة الذاتية حتى الرقابة الاجتماعية والمؤسساتية الدينية وغيرها، وكثيرا ما كانت النتائج وخيمة: الرسائل الحميمية التي تؤنسن الكاتب الغارق عادة في يوميات الكتابة القاسية. نحن لا نعرف عموما إلا جهده الأدبي والفني وننسى أن وراء ذلك تاريخا حيا وإنسانا تألم كثيرا. حتى السير الذاتية تكاد تنعدم في ثقافتنا العربية. بينما الآداب العالمية تزخر بذلك.

يمكننا أن نجد رسائل الكتاب العالميين فيما بينهم التي تكشف وجها خفيا غير معروف، وكثيرا ما تجمع وتنشر بعد وفاة الفاعلين الثقافيين. وتشترك في ذلك إرادات كثيرة تتعامل مع شخصية أصبحت ملكا عاما، وليس فقط للعائلة. وقد يكون الأهل سندا حقيقيا للباحثين في عمليات جمع المتفرقات لولا رسائل فيرجينيا وولف مثلا، ما تعرفنا حقيقة على الكاتبة في عز تناقضاتها، وحرفتها الكتابية، ورغبتها في الانتحار غرقا، وانشغالاتها الإبداعية وتفكك شخصيتها نفسيا، والآلام التي عانتها قبل انتحارها. بقراءة رسائلها مع أصدقائها، أو من أحبتهم، نتعرف بشكل عميق، على المؤديات السرية والغامضة التي حكمت حياتها. نكتشف من وراء الرسائل، المرأة المتميزة، والغيورة، والذئبة الشرسة المحبة لنفسها. ولنا أمثلة كثيرة في الآداب العالمية مثل رسائل جورج صاند، مارغريت دوراس، هنري ميلر، وغيرهم كثيرون، حيث عبرت الكاتبة كما عبر الكاتب عن جوانبه السرية التي كثيرا ما يتغرف عليها القاريء بعد وفاة الكاتب. حتى السياسيين أيضا لم ينفذوا من ذلك، مثال رسائل فرانسوا ميتران وعشيقته آن بانجو (1218 صفحة)، التي شكلت حالة مميزة كتابيا وصف فيها تجربته الحميمية.

