فضاءات

مدارس عريقة في حالة يُرثى لها؛ فأين أنتِ يا وزارة التربية والتعليم؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتربوية في مجلس الدولة

سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر، مبدأ رسمه سلطان عمان الراحل السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- بدأت فيه مرحلة جديدة في سلطنة عمان، كان التعليم هو أول ما شغل بال القائد الملهم، وهو يرى أبناء وطنه وما يحملونه من روح الكفاح والنضال والعمل والعطاء متعطشون للعلم والمعرفة، فكانت نهضة التعليم خطوط ممتدة نحو المستقبل، وفي أقل من عقدين من الزمان انتشرت المدارس في أرض سلطنة عمان في السهل والجبل والصحاري وبطون الأودية، والمدن والقرى، والمناطق البعيدة والقريبة، مشكّلة تحولا كبيرا في حياة العمانيين وانطلاقتهم لبناء عمان المستقبل، فاق الوصف، وحاز على إبهار العالم وإعجابه في ميكانيزما القيادة وحكمة الإدارة، وروح الإرادة التي صنع منها قابوس بن سعيد هذا التحول، إذ كيف يمكن في هذه الفترة الوجيزة من الزمن أن تنتشر المدارس وينعم أبناء عمان بفرص التعليم في بلد لم يزيد عدد المدارس فيه عن ثلاث مدارس، كما لم يكن للمرأة فيه أي موقع وحضور.

“التعليم حق لكل مواطن”، و “التعليم إلزامي حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي” بنص المادة (16) من النظام الأساسي للدولة، كان ذلك محطة انطلاقة على أن التعليم هو الأساس، فهو طريق الحياة الآمنة المطمئنة للمواطن في عرصات العلم والمعرفة والثقافة والفكر والعطاء والإنتاجية والوعي، ففتحت المدارس أبوابها للمواطنين، وفتحت مراكز محو الأمية وتعليم الكبار لمن لم ينالوا حظهم من التعليم أو فاتهم قطاره ممن تجاوزت أعمارهم سن الدخول للمدارس، وشيدت سكنات الإقامة للمعلمين الوافدين في مختلف الولايات في تلك الفترة من الزمن، كما شيدت السكنات الداخلية الملحقة بالمدارس في التعليم ما بعد الأساسي للطلبة والطالبات في مدارس المدن ومراكز الولايات التي ترفدها مداس المناطق البعيدة، ولخدمة طلبة المدارس في التعليم الأساسي وما بعد الأساسي في مراحل أخرى للذين لم تسعفهم فرص الحصول على التعليم في المدارس القريبة، نظرا لقلة أعدادهم أو لصعوبة تجشمهم لهذه المسافة الطويلة والشاقة من وإلى مساكنهم، حتى وفرت لهم الدولة السكن والإقامة والأمان والاستقرار والغذاء والطعام، كما وفرت لهم العلم والتعلم والثقافة والمعرفة؛ وما إن انتهت فترة الثمانينات وقليلا من فترة التسعينات إلا وبدأت مرحلة جديدة وصلت فيها مدارس التعليم ما بعد الأساسي إلى كل ولايات السلطنة بدون استثناء لتخدم أبناء المحافظات، ويتم الاستغناء عن السكنات الداخلية للطلبة.

وفي كل المراحل ظلت عملية التجديد والتطوير حاضرة في المدارس وعبر إنشاء مدارس جديدة لمختلف المراحل (الحلقة الأولى من التعليم الأساسي، والحلقة الثانية من التعليم الأساسي، والتعليم ما بعد الأساسي)، آخذة في الاعتبار التحولات الحاصلة في المبنى المدرسي تخطيطا وتنظيما وبنية هندسة وفق أفصل المواصفات والمعايير والمقاييس التي تصنع منها بيئة تعليمية آمنة وجاذبة يستطيع أن يمارس فيها الطالب حقه التعليمي بكل أريحية، كما يستطيع المعلم وأعضاء الهيئة التعليمية يمارسون أدوارهم بمزيد من المهنية والاحترافية والتطوير، فرافق البناء الهندسي والتصميم الداخلي للمدارس والتطور الحاصل فيه، البناء المعرفي والفكري والمحتوى التعليمي في تكاملية وتوازن وتناغم مع طبيعة التحول الذي عاشته عمان، والرؤية الوطنية للتعليم، بوابة عمان إلى المستقبل.

