أثير- عبدالرزّاق الربيعي
وأنا أصغي لكلمات المنشد أنس السليمي وهو ينشد “يا راحلين إلى منى” استحضرت النفحات الروحية التي غمرتنا، ونحن نطوف، قبل سنوات، حول البيت الحرام، ذلك الطواف الذي تسمو فيه الروح، وتصفو النفس، وتحلّق عاليا على أجنحة الوجد:
يا راحلينَ إلى منى بقيادي
هيجتُموا يومَ الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليكم يا وحشتي
والعيس أطربني وصوت الحادي
حرمتمُ جفني المنام لبعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي
وتعدّ قصيدة الشاعر المتصوف عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني الذي عاش في العصر المملوكي في النصف الثاني من القرن الثامن “يا راحلين إلى منى بقيادي” من أجمل القصائد التي تتناول تعلّق قلوب المسلمين بمكة المكرّمة في موسم الحج، وقد بيّن فيها لهفته لزيارة الديار المقدّسة بعبارات تفيض عاطفة، خصوصا أن الشاعر، كما يروى، كتبها، عندما كان في طريقه للحج، لكن المنيّة أدركته قبل وصول مكة، وحين شعر بدنوّ أجله نظم هذه القصيدة التي لم تكن رثاء للنفس كما فعل مالك بن الريب الذي رثى نفسه حين شارف على الموت متذكرا أسرته، وبلاده في قصيدة تُعدّ من عيون قصائد الشعر العربي، وجاء في مطلعها:
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً
بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا
فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه
وَلَيتَ الغَضا ماشى الرِّكابَ لَيالِيا
وَلَيتَ الغَضا يَومَ اِرتَحلنا تَقاصَرَت
بِطولِ الغَضا حَتّى أَرى مَن وَرائِيا
لكن البرعي لم يرجع إلى الخلف، كما يلاحظ من يطالع قصيدة مالك بن الريب، حيث تشير بوصلة القصيدة إلى الماضي الذي يجرّه الحنين إليه، بل تقدّم إلى الأمام، فالحركة في النصّين متعاكسة، فهو لا يتأسف إلّا على عدم قدرته على مواصلة الرحلة، لذا يوصي حجّاج البيت أن يتذكروه، ليكون حضوره معنويّا :
وتذكّروا عند الطواف متيّماً
صبّاً فني بالشوق والإبعادِ
لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ
فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي
ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت منادي
وفي نص آخر يندرج ضمن نصوص كتبها في المديح النبوي يتكرّر إحساسه بدنو الموت فيقول:
ماذا تعامل يا شمس النبوة من
أضحى إليك من الأشواق في كبدي
وإن نزلت ضريحا لا أنيس به
فكن أنيس وحيد فيه منفرد
وارحم مؤلفها عبدالرحيم ومن
يليه من أهله وانعشه وافتقد
وتأكيدا على ذلك يذكر اسمه، وقد تكرّر هذا في قصيدته ” ياراحلين إلى منى” بقوله:
قولوا له عبدُ الرحيم متيِّمٌ
ومفارقُ الأحبابِ والأولادِ
صلّى عليكَ اللَهُ يا علمَ الهدى
ما سارَ ركبٌ أو ترنَّمَ حادِ
فكأن الشاعر أراد بحضور الاسم تأكيد حضور الذات، طمعا بتخصيصه بالدعاء، وهذا وارد في الشعر العربي، ولنا في معلقة امرؤ القيس مثال بقوله:
تَقُولُ وقَدْ مال الغَبيطُ بنَا مَعاً
عَقَرتَ بعيري يا امْرَأَ القيْسِ فانْزِل
ويعدّد البرعي الأمكنة التي يمر بها حجاج البيت الحرام، مستذكرا الشعائر، والطقوس، ومنى، وعرفات والطواف حول البيت، فجاءت تدوينا لها :
ويقول لي يا نائماً جدَّ السُرى
عرفاتُ تجلو كلّ قلبٍ صادي
تاللَه ما أحلى المبيت على مني
في يوم عيد أشرفِ الأعيادِ
الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المنى
وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي
حجوا وقد غفر الإلهُ ذنوبَهُم
باتوا بِمُزدَلَفَه بغيرِ تمادِ
ذبحوا ضحاياهُم وسال دماؤُها
وأنا المتَيَّمُ قد نحرتُ فؤادي
حلقوا رؤوسَهمو وقصّوا ظُفرَهُم
قَبِلَ المُهَيمنُ توبةَ الأسيادِ
لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا
وأنا المتيم قد لبست سوادي
وبعد الحج ومغادرة مكة يذكر التوجه إلى المدينة لزيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-
باللَه يا زوّارَ قبرِ محمّدٍ
من كان منكُم رائحٌ أو غادِ
لِتُبلغوا المُختارَ ألفَ تحيّةٍ
من عاشقٍ متقطِّع الأكبادِ
إن روعة معاني قصيدة البرعي وشدة عاطفتها وارتباطها بالرحلة إلى حجّ البيت الحرام، عوامل حجزت لها مكانة في الشعر العربي، وجعلتنا نستعيدها بمثل هذه الأيّام المباركة.