أثـيـر – مـحـمـد الـعـريـمـي
كيف للإنسان أن يثق بإنسان آخر دون أن تربطه صلة قرابة به ودون معرفته معرفة تامة. قد نسمع عن قصص يسودها النصب وأكل الحق والخيانة، لكن الإنسانية دائما ما تنتصر، ومكارم الأخلاق هي جوهر التكوين الإنساني لذلك هناك من الشواهد والقصص ما يبعث الطمأنينة ويجعلنا نؤمن أن الخير موجود في الإنسان إلى أن تقوم الساعة.
قصتنا التي نسردها عبر “أثير” لم نجد لها عنوانا يختصرها إلا بـ “كرمٌ وجودٌ كويتي وشهامةٌ ووفاءٌ عُماني”، رغم أن القصة حدثت قبل عشرات السنين إلا أنها باقية في الأذهان والكثير منا قد يسمع عنها لأول مرة.
“أثير”
“كرمٌ وجودٌ كويتي وشهامةٌ ووفاءٌ عُماني”
بعد مرور عاميْن على حكم السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه- كانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها في مرحلة البناء والنهضة، خصوصًا في ظفار، فنتيجة لبعض الأحداث الدائرة هناك آنذاك كانت الحاجة ماسة لكل ما يسهم في بناء الأرض وتعميرها من بنى أساسية ومرافق وغيرها، وتسخير كل ما يَكفل للمواطن حق العيش الكريم.
تحديدًا في عام 1972م كان الشيخ عمر بن عوض بن حفيظ الرواس من ظفار في ريعان شبابه، وكأي شاب راودته فكرة التجارة وعدم الاعتماد على الراتب فقط، فقام يسأل عن تجارة لا تثقل كاهليه فيما بعد، ووجد أن المشاريع في ظفار قائمة إلا أن عدم توفر المُعدّات الكافية بالعدد المطلوب مقارنةً بعدد المشاريع الكثيرة يتسبب في تأخر بعض المشاريع.
بعد أن جمع عمر المعلومات الشاملة حول مركبات المعدات الثقيلة المطلوبة والنوعيات الجيدة، نما إلى علمه أن عليه التوجه إلى دولة الكويت كونها كانت الرائدة في المنطقة بمجال المعدات الثقيلة وتُجارها أصحاب الوكالات.
لم تكن لدى الشيخ عمر المبالغ التي تكفي لشراء تلك المعدات الثقيلة بالمجموعة التي يريدها، فقام بجمع المبالغ من بيع بعض الأشياء وغيرها، وتوجّه إلى الكويت متوكلًا على الله، ولدى وصوله ليلًا أقام في فندق، وفي صباح اليوم التالي استقل سيارة أجرة وتوجّه إلى أحد معارض بيع المعدات الثقيلة وعند دخوله رحّب به أحد الموظفين، ولأن المجموعة كبيرة أُدخل على صاحب ومدير الشركة الكويتي يوسف بن أحمد الغانم.
عبّر عمر لصاحب الشركة عن رغبته في شراء 5 مركبات معدات ثقيلة وتوصيلها إلى سلطنة عُمان، لكنه تفاجأ بقول يوسف بأن سعر إحدى المعدات يبلغ نحو 4 آلاف ريال عُماني، فتبين ليوسف صدمة عمر بعد معرفته السعر خصوصًا بعد أن سأله عن إمكانية توصيل مركبة واحدة فقط إلى ظفار.
سأل يوسف عمر عن مكان إقامته وبعد علمه أنه يقيم في فندق قرر أن يستضيفه في بيته ولم يتقبل عمر ذلك إلا أن يوسف كان شديد الإصرار على استضافته كونه خليجيًا، وبعد إصرار يوسف حزم عمر أمتعته من الفندق وأقله أحد موظفي شركة يوسف إلى بيته، وقرر أن يستضيفه 3 أيام، ورغم امتنان عمر وتعبيره عن شكره ورفضه، إلا أن يوسف أصرّ على ذلك.
خلال أول يوم من استضافة يوسف لعمر كلّف أحد موظفي الشركة بأن يأخذ عمر في فترة العصر إلى عدة معارض لرؤية مركبات المعدات الثقيلة وأسعارها، وفي اليوم التالي ذهب يوسف إلى شركته وبرفقته عمر الذي تكونت لديه صورة كاملة عن الأسعار في المعارض الأخرى.
لم يرغب يوسف بعودة عمر خالي الوفاض، وبكرمٍ منه سأل عمر عن المبلغ الذي لديه وأعطاه المبلغ الذي يكفِ لمُعدة واحدة تقريبًا، فأعاد يوسف المبلغ لعمر وقال له ستحتاجه في عمل المعدات وأنت أكثر حاجة مني لهذا المال والمعدات ستصلك إلى ظفار، وبعد عملك إذا فتح الله لك الرزق فأنت أحرص مني على سداد المال والحق، ذُهل عمر بكرم يوسف وثقته في شخص لا يعرفه.