وبعد مرور ما يزيد على خمسة عقود ونيف تعيش سلطنة عمان اليوم نهضتها المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في استمرار منظومة البناء والتطوير في إنشاء المدارس، مرحلة عززها البناء التشريعي بإصدار قانون التعليم المدرسي بالمرسوم السلطاني رقم (31/ 2023) الذي تناول في مواده (34، 35، 36) جملة من الالتزامات والمسؤوليات التي تستهدف المحافظة على المبنى المدرسي الحكومي، لينال نصيبه من المتابعة والصيانة والإدارة والرعاية من قبل أعضاء الهيئة التعليمية والعاملين في المدارس والطلبة؛ لتعود بنا الذاكرة والذكرى ومشاهد الواقع ونحن نتجول في بيئات عمان ومدنها إلى هذا الرصيد الكبير في عدد المباني التعليمية المدرسية سواء كانت المدارس العريقة، وسكنات الهيئات التعليمية، وسكنات الطلبة الملحقة ببعض مدارس التعليم ما بعد الأساسي في المحافظات، بالإضافة إلى مبان آخرى تقع تحت مسؤولية وزارة التربية والتعليم.

لقد اتخذت الوزارة في السنوات الماضية نهجا تطويريا يقوم على إحلال بعض المدارس التي لم تعد قادرة على استيعاب الطلبة أو صالحة للاستعمال والاستخدام، خاصة تلك التي مر على إنشائها فترة طويلة من الزمن، أو غيرها التي تواجه خطر الاندثار، واتجهت خلالها خطط الإحلال إلى استبدالها بمدارس جديدة أو بمبان أخرى نظر لعدم كفاءتها للاستخدام أو قابليتها للصيانة، نظرا لارتفاع التكاليف التي تحتاجها صيانة أو ترميم هذه المدارس، أو عدم جدوى استخدامها نظرا لانتقال الاحياء السكنية إلى مناطق أبعد أو بسبب تعرضها للأنواء المناخية، نتيجة قربها من الشواطئ، أو موقعها في المنخفضات والأودية أو تأثرها بمخططات البنية الأساسية كالطرق وخطوط الكهرباء والمياه والصرف الصحي والإنشاءات الأخرى، وفتحت المخططات السكنية الجديدة الخيار لفرص بناء مدارس جديدة خارج حاضرة الولاية أو مركز المدينة، لتتجه المخططات الإسكانية الجديدة إلى مناطق أخرى أكثر اتساعا وأكثر فرصة لنمو الخدمات وحصول الفرص الإسكانية والخدمات الأساسية فيها، لتظل تلك المدارس في أماكنها شامخة بإطلالها تنتظر مدد الاهتمام وطريق المعالجة وتصحيح المسار؛ بإقامة مشروعات اقتصادية، إسكانية وتجارية عليها أو إعادة تأهيلها والاستثمار فيها في ظل ما تحتله من مساحات كبيرة في وسط المدن والأحياء، وما تشكله من موقع إستراتيجي في مسار الاستثمار والبناء.

ومع القناعة بأن المعطيات والظروف التي واجهتها هذه الأبنية وغيرها كانت سببا في بقاء هذه المباني أطلالا شاهدة على عراقة ما قدمته في مسيرة التعليم، إلا أن من المؤلم حقا أن تظل هذه المدارس العريقة في حالة يرثى لها، لتواجه خطر الاندثار بفعل الطبيعة، والانهيار بفعل الإهمال وغياب الاهتمام، ولتصبح خطرا يهدد البيئة وحياة الناس في بيئات موحشة أصبحت مأوى للحيوانات السائبة والأفاعي والحشرات الضارة وتراكم الأوساخ والقاذورات أو أماكن مهجورة لاستخدامها من قبل الأيدي الوافدة والسائبة غير المرخصة أو غير ذلك مما بات يعكس صورة غير حضارية لبيئات العلم والتي كانت حاضرة المعرفة، ومنارات العلوم، وشكلت رمزا للقوة والنهضة والمبادئ وإشراقة النور وميلاد الأمل وإنتاج البشر وصناعة الإنسان، لتصبح أماكن مهجورة، وبيئات مفزعة غير مريحة، وأطلال تبكي عليها الأزمان.

عليه فإن أهمية وخطورة الوضع الذي باتت تشكله هذه المباني على الصحة العامة والبيئة والسكان، يستدعي اليوم تكاتف الجهود في إيجاد معالجات حكيمة لهذا الملف، وفق سياسات وطنية تحافظ على مكانة بيئات العلم، وتعيد إنتاجها وفق طبيعة الظروف والمتغيرات، وتوجه فرص الاستثمار لها أو إعادة تأهيلها بحسب كفاءة هذه المباني، ويبقى على وزارة التربية والتعليم ووزارة المالية والجهات ذات الصلة بالعمل على تبني سياسات تشغيلية وتطويرية لهذه البيئات، آخذة في الاعتبار معطيات الموقع الإستراتيجي والآلية التي يمكن الاستفادة منها والمنشأة التي يمكن بناؤها على هذه الأراضي بعد إزالة هذه المباني المتهالكة والفرص المتحققة منها، والتوسع في الخيارات والبدائل التي تتيح الاستفادة من هذه المدارس وبشكل خاص تلك التي تحتضن موقعا اقتصاديا واستثماريا مهما، أو ما زالت المناطق حولها تعج بالسكن والحياة والنشاط والأنشطة الاقتصادية، ذلك أن بعض هذه المباني المدرسية تقع في مواقع إستراتيجية في وسط المدن، وفي بيئة إسكانية أو تجارية تعج بالحياة وفرص التطوير والتجديد وتشهد العديد من الاستثمارات في الأراضي التجارية والأنشطة الاقتصادية، بينما تعكس حال بيئات التعليم أشباحا وأطلالا تبكي عليها النفس ويدمي لها القلب، خاصة في ظل انتشارها في كل ولايات السلطنة ومحافظاتها، ولو تتبعنا الأمر لوجدنا أن في المحافظة الواحد ما يربو على مدرستين أو ثلاث أو أكثر بهذا الحال من الإهمال، يضاف إلى المدارس العريقة التي واجهت نظام الإحلال مواقع الإدارات التعليمية بالمحافظات والمخازن حتى فترات سابقة قبل أن تنتقل إلى مواقع ومناطق إسكان أخرى، والسكنات الداخلية للطلبة والطالبات الملحة ببعض المدارس في الولايات وكذلك مباني سكنات المعلمين والمعلمات المنتشرة في العديد من المدارس في مختلف ولايات سلطنة عمان ومحافظاتها، كل هذه المباني وغيرها مما لا يسع المجال لذكره، شاهد إثبات على حالة الإهمال التي تواجهها منشآت وزارة التربية والتعليم التي واجهها نظام الإحلال أو التي انتفى الغرض من استخدامها أو تم الانتقال منها إلى المباني الجديدة، وهي تتعرض بشكل يومي إلى مخاطر الاندثار حتى أصبحت بيئات موحشة بعد أن كانت تعج بالحياة ونهل العلم، كما أصبحت مصدر قلق لسكان الأحياء السكنية المحيطة بهذه الأبنية، وإن مما لا يقبله المنطق الحسن والذوق السليم والشعور الراقي والمزاج العام أن تظل هذه المباني التعليمية على حالها، ظاهرة للعيان في مظهرها غير السار للناظرين بما يحيط بها من صور الإهمال الذي تواجهه، ودون أن يكون لها نصيبا من الاهتمام والنظافة والرقابة والمتابعة وتصحيح أوضاعها وقد مضى على إحلالها سنوات طويلة، في صمت مخيف بات يفصح عن سوء إدارة أو استثمار لهذه المباني، الأمر الذي يدعو إلى الخروج من نمطية التفكير بعرضها إلى المنافسة والاستثمار، أو استخدام مواقعها في تعزيز التوجهات الوطنية الساعية إلى تطبيق التعليم التقني والمهني في التعليم المدرسي.

أخيرا يبقى التساؤل الذي يبحث عن إجابة مقنعة هو، أين دور وزارة التربية والتعليم في إعادة هندسة الاستثمار في هذه المباني عامة؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل تدفعنا إلى الحاجة إلى فهم أعمق لما يجري في مجال الاستثمار في التعليم كأحد مستهدفات مخرجات رؤية عمان 2040 في قطاع التعليم، وكيف يمكن أن نصنع من هذه البيئات التعليمية والمباني الصالحة للاستخدام وغير المستغلة، محطة البدء في تعظيم الاستثمار في المبنى المدرسي كأحد أنواع الاستثمار التعليمي؛ تساؤلات ونقاشات ومشاهد تفصح عن حالة عدم الوضوح في مسار الاستثمار التعليمي ذاته، هل لعدم وجود آلية واضحة وسياسات حكيمة في استغلال هذه المباني والبيئات أو مواقع المدارس؟، أم هل مستوى الصلاحيات الممنوحة لوزارة التربية والتعليم في حق التصرف في الممتلكات الثابتة لديها ما زال يواجه كومة التعقيدات والعقبات؟ أم لعدم وجود الجدية الحقيقية للانتقال بمفهوم الاستثمار التعليمي إلى الواقع؟ تساؤلات ونقاشات تؤكد اليوم على أهمية معالجة هذا الملف والوقوف على هذه الأطلال، وطرح ملف المدارس العريقة أو مدارس الإحلال وغيرها من مباني وزارة التربية والتعليم غير المستغلة حاليا رغم كفاءتها وجاهزيتها للاستخدام بعد الترميم والصيانة، للاستثمار بما يتناغم مع طبيعة الموقع والظروف والفئات المستفيدة، وغيرها مما يمكن أن يعيد الصورة الإيجابية لتلك البيئات التعليمية والمباني، ويقدم لها في ظل مرحلة جديدة محطة تجديدية، خيوط اتصال يربط ماضيها العريق بمستقبلها المشرق مركز إشعاع حضاري اقتصادي مع الفارق.

Your Page Title