يكاد هذا النوع العاطفي والإنساني، ينتفي من ساحاتنا الثقافية إذ يُنظر لموضوع كهذا من زاوية واحدة ووحيدة وهي الزاوية الأخلاقية الملتبسة بالدين. قد تعيش المرأة المبدعة أو الرجل على حد سواء، تجربة حياتية تخترقها اللحظات الأكثر إنسانية، تشترك فيها “الخيانات الصغيرة” فلا حق لهما في الحديث عنها. باسم الأخلاق، يعودان بها إلى قبر المنتهى. من منطلق الخوف ولكن أيضا أن رسائل كهذه ليست ملكا عاما ولكنها من حميميات شخصين فقط. مع أن مثل هذه الرسائل تكشف عن رحلة الإنسان الوجودية في عالم شديد التعقيد وليس كما نراه. وتظهر ما يتخفى وراء الوجاهات الزائفة التي تلغي الإنسان من وجودها. وكلما حاول أحدهم اختراق هذا المنطق الزائف بالمعنى الثقافي، كانت مؤسسات القتل الاجتماعي في انتظاره حفاظا على الأخلاق والأعراف والعائلة. الكرامة تنحصر في جزئية صغيرة من جسم الإنسان، وتغيب عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان في كليتها. ننسى أن الرسالة تعبر في النهاية عن فردية متحركة، ولا تعبر عن فعل عائلي إلا من خلال فضح آلياته المعطلة. ماذا لو قيض لمي زيادة أن تنشر رسائلها ضد جزء من العائلة، التي امتهنت أحلامها وقتلتها بشكل غير مباشر؟ لنا أن نتذكر ما فعله فيها ابن عمها جوزيف زيادة. بقايا ليالي العصفورية، التي أحرقها جوزيف نفسه، وكما روتها في المستشفى لأمين الريحاني تبين ذلك بوضوح. رسائلها للعقاد تحديدا بها الكثير من العشق والحب، وأعتقد أن عائلة العقاد رفضت؟ نشر ما “يسيء” إلى سمعته. ولم تنشر المؤسسة الثقاف العربي إلا رسائلها مع جبران لأنها متباعدة ومتسمة بعذرية وهمية، لا جبران الذي كان يعيش وسط حديقة من النساء في أمريكا كان عذريا، ولا مي زيادة في علاقتها بصديقها الإيطالي الذي لا أحد يتحدث عنه، وكانت تسافر إليه باستمرار، ولا بالعقاد كانت عذرية. وحتى رسائلها لابن عمها الذي ظلت متعلقة به، تخلو من هذا العنصر. ماذا لو جمعت كل رسائلها في مجلد وحد لكشفنا من وراء شخصية مي زيادة عصرا بكل عقلياته المتحجرة والمتنورة أيضا، وصراعاته النفسية حيث الأفراد فيه مقيدين بشرطيات الزمان والمكان. علما أني لا أصنف رسائل جبران مع مي برسائل الحب، ولكنها أقرب على الإخوانيات التي تخترقها المحبة والاحترام والرغبة في التعرف أكثر على الآخر. ربما كانت اللحظة المتفردة تاريخيا هو ما قامت به غادة السمان عندما نشرت رسائل المناضل والكاتب الفذ غسان كنفاني (2009). لكن التجربة ولدت مبتورة إذ لا نجد في الكتاب إلا رسائل غسان كنفاني الملتهبة عشقا دون رسائل غادة، مع أن كل رسالة هي إجابة عن لحظة سجلها المرسِل إلى المرسَل إليه. بمعنى أدق ماذا قالت غادة لغسان لينفجر فيه ذلك البركان العشقي؟ اللغة خادعة، فهي تخفي بعض سرها للعامة، لكنها فاضحة. طبعا قامت القيامة يوم نشرت الرسائل ربما لأن بعض الفاعلين في الرسائل ما يزالون أحياء ومن بينهم زوجة كنفاني الدانماركية آني هوفر، التي كان يفترض، في زمن آخر، وعقل آخر، أن تسلم رسائل غادة لغسان، وفق اتفاق مسبق مع العائلة كما يحدث عادة. يظل هذا العالم مغلقا بسبب المنع الأخلاقي المعمم. مثل السير الذاتية التي لا تقدم إلا فتوحات الكاتب وعظمته متفادية، وبحسابات أخلاقية مسبقة، كل ما يربك الصورة المثالية للفرد وكأن الحب جريمة. نحتاج عربيا إلى زمن آخر يقاس بالسنوات الضوئية والكثير من الشجاعة، لكي نصل إلى تلك اللحظة المؤنسنة لنا قبل غيرنا.

مع ذلك، وعلى الرغم من البتر، تظل غادة السمان علامة ثقافية عربية شجاعة في هذا السياق. فقد غطى معطفها، مثل غوغيل، الكثير من الكتاب العرب، بالخصوص الكاتبات. فتحت طريقا لغويا ظل زمنا مغلقا.

صحيح أنه لا يشبه طريق أو معطف غوغول، وهل نشبه أكاكي، بطل المعطف، حيا وشبحا؟ لا أعتقد، معطف غادة السمان شفاف، يكشف الكثير من الجراحات التي خلفها التاريخ في حربه ضد المرأة حينما حارب أنوثتها بإخفائها تحت الأطنان من المعتقدات البالية، وعقد التاريخ وصخوره البركانية المحروقة. كتبت غادة كثيرا، وملأت الساحة العربية باستحقاق. منجزها الأدبي، شاهد إلى اليوم على جهودها الإبداعية وعلى خياراتها القومية، على الرغم من انسحابها من ساحة ثقافية مرتبكة، في وقت مبكر. مكانها الذي تركته منذ أعمالها الأخيرة: ظلّ شاغرا، لم يملأه آخر غيرها، على الرغم من الأجيال المتعاقبة. ثمة امرأة اسمها غادة السمان لم تكن عادية، كتبت بيروت 75 (1974)، بأفق مفتوح، وحساسية ثقافية لامست الحرب الأهلية حتى قبل اندلاعها بسنة، وكتبت كوابيس بيروت (1976)، ووضعت الجنون اللبناني في مرمى البصر العربي المغمض العينين والمخ، والرواية المستحيلة (فسيفساء دمشقية1) (1997)، يا دمشق وداعا (فسيفساء دمشقية2) (2015) لاسترجاع زمن مات، أو كاد، وسهرة تنكرية للموتى (2003) التي توقعت فيها انهيارا مدويا لبيروت، وغيرها من النصوص السابقة، لا يمكن لامرأة مثلها أن تتوقف عند حافة أنهار فيها كل ما يحبط بنا دون أن يتجدد التساؤل: هل كنا في وهم جميل، نتغنى بعالم عربي أعقد مما تصورناه؟ عالم يسبح في دائرة تخلف أصبحت جزءا منه، بل تكاد تكون دينه الأرضي، في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالمعتقدات الشعبية، بالمؤسسة الدينية التي أوقفت أي اجتهاد. وكأن غادة اختارت بعزلتها، بدل الدوران في طاحونة الفراغ، أن تدور في فلك سري وحدها يعرف معناه وجدواه وحدوده أيضا، وربما مآلاته، في صمت وأناة كالساموراي الذي يتهيأ لطعنة الخصر القاتلة.

