أثير – الإعلامي العربي زاهي وهبى
واحدة من أجمل الهدايا التي تلقيتها في حياتي هي صفحة من دفتر خطّت طفلةٌ عليها كلماتها الأولى فور معرفتها أنها مصابة بسرطان الدم، كاتبة بالمحكية اللبنانية:
“معقول تكون الحياة صعبة، وهالقد النهاية قريبة؟
أيمتى رح أشفى؟
بس برغم كل شي أكيد أنا رح صُحّ حتى لو عم أتوجع رح صُحّ.
لازم أقوى أكثر وحطمو للمرض.
أنا بطلة وقوية ورح كسّرو لهالسرطان”
عنى لي الكثير أن تهديني تلك الطفلة المحارِبة البطلة كلماتها الأولى في مواجهة المرض الخبيث. كنت بصدد الحلول ضيفاً على الزميلة سمر بوشبل في برنامجها التلفزيوني على شاشة otv حين سألتني عمن أرغب أن يشاركني فقرة ضمن البرنامج. لم أتردد في اقتراح اسم جسي فخري التي التقيتها لأول مرة قبل أسابيع قليلة من موعد البرنامج. في نهاية الفقرة التي حاورتني خلالها بكل ثقة وتمكّن، فاجأتني بتلك الهدية المعنوية النفيسة، وبدموع عينيها الغاليتين اللتين تشعّان حماسة وحباً للحياة.
قبل ذاك اللقاء بأشهر، لا أعلم تماماً الدافع الذي جعلني أتوقف طويلاً أمام صفحة جسي على موقع التواصل الاجتماعي “أنستغرام”. الآن أقول إن العناية الإلهية تُرسِل إشارات وترتب أموراً عصية على مداركنا البشرية. حين قرأت “بوستات” هذه الشابة الممتلئة بنعمة الإيمان، المحارِبة لمرض السرطان والمنتصرة عليه، أرسلت لها فوراً ينبغي أن تكتبي تجربتك وتنشريها في كتاب. وكأنها كانت تنتظر رسالتي تلك، أجابتني فوراً أن هذا حلم حياتها. كتبت لها أنني جاهز لأي مساعدة. مرّ أسبوع واحد وإذ برسالة من جسي فيها التالي:
“مرحبا أستاذ زاهي،
بتمنى أن تكون بألف خير!
حلم حياتي هوي أنو أكتب قصتي وخلّي الناس تعرف قدي نعمة الحياة كبيرة وقديّ هل نعمة حلوة،
يمكن الله بعتلي ياك تحكيني، أنا وعم عيش بقلق على أنو ما أقدر أوفي بالوعد يللي وعدتو لحالي بس كنت بعز و جعي.
حلمي أنو ينزل كتابي على عيدي ال١٨، وكل ما قرر أكتب بيضيعو الأفكار وبتكتر الأشياء، وعايزي دعم لأعرف كيف بلش ووين أخلص.
وبعرف أنو مش بالصدفة تواصلت معي لأن الأشياء بتكون عطول مقدرة أنو تصير معنا.
انا هلق بفترة درس كرمال قدم آخر سنة مدرسة إلي، وبتمنى بس يقطع هل شهر أتلاقى فيك وتساعدني تحقق حلمي.
إلك كل التقدير…”
النزاهة تقتضي الاعتراف أن حلم جسي ما كان ليتحقق بسهولة لولا منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة وعلى رأسه الصديقة الشاعرة ميراي شحادة التي ما أن أخبرتها بحكاية جسي وحلمها حتى رحبت بالفكرة وتبنتها، وعهدت إلى الأديبة السيدة كلود أبو شقرا تحريرَ الكتاب الذي خطته أنامل صاحبته بكل صدق وشفافية وعفوية، ليكتشف القارئ من خلالها مثالاً يحتذى في العزم والشجاعة وقوة الإيمان وإرادة الشفاء.
الحقيقة أنني منذ وقعت صورة جسي فخري أمام ناظريَ لأول مرة لاحظت قسمات فتاة قوية العزم والإرادة رغم ملامح التعب البادية على وجهها المبتسم. تلك الابتسامة التي هزمت بها المرض الخبيث فلم تستسلم له، بل واجهته بمزيج من براءة طفلة قست عليها الأيام، وعنفوان شابة في مقتبل العمر والأحلام. لذا لم أتردد لحظة في تشجيعها وتحفيزها على تحويل حلمها إلى واقع، وذلك نتيجة معرفتي المسبقة بما للكتابة من مقدرة على تحريرنا من أغلال كثيرة وتخليصنا من آثار التجارب المرّة والقاسية. فالكتابة تُنبِتُ لنا أجنحة نحلق بها في فضاءات الحرية الشاسعة. الكلمات التي نخطها على الورق تحررنا من وجع التجارب والمِحَن وتهبنا الشفاء من أدران وعلل. فكيف الحال إذا كانت الكاتبة تخوض مرحلة ما بعد الشفاء من المرض الخبيث، وما تتركه العلاجات الكيماوية والإشعاعية من آثار نفسية وجسدية.
لنا أن نتصور واقع الحال مع طفلة تكتشف في الثانية عشرة من عمرها أنها مصابة بالسرطان الذي يهدّ جبالاً كما يُقال، وتقرر أنها لن تستسلم ولن تُهزَم. وها هي اليوم تعلن انتصارها على المرض الخبيث بالكلمة الطيبة والكتابة الصادقة، تروي حكايتها من الألف إلى الياء، تستذكر قريتها الجميلة دير الأحمر، وأتراب طفولتها، ووالدها الذي رحل في عزّ حاجتها إليه، وأمها المتفانية، وأشقاءها وأقرباءها وأطباءها والممرضات اللواتي حرسْنَها كملائكة الرحمة، و”رفاق الدرب والحرب” من أطفال شجعان تشاركت معهم مواجهة المرض الخبيث، وعساها تنتصر وإياهم على كل خبيث في هذه الحياة التي للأسف لا ولن تخلو من الحروب والصراعات.