في ثالث يوم قام يوسف وعمر بتخليص إجراءات نقل ملكية المعدات الثقيلة، ثم عاد عمر إلى ظفار، وبعد مرور نحو شهرين استقبل معداته من الميناء ونقلها إلى أمام بيته، ذُهل الجميع كون عمر لم تكن لديه الإمكانية لشراء كل تلك المعدات. كما أن المعدات لم تكن بتلك الوفرة في ذلك الوقت.
ظل عمر يفكر في كيفية إعادة المبلغ ليوسف فعدّه دينا عليه يجب أن يُعاد لصاحبه، وبعد مرور أيام فقط طرقت بابه إحدى الشركات وعبّرت عن رغبتها في استئجار المعدات جميعها مقابل ألفي ريال عماني، ووافق عمر على الفور واتفقوا على التوقيع في اليوم التالي في مقر الشركة.
في اليوم التالي طرق أحدهم باب عمر وإذا به أحد الأشخاص من جنسية بريطانية وبرفقته مترجم، رحب عمر بضيوفه وعبّر البريطاني عن رغبته في استئجار المعدات كونه مهندسًا وأُسندت له العديد من المشاريع وبعضها متوقفة بسبب عدم توفر المعدات وسيكون المقابل مجزيا، لكن عمر قد أعطى موافقته وكلمته للشركة السابقة فأخبر البريطاني أنه لا يستطيع تأجير المعدات لهم بسبب إبداء موافقته المبدئية لإحدى الشركات.
بعد رفض عمر؛ قال البريطاني بأن شركته أولى بالمعدات وتقوم بمشاريع مرتبطة بالدولة وسيكون مقابل ذلك ضعف المبلغ الذي أُعطي له من قِبل الشركة الأولى، لكن عمر بقي متمسكًا برفضه وبكلمته التي أعطاها للشركة السابقة، فاقترح البريطاني لعمر بأنه سيخاطب الشركة لإمكانية تراجعها عن توقيع العقد، ووافق عمر إذا كان التراجع سيتم من قِبل الشركة.
في اليوم التالي جاء الشخص الذي كان قد اتفق معه سابقًا واعتذر منه وتراجع عن توقيع العقد، وبعدها قام عمر بتوقيع العقد مع اشركة البريطاني بـ 7 آلاف ريال، ووصلت هذه القصة إلى مسامع والي ظفار آنذاك الشيخ بريك بن حمود الغافري كون البريطاني يعمل على مشاريع للدولة، ولأن الشيخ كان واليًا ومُطلعًا على أحوال المجتمع وأوضاعهم؛ فقد أمر في اليوم الثاني بعد توقيع العقد باستدعاء عمر لتبادل الأحاديث معه وعن كيفية توفير تلك المُعدّات وهو يعلم أحواله أنه لا يستطيع شراء هذا العدد من المعدات.
أخبر عمر الشيخ بريك بقصته مع يوسف وأنه لم يدفع ريالًا واحدًا مقابل مركبات المعدات الثقيلة وتوسّم يوسف فيه خيرًا، ويعد المبلغ دينا، وبعد أن علم الشيخ بريك بقصة عمر مع يوسف سلمه شيكًا مقدمًا لـ 3 أشهر من الإيجار وهو 21 ألف ريال عُماني، فقدّم عمر شكره وامتنانه للشيخ.
غمرت عمر فرحة عارمة لأنه سيُعيد المبلغ أو بعضًا منه ليوسف، فتوجه إلى الكويت وفي اليوم التالي من وصوله خرج عمر من الفندق متوجهًا إلى البنك البريطاني للشرق الأوسط فأخذ الـ 21 ألف ريال وتوجه إلى شركة يوسف، فرحّب به وقدّم عمر شكره ليوسف وأبلغه أنه أحضر المبلغ أو بعضًا منه لإعادته وهو 21 ألف ريال عماني، لكن يوسف ذُهل من ذلك وظن أن عمر اقترض المبلغ خصوصًا أنه لم يمضِ على اللقاء الأول أكثر من 3 أشهر، إلا أن عمر أخبره بقصته مع الوالي.
قدّم يوسف شكره لعمر ولم يخب ظنه فيه، لكن كرمه لم يقف عند هذا الحد فقد أراهُ شيئًا قد نظنه مستحيلا لكنه واقع وحقيقة، حيث فتح يوسف خزانته وأخرج منها ورقة أعطاها لعمر، والورقة عبارة عن وصية بها نص تفاصيل البيع بينهما، حيث كُتب فيها “إذا أعاد عمر المبلغ يُستلم منه، وإن لم يعده فهو مُسامح وليُعتبر من ثلث ماله الخاص”.
ختامًا؛ رحم الله الشيخ عمر بن عوض بن حفيظ الرواس ويوسف بن أحمد الغانم؛ فقد سردنا هذه القصة بالتواصل مع عائلة عمر، وهذه القصة من آلاف القصص التي يكون عنوانها الكرم والجود والشهامة والوفاء، خلافًا لبعض القصص التي نسمع عنها اليوم، والتي بعض أطرافها تجرد من الإنسانية والعروبة والمروءة. ونعم يجب ألا نثق ونقع في فخ الاحتيال والنصب لكن في المقابل نجد قصصًا إيجابية لا بد لها أن تُذكر؛ حتى لا يظن البعض أن النخوة والمروءة ومكارم الأخلاق قد ماتت.