مسقط-أثير
إعداد: السيد نوح بن محمد بن أحمد البوسعيدي، رئيس الجمعية التاريخية العمانية
مذ جاهليتهم والعرب تتقاتل وتتهاجى وتتشاحن، لكن ليس إلا أيامًا معدودات فتتصالح وتتسامح وتتصافح وكأن شيئا لم يكن. هكذا العرب في عفويتها وشفافيتها لا تحمل الضّغن ولا تدفن الغّل ولا تبيّت التشفّي.
في الجاهلية خاضت العرب فيما بينها حروبا طاحنة لأتفه الأسباب؛ حرب داحس والغبراء (عبس وذبيان) دامت ٤٠ عاما، وحرب البسوس (بكر وتغلب) دامت أيضا ٤٠ سنة، وحرب الأوس و الخزرج دامت ١٤٠ عاما آخرها يوم بعاث بخمس سنوات قبل الهجرة، ومنها حرب الفجّار ( كنانة ومنهم قريش ضد هوازن وغطفان).
وذكُر بأن نبينا الأكرم صلّى الله عليه و آله و صحبه و سلم قد شهدها قبل بعثته الشريفة، ولم تقتصر حروب العرب على الجزيرة العربية بل حتى عرب الشمال ( الغساسنة المناذرة) خاضوا حروبا ضد بعضهم، وحسب بعض الروايات أن للعرب ١٧٠٠ وقعة قبل الإسلام.
وأقر عرب الجاهلية الأشهر الحرم التي يشار بأنها منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام لمنع القتال، وأكّد عليها الإسلام وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشدّد الإسلام بتحريم ” النسيء” و هو خرق حرمة هذه الأشهر الشريفة.
ومن الأهداف الرئيسية للإسلام التي كانت من أولويات النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و صحبه سلم هو تأليف قلوب العرب “اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا”.
ومما يبعث للكدر للأسف أنه ما إن انتقل الحبيب النبي صلى الله عليه و آله و صحبه و سلّم للرفيق الأعلى حتى عادت الفتنة بين العرب؛ فكانت معركة الجمل ٣٦ هـ و معركة صفين ٣٧ هـ و معركة النهروان ٣٨ هـ و من أشّد المعارك ألما على الأمة كانت معركة كربلاء ٦١هـ، مع العلم أن النبي الكريم عليه أفضل الصلوات قد حذّر في خطبة الوداع “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”.
ولندع التاريخ قليلا وننتقل إلى فترتنا القريبة حيث كان التجافي والتخاصم حاضرا في العلاقات العربية العربية؛ فقد قوطعت مصر ونالت سلطنة عمان الكثير من الجفاء لموقفها الأخوي معها، وتم تشكيل جبهة الصمود والتصدي في عام ١٩٧٧م التي ناصبت سلطنة عمان العداء، ثم ما لبث أن بدأت الحرب العراقية الإيرانية في ٢٢ سبتمبر ١٩٨٠م التي فاقمت الصراعات وأنهكت موارد الشرق الأوسط وانتهت بغزو الكويت في ٢ أغسطس ١٩٩٠م ، ثم حرب تحرير الكويت في ٢٤ فبراير ١٩٩١م، وقد أعقب هذه الفترة من الصراعات الطاحنة بروز أبشع ظاهرة في عالمنا الإسلامي وهي ما سمّي بـ ” الإرهاب” الذي أغلب ضحاياه كانوا من العرب والمسلمين، إلى أن انتهينا بما يسمّى بالربيع العربي الذي قاد لحروب أهلية داخلية في عدد من البلدان العربية ( سوريا ، ليبيا ، اليمن ، السودان ) ونجت بعض البلدان -بفضل الله- لكن لم تسلم من التداعيات التي ألمّت بالمنطقة، وبعد كل هذا الإنهاك الذي أصاب العرب وجدنا أنفسنا أمام أزمات أخرى كحرب اليمن في عام ٢٠١٥م، وتأّزم العلاقة بين الخليجيين ( قطر وبعض دول الخليج) في عام ٢٠١٧م، والمستفيد الأكبر من كل هذه الصراعات هم أعداء الأمة ما ظهر منهم وما بطن.
وكما في حروب العرب السابقة يظهر من بين الركام من ينادي بالوفاق والتصالح، وقد قيّض الله سلطنة عمان لتقوم بهذا الدور في وقتنا الحاضر، ورسّخ مولانا السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- المبدأ الثابت لعُمان الذي بدأه السلطان قابوس -رحمة الله عليه- بمّد جسور الموّدة والإخاء والعمل على إزالة مسببات الفتن والشقاق بين الأشقاء؛ فعمان تعي فضائع عدم الاستقرار وقد عانت منه لقرن من الزمن منذ وفاة السلطان سعيد بن سلطان في عام ١٨٥٦م.
علينا كعرب أن نستبشر بمستقبل أمتنا ولا ندع ثغرة للشيطان خصوصًا بعد التضحيات الجليلة في غزة التي أظهرت مؤازرة العالم الحّر لنا والإقبال على الإسلام والتهافت لتعلم اللغة العربية بل و اعتمادها لغةً رسمية كما حصل في السنغال.
ويبقى العرب أخوة وتبقى النخوة والشهامة والمروة من قيم العرب الأصيلة. وكم هو جميل أن نطوي ما مضى ونركّز على رسالتنا الأسمى وتصفية القلوب من الضغائن والأحقاد والتشاجر على التوافه لنحقق تفاخر السماء بنا “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”.
وكما قالت العرب … “كلام الليل يمحوه النهار”.