ما بين الدولة الأموية والعباسية عُمان بكل قوة دولة مستقلة
Atheer - أثير Atheer - أثير
أثير – تاريخ
لا ريب بأن الحضارة العمانية طوال تلك الأزمنة الغابرة كانت دولة لا تقبل أن ترضخ لأحد مهما علا شأنه وسلطانه ، ولكم في تاريخ المقاومة والقوة العمانية أكبر دليل ، لذا لا غرابة بأن تستقل عمان وتتحمل تلك الهجمات الغاشمة من قبل الدولة الأموية والعباسية على السواء بغية خضوعها لهم ، ولكن رغم تلك الجيوش المسيرة من الشام والعراق لم ترضخ عمان لأي أحد بل أوجدت لنفسها استقلالية وكيانا سياسيا تمثل بالإمامة التي أبقت طوال قرون من الزمان عمان مستقلة عن بقية الأقطار المجاورة من التبعية الأموية أو العباسية أو حتى العثمانية في شبه الجزيرة العربية.
ويذكر التاريخ- وهو شاهد- بأن العمانيين حينما رأوا تدهور الدولة الأموية وعدم مقدرتها على الحكم بالعدل والإنصاف وصراعها الدموي مع أبناء عمومتها الدولة العباسية، قاموا يديرون الرأي فيما بينهم للانفصال عنهم والاستقلال بعمان عن تبعيتها للخلافة المتصارعة آنذاك، فقد كانوا يرون بأن الخلافة تم اغتصابها وبالتالي خرجت عن ما عهده المسلمون أيام ابو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
لذا اتفق العمانيون فيما بينهم على ضرورة انتخاب إمام لهم يحكم عمان بكل عدالة وشجاعة ووقع الاختيار على الإمام الجلندى بن مسعود بن جلندى الجلنداني الذي كان من أحفاد ملوك بني الجلندى الذين تولوا ملك عمان في الجاهلية وعهد الإسلام ، حين بعث لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة يدعوهم فيها إلى الإسلام فقبلوها بكل سلام وحب ليلبوا نداء الله ورسوله والإسلام وتصبح عمان الدولة الوحيدة في منطقة شبه الجزيرة العربية التي لبت رسالة ودعوة رسول الله دون حرب أو قتال.
وتعقيباً لما سبق فالعمانيون إذن حينما رأوا أن جميع الصفات تجتمع في شخص الإمام الجلندى بن مسعود وهو من تلاميذ أبي عبيدة بايعوه ورضوا به إماماً وحاكماً على عمان لأنهم أرادوا أن يجتمعوا على الحق ويسيروا على سيرة الخلفاء الراشدين، فبايعوه في سنة 132هـ – 749م ، وتلاها بعد ذلك تولي السفاح زمام أمور الدولة العباسية التي أسقطت حكم بني أمية مثلما ذكرنا سابقاً.
لقد كان لبيعة أهل عمان للإمام الجلندى بن مسعود واستقلالهم عن تلك النزاعات والحروب التي هلكت الأمة الإسلامية ، وقع جلل في العالم الإسلامي إذ اهتز العالم لهم هيبة وارتجت قلوب أعدائهم، فخافهم الملوك المجاورون وحسدتهم بعض الأمم، فاستقلال عمان عن كل هذه الصراعات لا شك بأنه كان حدثا تاريخيا حاول الكثيرون هدمه في وقت كان التطاحن المذهبي في أوج ذروته .
لقد كانت إمامة الجلندى بن مسعود على عمان متزامنة مع عهد السفاح الذي تولى أمور الدولة العباسية ،وحكم الإمام الجلندى بالعدل وضحى بحياته من أجل الاستقلال عن الدولة العباسية ، حيث إن السنتين اللتين حكم فيهما الجلندى كانتا الأساس الذي مشى عليه أهل عمان في استقلالهم وتقرير مصير دولتهم، قال الشيخ العلامة أبو الحسن البسياني عن ذلك :” فسار الجلندى بن مسعود في عمان وأظهر الحق وعمل به ، وأخذ الدولة من يد الجبابرة، ولم يستحل مع ذلك غنيمة ولا سبي ذرية، ولا استعراضاً بالقتل من غير دعوة.”
