أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
تنبت الفكرة في رأس الكاتب وتنمو وتتشكّل تمامًا كما يتشكّل الجنين في رحم أمه. الحالة التي يعيشها الكاتب مع أفكاره ومشاعره، التي يود تسطيرها على الورق، لا يشاركه فيها أحد، لأنها حالة خاصة جدًا متى خرجت إلى العلن قبل أوانها فقدت الكثير من خصائصها تمامًا كحال الجنين الذي يولد قبل الأوان.
لحظة الكتابة لحظة حرية مطلقة، يتحرر خلالها الكاتب من القيود والأغلال وأعين الرقباء والقراء على السواء، وأحيانًا كثيرة تكون هذه اللحظة خارج المكان والزمان حتى وإن كان الكاتب يعبِّر عنهما.
للوهلة الأولى يبدو ثمة شيء من التناقض في هذا القول. إذا كيف نكتب واقعًا نحتاج للانفصال عنه لحظة كتابته. هنا ينبغي التمييز بين لحظة تشكُّل الفكرة وبين لحظة ترجمتها حبرًا على ورق. الفكرة لا تتشكّل في معزل عن الواقع، ولا عن الظروف التي يعيشها الكاتب، ولا حتى عن الأهواء التي يعتنقها أو يميل إليها. لكن ما أن تحين ساعة الكتابة، أي ساعة تحوّل الأفكار التي في الرأس إلى كلمات وتعابير وجُمل تُشكِّل بنيان النصّ الشّعري أو النثري، حتى ينعزل الكاتب عن كل ما يحيط به، وينفصل عن المكان والزمان، كأن ما من وجود عنده لغير القلم والورقة.
هذا الانفصال ضروري كي لا يقع النصّ تحت تأثيرات خارجية لا صلة لها بالفكرة المُراد التعبير عنها. بتعبير مبسّط أكثر لا يمكن للشاعر مثلًا كتابة قصيدة اختمرت في فكره ووجدانه، فيما باله مشغول بمستلزمات الوظيفة أو المهنة التي يزاولها، ولا بهموم الحياة اليومية والمشاغل العائلية، ولا بمن سوف يُعجَب بالقصيدة أو العكس. وهي حقًا مفارقة أن ينفصل الكاتب عن الواقع حتى وهو يكتب هذا الواقع. مرَّةً أخرى: لحظة الكتابة شيء ومضمون الكتابة شيء آخر. فالمسافة ضرورية بين لحظة الكتابة وما نكتب عنه حتى لو كنا نعيشه كل يوم.
هذه المفارقة أوقعت كثيرًا من الكتّاب في نوع من الانفصام. فالكاتب مشغول بهذا الواقع وينشد تغييره أو تطويره لكنه يعجز عن الاندماج فيه، أو على الأقل يحتاج للابتعاد عنه كي يراه بعين أكثر شمولية. وكلما زاد وعي الكاتب بواقعه كلما زادت رغبته في العزلة، ولقد كُتب الكثير في غربة المثقف وعزلته. لكننا في هذه الأسطر لا نقارب المسألة من زاوية الغربة النفسية أو الفكرية التي يعيشها الكاتب وتجعله منفصلًا عن واقعه. بل نقصد تلك “العزلة التقنية”(إذا جاز التعبير)، التي يحتاجها كي يسطّر ما يريد تسطيره.
هنا يخطر فورًا سؤال عن علاقة الكاتب بالقارئ. هل يستطيع الكاتب أن يتحرّر كليًا من سطوة القارئ. بمعنى آخر هل يحضر القارىء في ذهن الكاتب أثناء الكتابة؟ هل يكتب الشاعر أو الروائي أو الفيلسوف لقارئ معين أم يكتب لجميع القراء على اختلاف مشاربهم وأذواقهم؟ في الواقع علاقة الكاتب بقارئه علاقة شائكة ومعقدة، لا سيما أثناء الكتابة، لأن حضور القارئ في هذه الأثناء قد يدفع الكاتب إلى نوع من المجاملة بحيث يغدو نصّه أقرب إلى ما يريده هذا القارئ الحاضر في ذهنه. لذا من الأفضل دائمًا أن يتحرّر الكاتب لحظة الكتابة من سطوة أي قارئ كي يستطيع كتابة نصٍّ لا يُساير ولا يُجامل أو يهادن.
أسارع للقول إن التحرّر المطلوب هو أثناء ولادة النصّ. أما حين يصير النص مطبوعًا ومنشورًا بين دفتي كتاب. فمن الطبيعي والبديهي أن يهتم الكاتب بوصول كتابه إلى أوسع شريحة ممكنة القراء، وإلّا ما معنى الطباعة والنشر إذا كنا نريد تحرير الكتاب من قارئه. المطلوب تحرير الكاتب لا الكتاب. لأن الكتاب الذي لا يُقرأ كأنه لم يُكتب. وبحسب پول أوستر “القارئ هو الذي يصنع الكتاب في نهاية المَطاف”.
