فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: سُؤالُ المَحَلِّيةِ والعَالَمِيَةِ وسُلْطَانِ “بِيغْ بْروذَرْ”

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

قد يبدو أمر مثل هذا غريبا بعض الشيء إذ كيف يفرض “بيغ بروزر” سلطته على الرواية. والرواية العربية تحديدا؟
لا غرابة في كون الروائي العربي يبدو منشغلا بالعالمية كغيره من كتاب المعمورة، فهي تخرج جهده الإبداعي من دائرة الضيق نحو دائرة أكثر تعقيدا وانفتاحا وإنسانية.
قد يبدو هذا الكلام بسيطا وربما مسطحا في شكله، ومع ذلك فهو يقدم مجموعة من المحددات المسبقة. فسؤال العالمية الذي تطرحه الرواية العربية على نفسها بشكل متواتر، أمر مشروع لأنه محاولة أولية لتحديد وضعها في سياق الرواية العالمية وأي مسلك عليها أن تسلكه لتصبح جزءا من الذاكرة الجمعية الإنسانية؟ أي جهد عليها أن تقدمه لكي تصل إلى الاعتراف بها كمنجز إنساني وليس كمجهود فردي أو جماعي مرتبط بمحلية تضيق الخناق أكثر مما تدفع بالرواية نحو وضع اعتباري يليق بها. السؤال إلى هذه اللحظة مشروع، بل وطبيعي ولا تتفرد به الرواية العربية وحدها، بل كل الروايات في البلدان المأزومة، التي تنتظر اعترافا خارجيا. لكن السؤال سرعان ما ينزلق عن حدوده الموصوفة عندما يفترض العالمية كحل لكل المعضلات الأدبية وكمآل ضروري وإجباري لكل نص يتوخى الانتشار وكأن العالمية، كما يفترضها النقد العربي والكاتب نفسه، خاضعة فقط لغنى النص وحده ولقيمته الرمزية والأدبية. أي أن النص الروائي هو المحدد الأساسي للقيمة الإبداعية وبالتالي للاعتراف. تأمل بسيط يعيدنا إلى الاعتبارات الخفية التي تتحكم في القيمة المفترضة، تتجاوز القوة النصية المحتملة. يمكن اختزال هذه الاعتبارات في أهم تجلياتها الظاهرة على الأقل:


أولا: تمركز الاعتراف وشرعيته في يد قوة واحدة نسميها اليوم أمريكا، أوروبا أو العالم الغربي بشكل عام. يقع النص الروائي العربي بين تقاطبين، قوة تمتلك كل شيء بما في ذلك سلطة القرار السياسي والإعلامي، وتابعهما القرار الثقافي، وجهة أخرى، التي هي نحن أي الشرق، الذي خطط له في زمننا الحديث، منذ اتفاقية سايكس بيكو، أن يظل في دائرة التخلف والتقسيم المتواتر. شرق لا يملك شيئا يذكر بالمعنى الحاسم، الكاتب فيه منشغل بحروبه الأهلية وحروب الإخوة والجيران وقهر أنظمة متهالكة لا شيء فيها يطمئن، تعيد إنتاج صورها القديمة بقليل من الذكاء وكثير من الفتك حتى أصبح حلم التغيير أمرا مستحيلا في ظل ما يحدث في المحيط من حروب أهلية فرضت كبدائل وحيدة.