أخذ الإمام الجلندى بن مسعود بتنظيم دولته المستقلة وجعل للجيش كتائب ورايات،وجعل على كل كتيبة قائداً كامل الشروط ديناً وفقهاً وأدباً وأمانة، كما جعل لكل عشرة رجال مؤدباً دينياً وأخلاقياً يمشي رجال دولته على تعاليمه الصحيحة الصالحة، فكان الجلندى هو أول إمام بعمان وأول من أقام صروح الإسلام في هذا الوطن الخالد بملوكه وأئمته وسلاطينه وشعوبه إلى الآن .
ويذكر التاريخ بأن أبي الدلف شيبان بن عبدالعزيز اليشكري عام 134هـ قتل على يد العمانيين في عهد الجلندى بن مسعود بسبب دخوله بجيشه إلى عمان محارباً بعدما انهزم من قبل بعض أمراء بني أمية ومن ثم السفاح الذي تولى أمور الدولة العباسية في العراق، حيث بعث له السفاح خازم بن خزيمة التميمي ليقضي عليه في عمان فوجده مقتولاً على يد العمانيين الذين لم يجد منهم إلا الخير ، ولكن خازم لم يهدأ له بال وهو يرى عمان دولة مستقلة لها إمامها ولا تتبع الدولة العباسية ، فأرسل خازم للإمام الجلندى رسالة كتب فيها :” إنا كنا نطلب هؤلاء القوم أي- أبي الدلف شيبان اليشكري وقومه – ، وقد كفانا الله قتالهم على أيديكم أيها العمانيون ، ولكني أريد أن أخرج من عندك إلى الخليفة وأخبره أنك له سامع ومطيع” ،فاستشار الإمام أهل الحل والعقد في عمان في ذلك وكان منهم شبيب بن عطيه العماني، وهلال بن عطيه الخرساني ، وخلف بن زياد البحراني، فرأوا غير ذلك ولم يكترثوا للانصياع للدولة العباسية لأنهم كانوا يرون في ذلك خضوعا للجبار الظالم واعترافا له بالطاعة، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وعليه رد الإمام على خازم بالرفض وعدم الاعتراف بخليفة الدولة العباسية، فكان لقاؤهما في جلفار رأس الخيمة حالياً فوقع القتال بينهم وكان الإمام غير مستعد لذلك لأنه ذهب لملاقاة خازم ملاقاة الصديق الذي لم يكن يتوقع الغدر والعداء منه ، فقتل جميع أصحاب الإمام الجلندى بعد معركة شديدة استمرت أكثر من سبعة أيام فقد فيها الجيشان جنودا كثر ولم يبق في الأخير من جنود الإمام إلا هو وهلال بن عطية وزيره الأكبر وقاضيه، فتقدم خازم التميمي وقتل الجلندى بن مسعود في عام 134هـ ، وبعد ذلك مكث خازم في عمان عدة أشهر بعدما أرسل رؤوس ضحاياه إلى الخليفة العباسي السفاح الذي مات بالجدري وهو بالأنبار سنة 136هـ ، وما لبث خازم بعد ذلك سنتين حتى مات وهو يردد على أصحابه :” غررتمونا في الحياة وتغرونا في الممات هيهات هيهات، فكيف لي بقتل الشيخ العماني” ويقصد هنا الإمام الجلندى بن مسعود وأصحابه .
وقد قال ابن الأثير بأن خازم قد ولى أعداء الإمام على عمان فأفسدوا فيها وكانوا أهل ظلم وجور ومنهم محمد بن زائدة وراشد بن النضر، فضعفت عمان لأن صوت العدل آنذاك كان خافتا وصوت الباطل كان مرفوعا.
ولكن أهل عمان لم يستكينوا لذلك فجمعوا وحدتهم لقتال راشد بن النضر والي العباسيين على عمان، والذي كان من أهل عمان، لكنه آثر اتباع العباسيين وأخذ يجور في البلاد مستنداً لتبعيتهم ، وقد تمكنوا بقيادة عبدالملك بن حميد ومحمد بن المعلى والأخنٍس الفحشي من التصدي لراشد بن النضر وجيشه وقتالهم في الظاهرة بأرض يقال لها المجازة وانهزم راشد وهرب إلى خارج عمان وقتل جمع كبير من جنوده وكان ذلك في شهر رمضان الفضيل، وبعدما انتصر العمانيون على سلطة العباسيين وأتباعهم في هذه المعركة رجعوا إلى معسكرهم في منح واجتمعوا تحت راية الشيخ موسى بن أبي جابر الأزكوي والشيخ بشير بن المنذر النزواني واتفقوا جميعاً على أن يولوا محمد بن عبدالله بن أبي عفان على قريات وبقية المناطق المجاورة وكذلك قيادة الجيش ، كما اتفقوا على أن يتولى محمد بن المعلى الكندي أمر صحار والى آخره من تعيينات استهدفت تنظيم الدولة العمانية انذاك مرة أخرى.
