الروائي الأردني جلال برجس يكتب مقالًا في “أثير” بعنوان: لأني لا أدري كتبتُ

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي الأردني جلال برجس

هل الجبال ثقيلة على صدر الأرض؟ هل حقًا يعيق النهر خطوات الحالمين بالضفاف الأخرى؟ هل تؤلم الأشجار وهي تغرس جذورها في التراب بكل تلك الرغبة بالنمو رقدة الراحلين الذين صاروا أديمًا؟ هل تكتم البحار والمحيطات نَفَس التراب؟ هل تخدعنا السماء بلا نهائيتها، وهي في الأصل تفصل بيننا وبين الأبدية؟

أظن أني كتبت لأنني لا أدري، وليس لي سبيلًا إلى الإجابات إلا عين القلم التي تحدق بدواخلي؛ فقد ولدت في قرية أقامت -من دون أن تقصد-جدارًا منيعًا بيني وبين إجابات أسئلتي التي كانت تتكاثر على نحو لافت من الشراهة. مبكرًا سألت عن الله، وعن الموت، والحياة، والجنس، والكواكب البعيدة. سألت عن الفقراء، والأثرياء، عن الحزن، والفرح، وعن أولئك الذين خرجوا في ليلة كانوا يقرعون فيها الطبول قبالة الحوت وهو يبتلع القمر.

فتشت عن الإجابات في دواخلي؛ فكانت (الماء) كلمتي الأولى؛ سرقت لوح طبشور، وحشرته في جيب بنطالي الذي اشتراه لي أبي من متجر الملابس المستعملة، دون تبرم من رائحتها المميزة. وعدت مسرعًا إلى البيت، بيتنا الذي طلي باللون الأسود. ربما كان للدهان رأي في حكمة لون الغراب، وغربته الأبدية، وتهمته بالشؤم. ربما كان رأي أبي، يغري الشمس بسطوعها ضد البرد، على تلك الربوة التي بني البيت عليها في قريتنا المصابة بالحنين (حنينا). أو ربما هي محض صدفة في اختيار الألوان، كما يحدث دائًما في اختيار أسمائنا التي تعلق بنا إلى ما لا نهاية. في ذلك النهار أرخيت حقيبتي المدرسية ووقفت أمام الجدار ولوح الطبشور في يدي، كطبيب يحمل بيده مشرطًا يريد أن يشج بطنه ليستأصل زائدة تبرحه وجعًا. لكنني لم أكن على أهبة حدث من هذا النوع، بل كنت أسعى إلى أن أطيّر عصفورًا منذ لحظة وعيي الأول وهو يتوسلني الحرية. لذا مددت يدي إلى الجدار وكتبت، كتبت: الماء، وأنا أشعر بالعصفور يتجاوز قفصي الصدري ويطير بعيدًا إلى الأفق. منذ ذلك اليوم، وأنا أسمع خرير الماء، رغم العطش، وأرى العصفور يحلق بعيدًا رغم شعوري بالاختناق.

هل تتعب الطرق من خطواتنا نحو نقطة في الأفق لا ندري هل هي حقيقة أم محض وهم دائم؟ هل تتألم الأحذية من سردية المسافات؟ هل تحن الحقائب التي نتركها على الرفوف بانتظار إبحار إلى ضفة جديدة؟
لا أدري. لكنني مضيت نحو الكتابة أكثر؛ إذ اشتريت دفترًا، وقلمًا، واتكأت على جذع شجرة في أطراف القرية، ورحت أكتب ما لم أستطع قوله لأبي حين رأيته يتقدم نحو أمي ليضربها. في تلك اللحظة وحين كانت يده معلقة في الهواء بينه وبينها، أصبت بالخرس، فأنقذتني الكتابة، كتابة يومياتي التي صارت لازمة نهاية كل يوم من أيامي. لازمة دربتني على أن أقف قبالة هذا العالم الذي أراه من نافذتي الداخلية بكل حروبه، واقتتالاته، وتناحراته، ورغم تلك اليد التي ما تزال تحاول محو صورة آدم من جدار ذاكرتنا.


وحين تسقط الأحلام يولد الشعر. ارتحلت إلى الصحراء الأردنية الشرقية بعد أن تسرب الحلم من بين يديّ في أن أكون طبيبًا.