ثانيا: الإمبريالية الإعلامية أصبحت سلطة متعالية على كل شيء وفوق أية سلطة نقدية وعابرة للقارات عن طريق الصورة التي أصبحت في يدها بامتياز. فهي المحدد الأساسي ليس فقط لمساحات النقاش Les Espaces de Débats كما يقول محمد أركون، ولكنها صارت أيضا محددة للقيمة بما في ذلك الأدب، وهذا أخطر شيء. القيمة هي ذات دلالات رمزية أكيدة، وعندما يسجن الرمز داخل إرادات أخرى، فكل ما يحيط بنا من رموز قيمية بما في ذلك الأديان والتاريخ والماضي والحاضر يجد نفسه في عمق الدائرة نفسها. عندما يتم التغلغل في عمق الرمز أي في داخل المنتَج الحميمي، فهذا يعني أن قنبلة داخلية يتم التحضير لها ولا أحد يعلم توقيت انفجارها إلا الذي خطط لها مثلما حدث ويحدث في العراق. فعندما يتم احتلال الرمز و يتم تأويله بحسب الرغبة والحاجة، لن يحتاج الاستعمار الحديث لأي تدخل لأننا سنأكل أنفسها بوسائلنا الأكثر فتكا وندمر الرموز التي تجمعنا ونتفكك لنصبح قبائل وشيعا متقاتلة متذابحة.

ثالثا: قد لا تكون المسألة لدى بعضنا بكل هذه القتامة، لكننا عندما نقرأ الأعمال الروائية العالمية التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة على الثقافة العربية وعلى أكثرنا حذرا وصرامة، ويتحول نقدنا إلى وسيط مثالي لتمرير خطاباتها بكثير من الإصرار، ندرك إلى أي حد صارت المخاطر الثقافية في عمق الرمز نفسه أي في صلب النظام الذي يحدد القيمة كانتماء للعالم ليس بالمعنى الإيجابي ولكن بمعنى فرض النموذج الذي كثيرا ما يرتبك أمام الخصوصية الثقافية. لا يتعلق الأمر ههنا بالأعمال الإنسانية الكبيرة والمتميزة ولا بالكتاب الكبار الذين اختاروا صف نقد الطاحونة الكبيرة التي يسهر على مراقبتها باستمرار الأخ الأكبر The big brother (كما في رواية 1984 لجورج أورويل) الذي يتتبع كل الأنفاس والحركات ويخفي ما يشاء ويدفع إلى الواجهة بما يشاء كذلك، ولكن بالأعمال الروائية خصوصا التي تفبركها وسائل الإعلام وتعلبها وتقدمها كبدائل فعلية للأدب الكبير والإنساني. قد يكون للتجارة سلطانها في مثل هذه العمليات ولكن من قال إن التجاري مفصول عن السياسي بشكل دائم؟

لكن، هل يمكننا أن نكون عالميين دون المرور بالمحلية والترسخ فيها قبل الانتقال نحول افق أوسع. لا يمكن فصل البعد العالمي عن الهاجس المحلي الذي يشكل الأرضية التي تنشأ عليها أية خصوصية محتملة. العالمية المتمركزة على النموذجية الغربية انصاعت في النهاية للخصوصية الأمريكية اللاتينية التي فرضت بقوة تمايزها على العالم لتصبح في ظرف وجيز مرجعية روائية حقيقية مع كتاب عظام من أمثال أستورياس، غابرييل غارسيا ماركيز، فارغاس يوسا، وغيرهم. يصدمنا السؤال الأكثر جدارة وعنفا: لماذا نهرب من محليتنا وخصوصيتنا عربيا وننظر إليها من منظور التخلف/ التقدم، وننسى أن كاتبا واحدا يمكنه أن يرتقي ببلده بعيدا وعاليا، على الرغم من تخلفه الاقتصادي والاجتماعي. أسماعيل قدري صاحب جنرال الجيش الميت يوازي وطنا بكامله: البانيا. ما تزال المحلية، في العالم العربي، تحيل إلى الفعل المرفوض لأنه يحيل إلى حالة من الضيق لا تستقيم مع الفن؟ مع أن المحلية التي كثيرا ما نرفضها تظل حلما مستمرا في النمو عميقا داخل كل فنان يريد أن يصل إلى شعبه ليتحول إلى ضمير حي وحالة رمزية تستمر في الحياة حتى بعد موت الفنان، أو عندما تنكسر اليقينيات الكبرى التي بنى عليها مجتمع ما من المجتمعات إرثه وتاريخه؟ تظل المحلية أيضا حالة من التشوق المدفون في عمق كل إنسان طموح، بحثا عن فضاء أكثر اتساعا يجعل من المحلية معبرا صغيرا إجباريا، تمر من خلاله القنوات الأولى للعالمية التي تقذف بالكاتب والفنان نحو فضاءات لا شيء يحدها إلا الرغبة في التوغل عميقا في تضاريس الأرض الكبرى. ويصبح الخروج من دائرة المحلية والضيق والانتماء إلى أفق إنساني مشترك والقدرة على الإسهام في قيم الحاضر المتداخلة بدون حدود ولا حواجز، هو المبتغى والحلم الأسمى. إلا أن ذلك كله يفترض مسبقا القدرة على إنتاج هذه القيم العليا التي تتخطى المحلية في ظل عطالة الأنظمة وقهرها وتخلفها الحضاري وسيطرتها على القدرات الخلاقة لمجتمع من المجتمعات والسيطرة على ضميره الجمعي واستنزاف أحلامه بشكل دائم، لأن المحلية في هذا السياق أكثر من عتبة نحو العالمية، فهي ضرورة تاريخية في الفعل الثقافي الجمعي وانتقاله من الحياة المادية إلى ترميز المرجعيات الكبرى، الدينية والاجتماعية. المشكلات التي تعترض الثقافة العربية، في سياق المحلية تحديدا، كبيرة وغير محسومة. للمحلية معضلاتها التي تبدو وكأنها محققة ومنتهية بينما الواقع الحي يثبت عكس ذلك. تطرح المحلية أمامنا مجموعة من الأسئلة التي تبدو للوهلة الأولى في شكل مسلمات وهي ليست كذلك؟ مثلا، عن أية محلية نتحدث عندما نثير القضية في سياق الأدب العربي؟ المحلية المنغلقة في المكان والزمان والتي لا ترى الأدب ووظائفه خارج دائرة محكومة بمجموعة من اليقينيات والدوغما العمياء التي أثبت التاريخ ضحالتها واضمحلالها، أم المحلية التي ترتبط بالقيم الإنسانية الحية والمشتركة مع هموم بقية البشر، أكثر مما تضع نفسها داخل دائرة أو مجموعة من الدوائر المسدودة أمام التحولات الإنسانية والمعارف البشرية ومعضلاتها؟ أكثر من هذا كله، ما معنى المحلية في الوطن العربي الواسع الذي يموج ببشر يقارب عددهم 300 مليون نسمة، ومساحات واسعة كفيلة بأن تشكل إمبراطورية وتمايزا جغرافيا وثقافيا؟ هل المحلية إذن هي الارتباط بالقطرية وببلد معين في سياق جغرافي محدد؟ أم المحلية في سياق الوطن العربي، تعني المشترك اللغوي والثقافي والإحساس العميق بالتاريخ والحضارة؟ مَنْ مِنَ الكتاب العرب الذي استطاع أن يخترق اليوم كل الحدود الموضوعة في طريقه ليمس الحدود القومية لجماعات بشرية تمتلك نفس الهواجس ونفس لغة التعبير الأدبي ومعرضة لنفس الضغوطات الثقافية والسياسية وحتى العسكرية؟ ربما كان عدد الذين حققوا هذه المحلية العالية قلة قليلة ويعدون على رؤوس الأصابع من طه حسين إلى توفيق الحكيم مرورا بالشابي ونزار قباني وأدونيس ودرويش وانتهاء بحناء مينه ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغيرهم؟ ما يزال العجز في تحقيق المحلية موضوعة تستحق كل الاهتمام والبحث، قبل الانتقال إلى الحديث عن العالمية ولو أننا ندرك سلفا أن ثنائية: محلية/عالمية، غير متلازمة دائما إذ يمكن أن نجد كاتبا تخطى حدود وطنه قبل أن يجمع عليه أهله وذووه لأسباب يتداخل فيها السياسي بالحسابات المختلفة التي لا علاقة لها بالأدب والفن، بل لأن المحلية كثيرا ما تتحول إلى أداة قهرية قامعة تنقل المعركة من فشلها الداخلي إلى الآخر الذي يشكل باستمرار المشجب الذي تعلق عليه كافة الإخفاقات لأنه “يناصر كتابا لا محلية لهم ولا حضور لهم في أوطانهم بهدف ضرب الإسلام والعروبة والخصوصية الحضارية التي تحول فجأة إخفاقا داخليا إلى حرب صليبية مدبرة.” ولنا في الرواية العالمية أمثلة كثيرة، من الصيني- الفرنسي غاوو الذي ثارت ضده الصين قبل غيرها عندما منح جائزة نوبل بحجة أنه من المنشقين؟ وكأن الكاتب لا وظيفة له إلا ترديد الخطابات المهيمنة، ويتم خلط الوطنية/النظام؟ مرورا بالكاتب إسماعيل قدري من البانيا الذي هزت كتاباته العالم ولم يجد في وطنه إلا من يشتمه بانتمائه للغرب الغازي ولم تكلف الأوساط المحلية نفسها معرفة الحقيقة التالية: إن اسم ألبانيا في العالم صار مقرونا بكتابات هذا الرجل التي تشكل امتدادا للتراجيدية اليونانية. وانتهاء بالكاتب التركي أورهان باموك الذي كان عليه أن يدافع عن نفسه، في وطنه من سلطان المحلية الظالمة، من تهمة المس بمصالح تركيا الكبرى بسبب تصريحه لجريدة سويسرية بأنه “بين سنوات 1915 و1917 قتل أكثر من مليون أرميني و30000 كردي على الأراضي التركية” المحلية إذن ليست أمرا محسوما في بلدان المنبع نفسها؟

لنا داخل سياق المحلية أن نطرح سؤال العالمية. مثل المحلية، الأمر ليس محسوما. ما معنى النص العالمي؟ بأي المقاييس الموضوعية تنتقل النصوص نحو هذا الحلم الذي يبتغيه كل محترف للكتابة؟ قد يكون في الإجابة بعض التعقيد ولكن يمكننا أن نبسط الأمر قليلا ونقول: النص العالمي هو النص الذي حقق شيئا من الاتساع وأصبح جزءا من الذاكرة الإنسانية. اخترق الحدود بوسائطه الفنية الخاصة، واستقر نهائيا في عمق التفكير الإنساني ليصبح جزءا من ثقافته اليومية. بهذا المنطق لن تجد كل النصوص الناجحة مكانها في هذه الدائرة. تتفرد اربعة نصوص في ثقافتنا العربية عن غيرها لأنها إلى اليوم ما تزال تشكل جزءا مضيئا من الذاكرة الجمعية الإنسانية: القرآن الكريم الذي اخترق كل الحدود الوضعية ليستقر داخل وخارج أرض نشأته، وفصل المقال لابن رشد الذي ساهم في النقاش الإنساني الدائر حول دور الأديان وموقعها في تسيير المدينة La Cité، وألف ليلة وليلة التي صبغت مخيال العالم بقصصها، وإلى حد ما رسالة الغفران للمعري لأنها تختبئ في أعماق أهم مرجع ثقافي أوروبي: الكوميديا الإلهية لدانتي آليقري الذي وضع الثقافة الغربية في مدارات الحداثة، أو على الأقل هكذا اعتبرته المؤسسة النقدية الغربية. هذه أهم النصوص التي أنجزتها العبقرية العربية ودخلت في النسيج الثقافي العالمي وساهمت في تحويله في العمق، فتخطت الحدود وأصبحت جزءا من الذاكرة الجمعية الحية. الأسباب مختلفة: القرآن احتل هذه الذاكرة وانتقل عبر العالم لقداسته أولا ولقوله الجديد وسط إنسانية غالبيتها من الفقراء والمحرومين كانوا في حاجة إلى نص ينصفهم ويرفع من شأنهم ويدافع عنهم. فعبر من خلال حروب طاحنة وفتوحات متوالية بلاد الهند والسند وآسيا وإفريقيا وجزيرة أيبيريا وجزءا مهما من أوروبا، أما نص فصل