اللمسة المتميزة التي تركتها غادة السمان على الأدب العربي، والأدب النسوي (المفهوم غير دقيق) تحديدا كانت عظيمة، وما زالت الكثيرات يدنَّ لها بالكثير، وإن لم تصرِّحن بذلك. فقد عملت على شيء أعظم من تحرير المرأة من قيد اليومي الثقيل، بمنحها مساحات نصية لم تكن متاحة، لكنها حررت أو عملت على أداة التعبير الجريحة، اللغة العربية. جاهل من يقول إن اللغة العربية عاجزة عن المحمولات الإنسانية أو الحسية، وأن قرون الرمل التي كبرت فيها وتمرغت داخلها تمنعها من رؤية الماء، والخضرة والجسد بمعناه الأكثر اتساعا اذي يشمل جسد الأرض في جراحاتها المعلنة والسرية، والجسد الإنساني، والأنثوي تحديدا، لأنه الأكثر تعرضا للاغتصاب الفعلي والرمزي. غادة السمان حررت اللغة بإعادتها إلى جوهرها الأنثوي الجميل والشعري الدافئ والمدهش. فقد منحت كاتبات وكتاب اللغة العربية لغة حية وشهية أيضا، تشبههم في أحلامهم المؤجلة، في دواخلهم وفي يومياتهم، لغة قريبة من سحر الحياة، وبعيدة عن فتاوي القيامة وصكوك الجنة والغفران. وكسرت حجز الصوان الذي أثقل اللغة العربية ردحا من الزمن. تكاد تكون غادة السمان، هي الكاتبة الوحيدة التي جعلت من اللغة، المادة الحيوية التي نكتب بها جميعا، وحررتها من ثقل الرمال والأعشاب الضارة وشح الماء، والأصداء الثقيلة. الا تستحق أن تكون الكبيرة التي علمتنا السحر كله؟

ما قالته غادة، من وراء ردها عليَّ في سياق مساجلة خفيفة في القدس العربي: السر الغائب في الرسائل العربية (القدس العربي 20 أبريل 2021) ينم عن حالة غبن مضمرة من وسط ثقافي شديد الصعوبة والقسوة واللاتسامح، وكثيرا ما يبني آراءه الإقصائية على مسبقات تحتاج إلى بحث حقيقي قبل التسليم. أتذكر جيدا المعارك العاصفة التي قامت بعد صدور كتابها: رسائل غسان كنفاني (1992)، وكانت كبيرة واتخذت منحنين، المنحنى الأخلاقي الذي وضع غادة في دائرة الاتهام وحملها مسؤولية الإساءة لميت نشرت أسراره على الملأ حتى ولو بررت ذلك في مقدمة الكتاب أنه ليس أكثر من تنفيذ لوصية جمعتهما وأنه على الذي يستمر في الحياة، أن ينشر هذه الرسائل. المنحنى الثاني يتعلق بشخصية أدبية وسياسية لها رمزيتها الكبيرة في العالم العربي، والفلسطيني تحديدا. وكأن غادة بنشر الرسائل يومها مارست اعتداء ضد مقدس، وحوّلت الجنرال إلى جندي بسيط في عز المعركة المصيرية؟ بينما يتعلق الأمر أولا وأخيرا بإنسان، يحب ويكره كما جميع البشر. وكأن الحب ينقص من قيمة البطل وسمعته؟