الطفلة الصغيرة الشاحبة كبرت وانتصرت، وصارت شابة جميلة تضجّ بالحياة والفرح. ابتسامة قلبها على وجهها، وكتابها الأول في يمينها، وعساه لا يكون الكتاب الأخير. أتمنى أن تواصل جسي رحلتها مع الكتابة، ومع الإعلام الذي تهواه. وهي قادرة على ذلك، وتعرف أن الكتابة تحررنا، وتعرف أن جيلها يحتاج إلى مَن هم مثلها ممن لا يكتفون من الحياة بقشورها، وينحازون إلى جوهرها العميق، لأنها عاشت تجربة تعلمنا الكثير، واختبرت بنفسها، منذ رحيل والدها المفاجئ، وخلال صراعها مع السرطان، كيف تجعلنا الصعوبات أكثر وعياً ونضجاً وصلابة. مثلما اختبرت المفعول السحري للحب الذي أحاطها أهلها وأصدقاؤها به. لذا نريدها أن تحيا، وتحب وتبشّر بالحُبّ، وتفرح إلى الأبد.
أكتب لِجسي وعنها وأستعيد تجربتي مع إصابة أمي بسرطان عنق الرحم، والأيام الصعبة التي قضيناها معاً، وجلسات العلاج المرهقة، والأمل الدائم بالشفاء، والمرضى الذين كنت شاهداً على آلامهم في صالة الانتظار، كما أتذكر صديقتي التي سألتها يوماً لماذا تضعين شريطة حول شعرك، فأجابتني هذا ليس شعري وفهمت فوراً أنها تتلقى العلاج من سرطان الثدي. فكتبت لها قصيدة بعنوان “مصعدٌ إلى الله” لأن جلجلة المرض والعلاج الكيماوي هي حقاً المطهر والمصعد إلى الله، سواء لمن نجا أو لمن اختاره الرب إلى جواره، وجسي خير شاهدة على هذه الجلجلة المتبوعة بقيامة الانتصار المشفوع بقوة الإيمان وسحر الحُبّ، فلولا إيمانها القوي بمقدرة الله على شفائها من خلال العناية الطبية، ولولا الحب الذي أحاطها به الأهل والأصدقاء لما كنا نكتب هذه الكلمات الآن، ولما كان لهذا الكتاب المؤثر المحفِّز أن يُبصر النور.
لها مني، وعبرها لكلِّ المحاربين والناجين، كلُّ الحب والاحترام والدعم والتشجيع. لها، ولهم هذه المقتطفات من قصيدتي “مصعدٌ إلى الله”:
لن ينجو لصُ النضارة بفعلته
لن تسلم يداه
صلاتك مصعدٌ إلى الله
صوتك «نغمٌ تحت الأنقاض»
نذورك شافيةٌ
شفتاك ترتجفان كصلاة غائب
يداك ترفعان سقفاً من دعاء.
الآن، هنا
نطلقُ صفارةَ الحُبّ
نداويك بعطر القبلات
برائحة الصبر في ثيابك
بخميرة عينيك الغجريتين
بورد يزدادُ أريجاً في أنفاسك
وطمأنينةً في حديقة يديك.
ترتاحين قليلاً بين جولتين
غداً جلسةٌ أخرى
للكيمياء مذاقٌ كبريتي
للأشعة فعلٌ آخر
لجبينك قبلةٌ أطول من عمرين معاً
ترتعشين كجملة متلعثمة
يزيدك العلاجُ رقَّةً ونحولاً
اصفرارُك ذهبٌ
شحوبُك شمسُ خريفٍ يتعرى
كم دارت كواكبُ حظّك
كم غالبت دهرَك
كم أشعلت ليالي بالأرق المضني المضيء
شجنُك مثمرٌ
رجاؤك مستجاب
أيتها الممتحَنة
لك الله.
لك الدنيا تصغرُ في ناظريك
قلبُك أوسع المجرات
سماؤك أعلى
لك عصافيرُ الوقت
وزقزقة الأفئدة.
أعرف
تَغيرَ لونُ الجلد
تَبدَّلَ الملمس
لا بأسَ عليك
لا بأسَ علينا
نَهَبُك مياهَ الروح، نواةَ الحياة
نَهَبُك العمرَ، ما انقضى منه وما سوف يأتي
نَهَبُك الأمنيات المتفتحةَ على شجر الأيام.
ضفائرُك أيضاً سوفَ تعود
مجدولةً بالغبطة تعود
ينبتُ قمحٌ في كفيك
وتمطرُ سماء
عافيةً تمطر
مطراً تمطر
فرحك أخضر
ضحكتك سمراء
مذهبة بأناشيد الطفولة وحداء الرعاة.
بعد جفاف الريق
بعد العطش
رضابٌ محلى بسكاكر الرضى وأحضان الأحباء
يُكتَبُ لك عمرٌ جديد
تعودين غزالةً في براري الأحلام
يا أمَّ قلبي
فؤادَ الأرض
وشمسَ العاطفة
ثمة ترابٌ يرتعشُ لوقع خطاك
وضحكاتٌ ترفرفُ رايات استقبال:
ثمةَ عودة بعد كلّ مغيب.
———-
مقدمة كتاب “بين الألم والقلم” للشابة الناجية من مرض السرطان جسي فخري يصدر قريبًا عن “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة”