أثير- د.عبدالعزيز الغريبي
العالم لا يخلو من الفظائع؛ وقد يتماهى البعض مع ما يحدث في غزة كأحد الأحوال التي ملأت تاريخ البشرية كالصراعات والحروب والكوارث الطبيعية التي لا تفرق بين كبير وصغير، ولا بين رجل و امرأة، ولا بين ظالم ومظلوم. وأن ذلك استمرار طبيعي للحياة في ظل طبيعة البشر القائمة على التنافس والبقاء.
كما أن الفطرة البشرية ذاتها تجعلنا نتعاطف مع بشر آخرين لا نعرفهم لكن نراهم أو نسمع عنهم من خلال وسائل مختلفة، إلا أن التعاطف يزداد عندما نشترك معهم في القومية والدين والعرق واللغة. وكما هو حالنا مع فلسطين؛ هكذا هو الحال لدى المجتمع الغربي مع إسرائيل، فما إسرائيل إلا لقيطة أتت بمن فيها من تلك المجتمعات في الأصل!
في السابع من أكتوبر شاهد العالم معاناة إسرائيل التي تقدر بسويعات مقابل خمسة وسبعين عاما أغلظ فيها الإسرائيليون الكذب والاضطهاد والسرقة والاحتلال والتعذيب والقتل والحصار والتهجير وتدنيس المقدسات تجاه الفلسطينين وأرضهم.
وكأن إسرائيل والغرب كانوا بانتظار تلك السويعات ليهولوا الأمر ويجيشون إعلامهم ليقلب الحقائق ويزيفها ويلغي ما قبلها وبعدها إثر المشاهد أو الادعاءات التي خلّفها ما سُمي بطوفان الأقصى بل وجعلوها سببا ومبررا عند شعوبهم لإبادة غزة وتهجير أهلها الذين تم تهجيرهم وسجنهم فيها بالأصل، بل هبّت تلك الدول لمناصرة إسرائيل “المظلومة” بالطبطبة والدعم اللامحدود بالصواريخ والعتاد العسكري الهائل على مليوني ومائة ألف نسمة نصفهم أطفال محاصرون في مساحة ٣٦٥ كم منذ سبعة عشر عاما؛ باعتبار أن جميع من في غزة “الظالمة” هم حماس!
وباستمرار قتلهم للأطفال والنساء والمدنيين، ورغم انحياز منصات الإعلام الحديث لهم ولروايتهم المزيفة، إلا أن لها دورًا إيجابيًا في نقل المشاهد الحقيقية من أرض الواقع لتصل فقط لمن يبحثون عن الحقيقة ويميزون بينها وأجندات إعلامهم الذي يبتعد عن قيمه ومبادئه كل يوم.
إن مناصرة بعض الغرب لقضية فلسطين وما يحدث في غزة ينبع من فطرتهم الإنسانية، وبعضهم الآخر لدوافع سياسية قد تخدم أحزابهم وأجنداتهم. هذا باعتبار أن ما يصلهم من مواد مرئية وحقائق مبرهنة من أرض الواقع قليل جدا، فلنا أن نتخيل إذا ما كان هذا الكم الهائل من الصور والمقاطع المرئية التي تصلنا وتؤرق مضاجعنا تصلهم بنفس القدر مع تناولها بالتحليل والتفسير والتأكيد المناسب لهم!
إن الموقف الغالب والمخزي لدول الغرب وإعلامهم تجاه ما يحدث في غزة متوقع وليس بجديد عليهم، حتى أنهم يرون أن من يقوم ويحرك المظاهرات في شوارعهم وميادينهم هم المهاجرون من المسلمين والعرب ويفسرون ذلك بالتعاطف الإثني والديني؛ لذلك فهم لا تعنيهم الإنسانية بقدر ما سيخدم مصالحهم السياسية والاقتصادية مهما ادّعوا وبينوا عكس ذلك؛ ولنا في تاريخهم عبرة.
إلا أن سبر البساطة أبلغ من تسطيح الأغوار؛ فليس عصيًا على أي عاقل أن يفرق بين الحق والباطل، والظالم والمظلوم، بوعي تاريخ السنين وواقع اليوم ورؤى المستقبل، لكننا ضعيفون جدا في تناول هذه المستمسكات وإخراجها بما يتناسب مع سيكولوجية الغرب. نعم، ليس لدينا ما يملكونه من ترسانات إعلامية تكاد تكون هي المؤثر الأكبر حتى على أيديولوجياتنا، إلا أنه حريٌ بنا أن ننقل الحقيقة بأسلوبهم السهل الممتنع والمقنع لنخبهم والسطحيين منهم على حد سواء، ولكن بعيدا عن الدين والقومية والعرق، فهذه الثلاث تُنهي الرسالة قبل أن تصل إليهم، وإن كانوا يبطنون مثلها فلن يفصحوا عنها فهي في اعتبارهم الليبرالي المعلن “رجعية”؛ لذا، فإن لم تحركهم الإنسانية، ستفعل العقلانية بالتحليل وتوثيق الوقائع والأرقام، مع تنوع قوالب إيصالها باستخدام الفنون والدراما والكوميديا السوداء والتجريد والإبهار وغيرها من أساليب فنية يستجيب لرسائلها المتلقي لأبعد من مجرد معرفة لمعلومة أو مشاعر لموقف.
ولنا مثال بسيط قبل أيام في لقاء الإعلامي الشهير بيرس مورجان مع باسم يوسف الذي لم يكتف بتناول الموضوع بحس الفكاهة السوداء فحسب، بل كان حاضرًا بالحقائق والأرقام والتواريخ والعاطفة والعقلانية على حد سواء، فعرّى التحيز المبطن لمورجان وأمثاله في إطار منطقهم، وغرد مورجان موثقًا بأن اللقاء كان الأكثر مشاهدة في تاريخ برنامجه بتحقيقه ١٣ مليون مشاهدة في يومين فقط، ليعقّب عليه باسم ساخرًا ومقتبسًا أغنية الفنان أحمد سعد “وسع وسع …. ده اللي عملته ف حياتك عملته أنا ف يومين!”
قد يبدو للبعض أن استجاباتنا لما حولنا متساوٍ باعتبار أن كثيرًا من المفاهيم واحدة في أصلها مهما اختلفت اللغة والثقافة، ونعتقد أن يبدأ الاختلاف في اصطلاح المفهوم، والخلاف باختلاف زاوية المنظور، كما يحدث في لقاءات مورجان وكثيرين آخرين؛ وهذا صحيح نسبيا لأن “ما نعرفه” ليس كافيا لإثبات حقيقة تامة لدى المتلقي؛ لكن إدراج ما نعرفه وسط منظور الخبرات التراكمية البصرية والحسية والتطبيقية للمتلقي يشكل ثلث استجابته. وإن تقدير سيكولوجيته الاجتماعية والاثنية والانطباعية والعاطفية في رسالتنا له تشكل الثلث الثاني وتعزز نسبة استجابته واقتناعه. كما أن تضمين الجانب الوجداني/ الميتافيزيقي في أصل الأشياء والوجود والآلهة وما نؤمن به يعد الثلث الأخير الذي يتمثل في الحقيقة النسبية أو المطلقة، كلٌ حسب معتقده؛ وهنا ينبغي الحذر في إطلاق عقائدنا كأحكام مطلقة عليهم وإن كانت يقينا لدينا، وذلك بسبب مادية ولحودية المجتمعات الغربية.
عليه؛ من المهم اعتبار تكاملية منظور الاستجابات لدى شعوب العالم بتفاوت مستوياتهم وثقافاتهم حتى نحظى بمفهوم ومعيار ذي وجه واحد للعدل والإنسانية.
إن العدل والإنسانية جزء لا يتجزأ من إسلامنا وقوميتنا العربية الأصيلة، لكن في ظل الصمت والخذلان الذي نعيشه أكاد أسمع همس كل من حولي ومن يقرأ “أين أثر وقوة ديننا الإسلامي دون التبرعات التي لا تصل والدعاء في المنابر وقول آمين! وما الذي بقى من دمائنا لنناصر به عروبتنا سوى التعاطف وإعادة نشر صور أشلاء الأطفال؟ وما الداعي أصلا لهذا المقال والفلسفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع!”
أرى أن المحاولة بالكلمة وقول الحق وتعرية الباطل والبذل في نشره وتحليله وتأثيره تحت العنوان المزدوج السائد في العالم “الإنسانية” والتفصيل تحته بلغة عقلانية تكشف ازدواج معاييرهم له هو إحدى صور المقاومة، والتي بدأت بالانتشار والتأثير بالفعل في بعض أوساط الشعوب الغربية والعالم بشكل غير مسبوق. وأضيف بأن تكثيف لغة الدين والعروبة في وجداننا وأفعالنا وتربيتنا لأبنائنا خيرٌ وأكثر حكمة من تركيزه في محتوانا المنشور الذي لم ولن يفقهوا خير ما فيه إلا بمنطقهم وإن كان خاطئا.
فلنوجه رسائلنا إليهم ليس عليهم، ولا لمجرد تسجيل موقف أمام أصدقائنا وفي محيطنا فحسب؛ فلنتعلم ونستخدم القوة الناعمة خلافا للتهديد والوعيد البعيد من المنطق والمعزز للإسلاموفوبيا والعداء الغربي والعالمي؛ فلنجعل التندر والسخرية على حالنا وسيلةً أبلغ وأوسع انتشارًا من التباكي والنحيب؛ فلنصنع المحتوى الأقوى تأثيرًا، فلنقم بدورٍ أبلغ مما تقوم به دولنا وكل المنظمات الإقليمية والحقوقية والإنسانية والاتحادات والمجالس التي لا تقوى على شيء سوى البيانات الإنشائية الشاجبة والمنددة؛ فحالها كحالنا تجاه الكيان الصهيوني “المجرم المُستثنى”!