وحينما هدأت الأمور أصبح محمد بن عبدالله بن أبي عفان بعد مشورة الأمة العمانية من أهل الحل والعقد قائدا للجيش آنذاك و تشير المصادر التاريخية إلى أن العمانيين لم يبايعوه كإمام بل جعلوه قائدا للجيش يدير شؤون البلاد آنذاك ، و بعد نيف من الزمن أساء محمد بن عبدالله بن أبي عفان السيرة ولم يكن الشخص المثالي الذي يجتمع على سلطته أهل الحل والعقد فعزله العمانيون مثلما ذكر نور الدين السالمي سنة 170هـ ، وهي السنة التي تولى فيها هارون الرشيد الخلافة في الدولة العباسية .
إذن بعدما اتفق العمانيون على عزل محمد ابن أبي عفان، اخرجوه من نزوى وتولوا الأمور التي كانت بيده، واختاروا لأنفسهم الوارث بن كعب الخروصي إماماً بعدما أخذ الشيخ موسى بن أبي جابر بيده ونصبه إماماً على أهل عمان بعد اتفاق أهل الحل والعقد على ذلك بنزوى وقد كان من أفضل أئمة عمان وأقواهم في الدين ومن أزهد الرجال الذين عرفهم التاريخ عبر القرون.
لم تهدأ الدولة العباسية التي كانت تحاول بقدر الإمكان إخضاع عمان بإرسالها لتلك الجيوش التي كانت تلاقي شر الهزائم على يد العمانيين ، ففي عهد الإمام الوارث بن كعب ، ارسل هارون الرشيد جيشه بقيادة ابن عمه عيسى ابن جعفر بن المنصور ليحتل عمان ويخضعها ، وقد جهز لهم الإمام الوارث بن كعب جيشا يبلغ عدد مقاتليه ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة أبو حميد بن فلج الحداني السلوتي ومعه عمرو بن عمر ليقتتلا مع الجيش العباسي في ( حتا) شمال صحار فتقهقر الجيش العباسي وانهزم شر هزيمة على إثرها تم أسر ابن عم الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي لم يكن يتوقع هزيمة ابن عمه عيسى ابن جعفر بن المنصور حيث وضعه العمانيون في السجن حتى تسور رجل عماني يدعى يحيى بن عبدالعزيز السجن بصحار – دون علم الإمام- وقتله ليخلص الأمة العمانية من شره وينال عقاب جزائه نتيجة هجومه على عمان وأهلها.
ثارت ثائرة هارون الرشيد على عمان وأهلها لا سيما حينما انهزم جيشه وقُتل ابن عمه في عمان على يد أهلها حينما اتاها غازيا طامعاً في ملكها في عهد الإمام الوارث بن كعب الخروصي، وتقول المصادر التاريخية بأن الخليفة هارون الرشيد قد جهز جيوشا ضخمة لقتال أهل عمان والثأر لابن عمه ولكن الموت داهمه قبل ان يرسل جيوشه الى عمان في سنة 193هـ، وكأن الله أراد بموته أن يجنب أهل عمان حربا تسال فيها دماء عمانيين لا هم لهم سوى الدفاع عن أوطانهم وعرضهم واستقلالية تدبير شؤونهم.
ولم تر عمان أيام الوارث بن كعب سوءاً فلم يغزها غاز واطمأنت البلاد واستراح العباد وانقطعت شأفة الفساد وصارت عمان خير دار بعهد إمامها المغوار الممدود من السماء بالكرامات الكبار التي هي أفضل المنن من الله لعباده الأبرار.
وللتاريخ في سيرة أهل عمان وقوتهم بقية ..
المصدر : السيابي ، سالم بن حمود بن شامس – عمان عبر التاريخ ج1،2 – الطبعة الخامسة -2014م – وزارة التراث والثقافة – سلطنة عمان