من الصعب عليّ، في هذا السياق، ألا أتذكر ما حدث للشاعر الرواسي الأسطوري: ماياكوفسكي يوم انتحاره. فقد رفضت المؤسسة الرسمية هذا الانتحار لأنه أربكها في يقينياتها الإيديولوجية وكأن الإنسان ساعة يتم توقيتها وضبطها وفق مشتهيات من يملكها. الأسطورة ليست إنسانا لكي تنتحر حبّا وعشقا. تذكُرُ فيرونيكا بولانسكايا، حبيبته الأخيرة، في مذكراتها التي صادرها أمن ستالين، لأنها كانت الشاهد الأخير على انتحار الشاعر. يوم نشرت المذكرات في ثمانينيات القرن الماضي، مع إصلاحات البيريسترويكا، في مجلتي سبوتنيك والآداب السوفييتية، اكتشف العالم شيئاً آخر، عندما حان وقت ذهابها إلى المسرح، ضمت بولانسكايا حبيبها ماياكوفسكي طويلاً، ثم اعتذرت منه لأن العرض الذي يخرجه زوجها، حان موعده. طلب منها أن تبقى ما دامت تحبه، لكنها رفضت، وأصرّت على الذهاب لتأدية عرضها المسرحي. فجأة قام من مكانه وأغلق باب الغرفة، ثم وضع المفتاح في جيبه مثل طفل معاند.. “لن تذهبي” أصرت على الذهاب قبل أن تستسلم بحزن. قال لها: خذي المفتاح، اذهبي أنّا شئت، لكن بمجرد تخطيك العتبة سأنتحر، ثم أخرج مسدسه، وصوبه نحو قلبه. كررت على مسمعه: حبيبي عندي عرض مسرحي يعني لي الكثير، زوجي هو من يخرجه، ولا أريد أن أخيِّبه، سامحني حبيبي. ظل صامتاً، عندما فتحت الباب، عند العتبة، سمعت طلقاً نارياً جافاً. رصاصة واحدة في القلب كانت كافية لتحويل عمر من الشعر والحب إلى كومة رماد. الحقيقة التي رفعت عاليا ماياكوفسكي لأن الشاعر لم يكن صخرة، واستسلم لحبه. الكتاب الذي نشرته فيرونيكا بولانسكايا أعاد الحقيقة إلى مسلكها الطبيعي.

عندما تحدثت عن غسان كنفاني وغادة، كان القصد واضحا، كنت كما ملايين من القراء العرب، أحب كتابا تاما وغير مبتور، أي برسائل العاشق والمعشوق، لكن ما العمل عندما تغيب رسائل جهة من الجهتين؟ تقول غادة السمان “كيف ننشر ما لا نملك؟” الوجه الآخر للعملة: كيف ننشر الآخر فقط؟ الرسائل المنشورة تظل صماء بدون صوت الآخر.
هذه الحسرة ملأتني وأنا أقرأ وأترجم “رسائل البير كامو وماريا كاساريس ” (2017)، المذهلة. والضخمة جدا (1465صفحة)


لم تكن غادة السمان وحدها من نشر الرسائل مبتورة من الطرف الثاني. رسائل ديزي الأمير لخليل حاوي لم تخرج من هذه الدائرة الصعبة والضيقة؟