المقال فقد منح أوروبا الغارقة في تقديس الحروب الدينية ومحاربة العقل وسيلة للفصل بين فعل العقل المتحرر والكنيسة المنغلقة على مقولاتها المتكررة. أما بالنسبة لألف ليلة وليلة فالعكس هو الذي حدث، فقد دخل بسلاسة كما تفعل النصوص الإنسانية العظيمة، فحرر الذاكرة الجمعية من ظلامها وذعرها ووضعها أمام حرياتها الجسدية واللغوية وأعاد لها ألق الشوق الإنساني. أما رسالة الغفران فقد كانت وراء نهضة شعرية أوروبية أعادت للشعر الإنساني والأوروبي تحديدا ألقه وأخرجته من دائرة التكرار إذ لم تكن الكوميديا الإلهية من حيث بنيتها الداخلية إلا عودة إلى رسالة الغفران التي بنيت بدورها على رحلة الإسراء والمعراج النبوية. حققت هذه النصوص العربية عالميتها من علاقتها المتشابكة مع الفعل الإنساني الذي سدت أمامه نقصا معرفيا وإبداعيا محسوسا. قد يكون العامل الزمني مهما جدا في تحقيق هذه الغاية أو هذه النقلة باتجاه رحابة لا حدود لها. من هنا يتبدى بوضوح أن العالمية في هذا السياق، لا تصنعها دائما اللحظة الراهنة والحاضر المتغير باستمرار ولكنها ديمومة في الزمان والمكان وتستجيب لحاجة إنسانية حساسة. شكسبير دالة واضحة على ذلك. لم يكن شيئا يذكر في الزمن الذي عاشه مهمشا. فقد أهمل على مدار القرنين اللذين أعقبا وفاته، ولم يكن أحد ينشغل بقوة مسرحه التراجيدي. وانتظرت البشرية قرنين من الزمن قبل أن تضعه على رأس صناع التراجيدية الخالدين. فقد عبرت نتاجاته عن رؤية عالمية واسعة أعادت تشكيل المسرح من أساسه. هذا وحده كاف لأن يجعلنا نتأمل ما يحدث أمامنا من حركة وتموجات ترفع نصوصا إلى مصاف النصوص العالية وتنزل نصوصا عالية القيمة إلى حضيض التغاضي والنسيان. يجب أن يدفعنا ذلك إلى الكثير من التأمل والتريث. كل شيء يحمل في عمقه صيغة المؤقت والهش. العالمية مدار تاريخي وليست إطارا زمنيا ولا إرادة للبشر فيه مهما حاولوا وإلا لكانوا خلدوا كتاب الحواشي الضعيفة التي لا شيء يفرضها إلا قوة السلطان. إن ألف ليلة صارت جزءا من الذاكرة العالمية بفعل تأثير سحرها في الذاكرة الجمعية بالمعنى الإنساني الواسع عبر امتداد التاريخ وعبر فعل تلاقحي شرقي غربي معقد، إذ لا أحد عاقل ومتبصر يهمل ملمس أنطوان غالان Antoine Galland على الليالي. يبدو أننا اليوم بصدد عالمية مبتورة تحتاج بالفعل إلى تأمل حقيقي. جانبها الظالم لا يمكن نكرانه أبدا ولكني متأكد أنه مؤقت وليس كل ما تقذف به هذه العالمية صالح لأن يكون تاريخيا مهما ولازمنيا. إن الذاكرة قاسية ويمكن أن تنساه بسرعة كبيرة لأنه في النهاية صناعة إعلامية وليس أدبية تعتمد على وسائلها الداخلية الخاصة. وإلا لماذا لم يلتفت نحو ساحة عربية شاسعة ثقافيا، كانت إلى وقت قريب منتجة للمعرفة وغنية بإسهاماتها، على الرغم من حالات الإحباط المتكرر، إلا بعد قرابة القرن من إنشاء جائزة نوبل مثلا؟ المتأمل للثمانين سنة السابقة لنجيب محفوظ يكتشف أن الإبداعية العربية لم تكن جافة ولا ميتة وأسهمت إلى حد بعيد في أنسنة مجتمعات حكمها مدة طويلة القهر العثماني، وقاتلت من أجل حداثة مستعصية وقاومت الاستعمارات المتتالية باستماتة من خلال نصوص إبداعية تشكل اليوم مراجع ثقافية متميزة وعظيمة.
