أثير- عبدالله العريمي
قد جنَّ العالم، وأصبح الحق وهمًا إلا إن كان عبري التكوين، وكل شيء قادر على أن يصف الموت المحلق فوق الفلسطينيين لكنه لا يجيد قراءة الأسباب والأحوال، لا لغة وسط هذا الجحيم الصهيوني يمكنها أن تصف المشترك الإنساني أو تحدده خارج إطار الصمت والفتور القاتل، نعم يمكننا التحدث طويلا عن وحشية الحرب، هذا الحيوان المهووس برائحة الدم، أو أن نلقي اللوم على حماس ونختلف معها في فتح مساحة لهذه الوحشية والهمجية الصهيونية على الأبرياء في غزة ” لو كانت غزة محررة وبلا احتلال وحصار، لكننا لا نمتلك هذه الرفاهية في ظل احتلال ومقاومة وظلم” على حد تعبير الدكتور شفيق الغبرا.
نعم لا يمكن أن نقيس الزمن إلا بالزمن من داخل غزة، ولا يمكن أن نفهم الأشياء إلا من خلال معايير الظلم والعدوان الإسرائيلي والمقاومة والصمود الفلسطيني، إن عالمنا كله منقسم بين ادعاء الحزن وصدقه، بين المتأففين اللاهثين بمذلة خلف الشؤون اليومية التي تفصلهم عن القضية الفلسطينية وبين من وسّع مساحة التحدي والصمود وجعل منها تاريخا لائقا، فأما اللاهثون فجنائز مجانية تمشي على أقدامها، وأما الآخر فهم أولئك الذي يدافعون عن تاريخٍ وإنسانيةٍ وخلاصٍ لأرواحهم من عبثية الوجود والمصير.
كيف يمكن للجنائز المجانية أن تعيش طويلا وهي تبحث عن ذرائع للكيان الصهيوني لإعلان الحرب، غير منشغلين بمرأى الذئاب وهي تحاصر غزالا أسيرا، وغير آبهين بالموت الذي يهبط من هذه الوحوش الحديدية على أهالي غزة، كيف يتلذذ هؤلاء بالسير حتى منتهى الخيبة وحتى آخر السقوط الإنساني، إنهم يعيشون حياة مشوهة في وقت الموت الوسيم والقدرية الصافية.
إن ما قام به الأبطال الفلسطينيون هو المحافظة على توازن العالم وانسجام مع الجنون المحيط بهم دون أي انسياق للضعف أو استسلام للواقع المرَّ، وها هم يثخنون في العدو الغاصب ويحطمون كبرياءه الزائف ويسحقون معه دود الحكايات الذي يتسرب من الخارج ليأكل بعضا من فصول البطولة الفلسطينية، قد نكون نحن أبناء الانتظار والحزن الطويل لكننا لم نقف على حياد ولو بالكلمات أو الصمت العاجز ولم نقبل أن نعيش حياة تنصلت من كل معايير الإنسانية والكرامة، أما طوفان الأقصى فهو صوت الحرية، ومرحلة مفصلية في تاريخ موازين القوى الكونية، إنه لحظة تحول وبوصلة صواب، ولم يعد منذ الآن لهذا الكيان الزائف أن يجدد حياته، فهو محاصر بالخوف ومطارد من الحق، ويقابل إحساسه بالوجود وعيٌ بالوجود، ففلسطين فكرة عربية وعقيدة دينية وثقل تاريخي لذا لا يمكن أن يهزمها أو يلغيها مشروع سياسي أو ترسب طائفي، ولا يجيزها توقيع اتفاقية.
غزة اليوم ترينا من الأمل ما يكفي لأن يجعل منها فجر بطولة يشع من مخيم محاصر ومن ميلاد طفل جديد، أمل سخي يقطع ظل اليأس ويستبدل الحرب بالربح والحبر الذي يكاد يضيء بأسماء القابضين على حجر الانتصار.