يجب أن نعترف بأننا نعيش في مجتمع مريض، يكره جانبه الأنثوي، ولا يستطيع أن يخفي الشيزوفرانيا التي تخترقه. فهو لا يكره الأنثى المستسلمة لسلطان الذكورة، فهي منبع لذته وسطوته عليها، لكنه يمقتها عندما تعلن عن حضورها بالقوة الباطنية التي تملكها، مخترقة قوانين الذكورة المهيمنة التي لا ترى فيها أكثر من كائن يجب أن يعاد إلى “جادة الصواب” كلما خرج عن المسارات التي حددت له سلفا. من هنا يصبح من الكبائر تجرؤ امرأة على كتابة شيء يظهر حقها في التعبير. كم من رجل كتب عن فتوحاته النسوية واستقبل بالكثير من الفحولة، وكم من امرأة تجرأت على فعل ذلك بالقليل المتاح لها من حرية وكلام، فمرغت على الأرض. من حاسب نجيب محفوظ على تعبيراته الجنسية في رواياته، وماذا فعلت نفس العقلية يوم صدرت رواية “أيام معه” لكوليت خوري، تعرضت لهجوم أخلاقي غير مسبوق، بل أن هناك من جعل من شخصية ريم، الشاعرة رديفا لكوليت، وزياد مقابلا لنزار قباني. وانتقل الفعل الروائي الفذ إلى مجرد سيرة عشقية ذاتية. بينما جوهر الرواية كان هو رفض الذكورة المقيتة والانتصار للحب والحرية والفن. حُمِّلت غادة السمان بكل الصفات وهي تنشر رسائل غسان كنفاني، حتى بعد أن صرحت بشكل معلن بأنها لم تجد رسائله، ويجب الحصول عليها من بيت كنفاني أو من غيره من الأصدقاء الذين يحفظونها. حتى حق الشك رفض لها. وجاءت رسائل أنسي الحاج لتجعل من التهمة أمرا ثابتا، حتى عندما أكدت أنه هو من كتب لها، لكنها تحفظت في الرد عليه. لا أدري إذا كانت نفس العواصف ستقوم، لو نشر كاتب “فحل” رسائل حبيبته حتى وهي مبتورة من رسائله؟ يبدو أن القاصة العراقية الكبيرة ديزي الأمير نجت بالكاد من مهالك الرسائل الأحادية الاتجاه، عندما نشرت مراسلات خليل حاوي لها. من المؤكد أن غياب رسائل الآخر نقيصة في هذه المراسلات التي كانت متبادلة، غيابها يقلل من مداها التأثيري، ويمكننا أن نناقش طويلا المسألة من الناحية الأخلاقية، لكن ماذا لو لم تنشر أصلا هذه الرسائل، واحتفظت غادة السمان وديزي الأمير بحقهما في الحرق؟

لم تكن ديزي الأمير نكرة لتبحث عن شهرة من وراء “فضيحة” الرسائل. فقد كان لها حضورها الكبير في الحقل الأدبي العربي. للتذكير، فقد نشرت ديزي الأمير سبع مجموعات القصصية: «البلد البعيد الذي تحب» (1964)، «ثم تعود الموجة» (1969)، «البيت العربي السعيد» (1975)، «في دوامة الحب والكراهية» (1979)، «وعود للبيع» (1981)، «على لائحة الانتظار» (1988) «جراحة لتجميل الزمن» (1996). ثم اختارت بعدها أن تتوقف عن النشر، وعمرها لم يتجاوز الحادية والستين. فقد رفضت أن تكرر نفسها، كما تقول. وربما كان الإحساس باللاجدوى الذي كثيرا ما يصيب المجتمع الأنثوي، واحدا من أسباب هذا التوقف.

المجتمعات العربية التي كان يجب أن تتقدم، تنحدر كل يوم أكثر، بالخصوص بالنسبة لوضعية المرأة. بالمقابل أيضا، لم يكن خليل حاوي شاعرا عاديا، كان صوتا متفردا، وعاشقا لديزي الأمير، أمر كان يعرفه كل من عاشوا الحقبة. من المؤكد أن انتحاره جاء من لحظة يأس أوصلها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في السادس من يونيو سنة 1982، إلى السقف، لكن بنيته الذهنية الشديدة الحساسة كان لها دور في الكثير من ردود فعله وتصرفاته، والرسائل المنشورة خزان مهم لمعرفة هشاشة خليل حاوي الوجودية، التي مست أيضا علاقته بديزي الأمير، وعدم قدرة الشاعر على اختراع العالم الذي يشتهيه. فقد ظل حالما بيأس. خلال أزمة “قناة السويس” في مصر في سنة 1956، كتب حاوي رسالة إلى ديزي الأمير بعنوان “الانتحار بداية” تمنى فيها لو كان حاضرا في لبنان ليسهم مع أبناء شعبه في الدفاع عن الحق العربي، ومقاومة الظلم والغطرسة الاستعمارية. “في نفسي ذكريات حلوة تصبغها كآبة ويلفّها يأس مرّ، في نفسي أثرٌ لأحلام كانت تراودني قبل الأزمة وقبل أن أدرك الواقع المرّ في العالم العربي. أما هذا الواقع، كما يبدو لي، فهو أنّي قد استيقظ في أي صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حُذِفَ من الخارطة. وهذا الخوف يحتلّ أفكاري أحيانا حتى أنه يمنعني من النوم لياليَ”.

تفادت ديزي الأمير وضع اسمها على الكتاب، ونسبته لصاحب الرسائل: “خليل حاوي.. رسائل الحب والحياة” الذي صدر عن دار النضال للنشر في سنة 1987. نتعرف بشكل واضح على قليل من الجزء الحميمي من حياة خليل حاوي وديزي الأمير. من ذلك إخفاق زواجهما. للنميمة في الوسط الثقافي اللبناني والعربي أثرها الحتمي القاسي على علاقتهما. فقد كان خط رحلاتها مستقيما يتحكم فيه عشق ثلاث مدن هي بغداد، موطن الذاكرة، بيروت موطن القلب، ولندن موطن العبور والاستراحات. على الرغم من الهوة الفاصلة بينهما التي جعلتها الأيام تتسع لدرجة الفراق، ظل هذا الحب مقاوما للموت الذي كان يتهدده في كل ثانية، بسبب البنية الذهنية لخليل حاوي والمحيط الصعب: “من تكونين لي؟ ولِمَ يعتصر قلبي الندمُ على كل كلمة عصبية وعلى كل نظرة قاسية ندّت منّي ووقعت على وجهك الطيّب الحبيب؟ لِمَ هذا الضنُّ المجنونُ بحبّكِ ورضاكِ، ولِمَ تسحقني نزوةٌ تَهمّ بفصم ما بيننا، لِمَ أنتِ أحبّ إليّ من نفسي، ومن تكونين لي؟”. مثل طفل كان يغضب، ثم سرعان ما يعود منكسرا نحو حضن المرأة التي أحب لأنها مثل القدر الذي لا يمكن تفاديه: “ولطالما عُدت بعد كل مرة عودة المُذْعِن للقضاء المحتوم، عودة الهالك الراضي بسجنه وجحيمه. وكأن بيني وبينكِ هوّة لا أنا قطعتها ولا أنتِ انجذبت إليها” لكن ذلك لم يمنعه في التعبير عن كبير حبه لها في الكثير من رسائله. “إن الحبّ يا ديزي، كما علّمني غيابك عنّي، جوع لمن نُحبّ وشبع من الآخرين، إنه التوحيد المطلق يقوم في النفس عفوا وبداهة، لا يفتقر إلى مجاهدة النفس في سبيل العفّة، إنه ترفّع عن الإغراء وتهاون بالفتون، إشاحة عن الملذات العابرة، وأُنسٌ في الوحدة ورضى عن الجوع والظمأ”. كان حبا عاصفا ومتناقضا، لكنه كان كبيرا، بين قطبي الجنون في الآخر، ومحاولة التخلص من هيمنته.
لكن عين الرقيب كانت تترصد رسائل حاوي المنشورة، وكأنها تعرف مواطن المحو، إذ يبدو أنها كثيرا ما كانت تتدخل وتحذف ما لا تراه مناسبا للنشر، أي أنها، هي نفسها لم تنج من مقص الرقابة بسبب الدائرة المجتمعية القبلية المغلقة. يوم سافر خليل حاوي إلى كمبردج، كتب لها رسائل مليئة بالحنين وحزن الغياب المفروض عليهما. ظلت معها، ويوم نشرتها في الكتاب في 1987، حذفت بعض جملها العارية مما أثار غضب أصدقائه؟ حتى شقيقه الناقد إيليا حاوي عبر عن استيائه من الطريقة التي نشرت بها الرسائل، وهددها بنشر رسائلها هي، فاعتذرت. وقالت إنها نشرتها “خدمة الباحثين الذين هم بحاجة الى مراجع عند دراستهم لحياة الشاعر، لذلك لم يكن مهماً من هي التي كتب لها.” رسائلها إذن موجودة في حوزة أخيه (توفي في 2000)؟ لماذا لم ينشرها بدل تحويلها إلى سكينة للتهديد؟ اعتذار ديزي الأمير يؤكد على أن الرسائل محفوظة لدى العائلة. كيف يمكن الوصول إليها؟ لماذا لا تُكوَّن لجنة من كبار المبدعين للحصول على النصوص الغائبة لترميم ذاكرتنا الجمعية في أفقها الأكثر حميمة وإنسانية؟ ثم… ما مصير مذكراتها التي كانت تكتبها في آخر عمرها؟


لا خجل من القول إن أدب الرسائل العشقية كما هو موجود في الرسائل العالمية، رهين تطور المجتمعات العربية. إلى ذلك الوقت علينا انتظار زمن طويل قد يقاس بالقرون.

Your Page Title