ورب ضارة نافعة. جيد أن لا تكون العالمية بهذا المعنى، في يد مجموعة بشرية بعينها ولكن في كف صيرورة تاريخية إنسانية في عمقها، أكثر تشابكا وتعقيدا وأكثر عدلا كذلك.


تطرح بعض النجاحات المفاجئة والنصوص التي تدخل دائرة الشهرة، الكثير من الأسئلة المرتبطة بفعل القيمة: هل النجاح المحقق فعل حقيقي مرتبط ببنيات النص الداخلية وجودة الكتابة وتميزها الاستثنائي؟ أم مرتبط بالنظام الإعلامي كجهاز طاغ ومهيمن يفبرك وفق شروط أيديولوجية يتحكم فيها راهن اللحظة السياسية، أكثر مما ينصت إلى الإرادات الإبداعية الخلاقة؟ لنأخذ مثالين لفهم الصورة كما تفرض علينا بقوة هذا السلطان الخفي: الأول من الغرب المتحكم في سلطان المعرفة في وقتنا الحاضر، والثاني من صلب أرضنا العربية الفاقدة للأسف، لزمام المبادرة. دان براون وعلاء الدين الأسواني. لقد بيع من رواية شيفرة دافانشي Da Vinci Code لدان براون مثلا أكثر من 50 مليون نسخة. رقم خيالي لم يسبق لأية رواية بالمعنى الكلاسيكي أن حققته، بما في ذلك الكتابات الحاصلة على جائزة نوبل مجتمعة، حتى حكايات هاري بوتر Harry Poter الشعبية التي بيع منها أكثر 300 مليون نسخة لم تحقق هذا الرقم إلا مجتمعة بأجزائها السبعة مما يجعل متوسط مبيعات كل جزء لا تتعدى أكثر من 45 مليون نسخة على الرغم من شعبيتها الشبانية وخضوعها لنظام قرائي ساندته السينيما بقوة. وإذن كيف صار نص دان براون نصا عالميا وتخطى الحواجز كلها في ظرف أقل من سنة على صدوره؟ يوجهنا النقد العالمي والعربي تحديدا إلى قوة النص الاستثنائية التي لا يراها إلا هو ويمجدها إلى أقصى الحدود، زارعا في ذوقنا شكا كبيرا، وينسى أنه،أي النقد العربي، تحول إلى حلقة صغيرة في مشروع أكبر منه. ننسى بموجب ذلك، أن هذا النص صاحبه من الدعاية ما حوله إلى ظاهرة نموذجية للقراءة وحتى نمطا حياتيا Un mode de vie إذ صار من المخجل في الدوائر نصف المثقفة والمهيمنة على المشهد الثقافي العربي، أن تقول أنك لم تقرأ Da Vinci code وأنك لا تعرف مغامرة روبر لونغدن الخارقة وقوة بصيرته وذكائه الكبير ولا متاعب وظروف اغتيال محافظ متحف اللوفر، جاك سونيير الذي كان يملك سر الشيفرة التي خطها بدمه قبل أن يندثر، ولا جنون الألبينوس الضخم سيلاس وجرائمه حفاظا على استمرار سر مريم المجدلية، ولا الفتاة الأنيقة الحاملة لكل الأسرار المبهمة صوفي نوفو من سلالة سيدنا المسيح السرية والمبهمة، وغيرهم ممن يؤثثون نقاشاتنا ومفاخرنا الثقافية؟ ما السحر في نص هو في النهاية، على الرغم من حنكته التقنية وغواياته العديدة، لا يتعدى أن يكون نصا بوليسيا بكل البهارات الضرورية التي يفترضها هذا النوع من الكتابة التي تقودنا في النهاية نحو فك العقدة؟ السؤال نفسه، وبقليل من التحفظ، ينسحب على عمارة يعقوبيان لعلاء الدين الأسواني. كيف خرج هذا النص من كومة النصوص التي صدرت في السنوات الأخيرة وتفرد عنها؟ ما هي الانزلاقات التي حدثت وفي أية لحظة حصلت لينسحب الكتاب من النظام الثقافي الكابي والمظلم، المهيمن على الكتاب العربي ويفرض نفسه على الواجهة الثقافية العربية والعالمية، فيباع بأعداد كبيرة عربيا، ويترجم إلى لغات متعددة، خصوصا الإنجليزية التي سوقته بشكل جيد في السوق العالمية والفرنسية ويباع من هذه الرواية أكثر من 200 ألف نسخة بحسب آخر الإحصائيات، وهي كمية أكثر من ممتازة إذا ما قيست بما يباع عالميا؟ لسنا هنا بصدد الحكم التقييمي على أعمال لم يعد المنطق السائد يشتغل فيها، ولكن محاولة فهم الظاهرة التي تتخفى وراء ما يسمى بالعالمية. كل ما قاله دان براون قاله نيكوس كزنزاكي قبل عشرا ت السنين في غواية المسيح الأخيرة وقاله بطريقة مماثلة من حيث البنية التاريخية البوليسية والتفاصيل، أمبرتو أيكو في روايته اسم الوردة، وما قاله علاء الدين الأسواني في روايته: عمارة يعقوبيان، قالته الرواية المصرية بامتياز مع محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم، قبل ذلك بعشرات السنين. هل هو جانب الرواية الشعبي أم الظرفية التي ترمي نحو الواجهة بنصوص وتطمس نصوصا أخرى؟ الشيء المؤكد والوحيد الذي لا يمكن أن نخطئ فيه، هو أن الأمر ههنا لا يتعلق بجودة كتابية ولكن بشيء آخر قد يكون الكاتب نفسه خارجه ولا يعرف صيرورته. القيمة التي يفرضها علينا الإعلام المهيمن ليست هي القيمة الإنسانية المتوخاة أبدا وهي عالمية اللحظة وليست عالمية الديمومة والبقاء كما كان الأمر دائما أمام الأعمال التي تؤثث اليوم ذاكرة كل واحد فينا. من الصعب تفادي السؤال الخفي: من يصنع الشهرة، النص أم الجهاز أو النظام المهمين بمعناه الأكثر شمولية؟ من المؤكد أن الذي فرض ليون تولستوي ككاتب عالمي ليس هو الجهاز ولكن الكتابة والكتابة وحدها. في سنة 1901 عندما اقترحت عليه جائزة نوبل في أول دورة لها قال رافضا المقترح: شكرا لكم وأرى من الأفضل أن تمنحوا كل هذا المال لناس القوقاس الفقراء الذين يموتون جوعا، فهم أولى بها. بلزاك في كومدياه الإنسانية، زولا في سيرة عائلة رجون مكار Les Rougons Macquards وفلوبر وشارل ديكنز وشكسبير وت.س إليوت، نيتشه، سرفانتس، مارسيل بروست وجيمس جويس والمعري وألف ليلة وليلة وهنري ميلر وابن طفيل وغيرهم، لم يفرضهم الجهاز. سلطان هؤلاء الأدبي كان أكبر من الجهاز، وعبرَتْ نصوصهم الذاكرة الجمعية لتتحول إلى مكون من مكونات الذاكرة الإنسانية. هل منعت محاكم التفتيش المقدس والإسلام المتطرف جنون سرفانتيس وعقلانية ابن رشد من المرور عبر كل الحواجز المنصوبة والانتشار عبر العالم؟ سؤال يستحق التذكير والتأمل. الأشياء العظيمة لا تأتي من الفراغ بل تولد من رحم الممارسة الثقافة التي تخترقها بشكل دائم، الأسئلة الكبيرة والمصيرية.

Your Page Title