لكن هل حقاً يستطيع الكاتب أن يتحرّر كليًا من قارئه. ألم يقع كتّاب كثر أسرى نجاح رواية أو ديوان شِعر، وراحوا ينسجون على نفس المنوال لأنهم عاش لذة نجاح هذه الرواية أو هذا الديوان. ألا يحشر القارئ أحيانًا كاتبه في زاوية معينة لا يريده أن يغادرها لأنه أحبّه فيها ومن خلالها؟ تمامًا كما يفعل المنتج أو المخرج بالممثل حين ينجح في دور معين فيتم أسره داخل أدوار مشابهة توقعه في النمطية والتكرار. مع الفارق أن المنتج والمخرج هما المتحكمان باللعبة ولا حول ولا قوة للممثل إلا إذا كان قادرًا على قول لا ومغادرة اللعبة برمتها. أما الكاتب فهو نفسه صاحب اللعبة والمتمكّن منها، باستطاعته إذا أراد وامتلك شجاعة التحرر أن يأخذ قارئه في الاتجاه الذي يريد، من دون أن يعني ذلك استخفافاً بالقارئ أو تقليلًا من قيمته، لأن معادلة النشر قائمة على طرفي العلاقة: الكاتب والقارئ.
طبعًا الأمر ليس بهذه السهولة ولا بتلك البساطة. جميعنا يقع تحت سطوة النجاح في لون كتابيٍّ معين، نطمئن له ونرتاح، ويكفينا شرّ القتال. لكن حالات الراحة والاسترخاء غالبًا ما تودي بنا إلى نوع الكسل والبلادة، وتكبح جماح رغبتنا في المغامرة والاكتشاف وخوض تجارب جديدة. ولئن كانت العلاقة سابقًا قد جعلت الكاتب مرسِلًا والقارئ متلقيًا، فإن التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي بدّلت واقع الحال، إذ أصبح الكاتب مرسِلًا ومتلقيًا والقارئ متلقيًا ومرسِلًا في آن. بمقدار ما سهّل هذا الأمر العلاقة بين الطرفين وجعَلها أكثر إمتاعًا، بمقدار ما جعلها أكثر تعقيدًا، لأن عملية التحرّر التي يحتاجها الكاتب باتت تحتاج جهدًا مضاعفًا، لأن التقنيات الحديثة تكاد تجعل القارئ شريكًا في ما يكتبه الكاتب.
من الناحية الإنسانية هي شراكة جميلة بلا شك. إذ ليس أمتع من التفاعل الحارّ بين شريكَي المعادلة. خصوصًا وأن هذا التواصل قد تحرّر من الوسطاء السابقين مثل الصحافة والنقاد، وبات يحصل بشكل فوري ومباشر، لكن من المهم هنا التأكيد على ضرورة عدم وقوع الكاتب تحت هاجس مراضاة المتلقي، وأن يظل منحازًا لحريته في الكتابة، وأن يحفظ للقارئ حريته في قبول النصّ أو رفضه، لأن العلاقة القائمة على احترام حرية طرفيها هي العلاقة الصحية المثمرة والمنتجة لمزيد من الإبداع الذي لا يعيش إلا بطرفيه: كاتب يحترم قارئه وحريته، وقارئ يحترم كاتبه وحريته.
لا كتابة بلا حرية.
لقد أوجزت نظرتي للعلاقة بين الكاتب والقارئ في قصيدة بعنوان “خُذْ هذه القصيدة” ومنها:
خُذْ هذه القصيدة، حقًا خذها
لا تقلْ إنني شاعرها
ضعها قرب وسادتك
اقرأها لحبيبة تنتظرك
مَن يجعلها قصيدة غير قارئها
مَن يزيدها فتنةً غير قلبٍ مرتجفٍ كمعانيها
(…)
خُذْ هذه القصيدة، خذها
احملها لمن تشاء
لا تقلْ مَن شاعرها
شاعرها أنت
أولها أنت، آخرها أنت
(…)
في زحمة الشوق إليها
اقرأ لها، اقرأ عليها
أسمِعها بصوتكَ، لا بصوتي
قلْ لها كم تحبها
تحب الماء الدائم في وجهها
تحب الجمر المتأهب في جلدها
(…)
هذه القصيدة لك
خذها، حقًا خذها
أنّى كنتَ، أيّاً كنتَ
هذه القصيدة لك
اقرأها ولا تحدثها عن شاعرها الذي مرّ يومًا على هذه الأرض.