الصحراء نفس طويل لمرتحل توقف وأرخى العنان لرئتيه قبالة التعب. لون واحد. شمس حارقة. وليل مرصعة سمائه بالنجوم؛ فكتبت قصائد أرسم عبرها مشاهد للأيائل وهي تهبط من رؤوس الجبال محملة بمصابيح لا تنطفئ. وقصائد عن نساء يمشين على سهو الماء عريا. وقصائد عن بلدان يلعب فيها الصقر مع الحمام. وقصائد عن نهر يشج الرمال الصحراوية ويعلن عن الاخضرار.
ذات ليلة همت على وجهي في الصحراء، افترشت التراب أراقب النجوم كيف تناكف الظلمة. كان الهواء طريًا وهو يمر بين الحشائش التي لا تحاج إلى كثير من الماء لتبقى صامدة قبالة الهجير. في تلك الليلة وعلى صدى حكايات جدتي التي كانت تسند عودي بها في الطفولة استسلمت لإغواء الرواية، من دون أن أدري أن ما سوف أكتبه في تلك السنين الصحراوية ستكون مجرد تمارين على السرد. تمارين على أن أكتبني كائنًا متحركًا في عالم أقل ما يمكن أن أقول عنه أنه عالم ملتبس ومربك. لقد صارت لي الكتابة وطنًا موازيًا، إن توقفت عن بناءه سيموت؛ فأموت. الكتابة وطن لن يكتمل رغم كل البيوت التي بنيناها على أرض الورق. إن كتبتُ عن شجرة، فإني أشير إلى يدي، وإن كتبت عن السماء فإني أقصد روحي، وإن كتبت عن البيت، والطريق، والناس، والبحار، والأنهار، وحتى عن الذي لم يأت بعد؛ فإني أكتب عني.


في عام 2007 وبعد ثمانية عشر عامًا من العمل على الطائرات الحربية غادرت الصحراء، قارئًا وكاتبًا، ودفعت بكلمتي إلى القراء، متجاهلًا ذلك السؤال الذي يطرح حول دوافعنا إلى الكتابة، لكنني فيما بعد قلت على لسان إبراهيم في (دفاتر الوراق) أني: (أكتب لأردم هوة تخلقت بي على نحو معتم). وقلت ما يشبه هذا الاعتراف على لسان خاطر في (أفاعي النار)، وعلى لسان سراج في (سيدات الحواس الخمس). أعترف أني اختبأت وراء شخصيات في رواياتي، وصرخت بحرية من يدرك أنه لن يُرى. ربما هذا ما جعلني أتمسك بكتابة الرواية رغم ما فيها من تعب كبير. لا أشعر بمتعة أثناء الكتابة، شعوري يشبه شعور من علقت في حلقه لقمة ناشفة يجاهد أن يتخلص منها. أقوم بذلك وأنا أسمع صوتًا داخليًا يحثني على المحاولة، ويعدني بمزيد من الأوكسجين.

وها قد مضت السنين، كل شيء تغير إلا الكتابة التي أكابد معها ألمًا يصعب عليّ وصفه، وأنا أبدد بالحبر سكينة البياض في الصفحة. لهذا أجد أن أكثر الأسئلة إرباكًا هو ذلك الذي يفتش عن أسبابها. وغالبًا ما تعادل الإجابة الصريحة أن أخلع ملابسي في الشارع، وأمشي عاريًا؛ فيكتشف الناس ندوب جسدي، وعيوبه. وكانت أكثر إجاباتي افتعالًا هي قَولي أني أكتب لأرمم جبين العالم مما ألمَّ به من ثقوب جراء حفل سوريالي للبنادق دبر بليل ما يزال مستمرًا.

وها قد مرت السنين وما زلت موغلًا في ورطة الكتابة، في طريق لأكثر من مرة حاولت أن ألتفت إلى بدايتها لأعود، لكني ما استطعت لأني كنت أسمع خرير الماء رغم العطش، وأرى عصفورًا يحلق بعيدًا رغم شعوري بالاختناق.
*شهادة إبداعية قدمت في ملتقى السرد الأردني الأول


Your Page Title