قصة السلطان الذي نزل خبر وفاته كالصاعقة على زنجبار وأهلها

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – تاريخ عمان

 

نزل خبر موت السيد سعيد بن سلطان مؤسس الامبراطورية العمانية وهو عائد الى زنجبار من رحلته الاخيرة التي زار فيها عمان  كالصاعقة على أبنائه وبناته وكل شعبه حيث لم يكن بحسبان أحد لا من رعيته ولا من أهل بيته أن يأتيهم مثل هذا الخبر ، وقد قامت ابنته السيدة سالمة بتوثيق الشعور الذي انتاب زنجبار وحريم السلطان عندما  وصلهم خبر وفاته في مذكراتها التي  نشرت في كتاب اسمه “مذكرات الأميرة سالمة”

 

” أثير” تنقل لكم ما كتبته السيدة سالمة عن خبر موت أبيها حيث تقول في مذكراتها:” مرت الأيام وتبعتها الاسابيع ولم يظهر لأسطول السلطان أثر ولم يرد إلينا عنه خبر ، ولم يكن لدينا ما نداري به القلق المتعاظم والاضطراب المتفاقم غير الاستماع إلى اقوال العرافات والتشبث بتصديق أخبارهن الموضوعة .

 

وفي ظهيرة يوم ما ، وحين كان الناس يؤدون صلاة الظهر سرت الانباء بأن أحد صيادي السمك لمح في عرض البحر اسطولاً من السفن يرفع فوق صواريه علم أبي ، ولكن الصياد لاشتداد الريح وهياج البحر ، لم يتمكن من الاقتراب من الأسطول .

اذن هذا هو السلطان الوالد والحبيب عائد إلينا ..

فاخفقي يا قلوب واطربي يا نفوس وانطلقي يا افراح ..

 

وحين كنا نستعيد الصياد قصته مرات ومرات وهو يعيدها ويقسم لنا بأغلظ الإيمان على صحتها سرت البشائر بالأنباء إلى انحاء البلاد وارسلنا عبداً من أسرع عدائينا إلى رابتنا السيدة عزه في بيت المتوني نزف إليها البشرى السارة ، وعمت الفرحة سكان بيت الساحل بعد وجوم ودبت فيهم الحياة بعد ركود فأسرعت النساء إلى أحسن لباسهن وأحلى زينتهن وأجمل عطورهن يتبرجن بها بعد أن هجرنها نيفا وسنتين ، وانطلق الطهاة يذبحون ويعجنون ويطبخون ويخبزون وانطلق الخدم يعطرون الغرف بالبخور وبالعطور الأوروبية الفاخرة ، واتخذ كل من في القصر أقصى ما يستطيع ليظهر فرحته باستقبال العائد العظيم ، القائد والوالد والزعيم والحبيب إلى كل فرد وقلب .

 

وقد قرر أخي ماجد أن يخرج إلى عرض البحر ليستقبل سلطانه واباه ويعود معه على ظهر سفينته وإذ لم يتبق على موعد وصول السلطان حسب رواية الصياد وتقديره إلا ساعتان أو ثلاث فقد أسرع ماجد واستقل هو وحرسه مركبين صغيرين لم يتيسر غيرهما في غمرة العجلة وساروا بهما يشقان عباب الماء في وجه عاصفة عاتية هوجاء كانت تهدد مركبيهما بالتدمير التام ، على أمل أن يلحقوا بسفن السلطان ويعودوا معه قبل حلول الظلام في الساعة السابعة .

 

ولكن الشمس غابت وحل الظلام ومضى هزيع من المساء ولم تظهر السفن للعيان .

 

وبدأت الوساوس والشكوك تملأ القلوب والألباب وما لبث أن صار الشك قلقاً استبد بأبناء المدينة عامة وأفراد اسرتنا خاصة ، ثم صار القلق جزعا وذعراً يرتسم في النفوس الواجمة والوجوه الشاحبة والعيون الذابلة ، وذهبت بنا الظنون والهواجس كل مذهب فمن قائل ان العاصفة قضت على ماجد ورفاقه فابتلعتهم الأمواج ومن قائل بل انها أودت بأسطول السلطان كله إلى قاع المحيط وظللنا على هذا الحال حتى تقدم بنا الليل ولم يفكر بطبيعة الحال أحد منا حتى الأطفال بالنوم ما لم نعرف مصير السفن ومن عليها .

 

وفجأة انطلقت في البيت إشاعة لم نصدقها أول الأمر ، وهي أن الجنود المسلحين قد حاصروا القصر وسدوا منافذه ومداخله وأسرعت النساء إلى الشبابيك تستطلع جلية الأمر ، ومع أن الليل حالك الظلام فقد استطعنا أن نتبين أفواه البنادق تلمع في حلك الظلام وأشباح الجنود تحيط بالبيت ، ولم يكن هذا الاكتشاف بالأمر السار طبعاً للنسوة الهلعات والأطفال المذعورين ، ولكن المهم الآن ان نعرف ماذا جرى من أحداث استوجبت هذا الحصار المحكم حول البيت ومنع الخروج والدخول منه وإليه ، والأهم من هذا ان نعرف مصدر هذه الإجراءات والآمر بها ، فماجد وهو نائب السلطان لم يعد من عرض البحر فمن غيره أصدر هذه الأوامر ؟!

 

وفي وسط هذه التساؤلات تسربت إلينا الأنباء ان حصارا مماثلاً قد ضرب حول بيت ماجد فزادنا هذا الخبر حيرة وجزعا.

 

ولم يكن في البيت أحد غير النساء فالعادة أن ينسحب الخصيان والعبيد عند المساء ليلتحقوا بعائلاتهم خارج القصر ، لهذا فقد استبدت فينا الحيرة والذعر والفوضى ومضت كل جماعة تتصرف بما يوحي إليها الموقف ومتانة اعصابها فقد نزلت بعض النسوة الجريئات إلى الطابق الأرضي وأخذن يكلمن الجنود من نوافذ القصر يسألنهم بعض المعلومات عما يجري خارج القصر، ولكن الجنود كانوا غلاظ القلوب فلم يكتفوا بتجاهل الاسئلة الموجهة إليهم وإنما هددوا النساء بإطلاق النار عليهن إن لم يضعن حدا لفضولهن وضوضائهن، وانصرفت نسوة أخريات إلى النحيب وهن يلعن الشيطان الرجيم على سوء فعلته هذه ، وارتفع صراخ الأطفال وبكاؤهم ولم يكن إلى إسكاتهم من سبيل ، ومضت فئة من النساء إلى الصلاة وطلب الرحمة والعون من الله تعالى ، وامتزجت مشاعر الخوف على مصيرنا بمشاعر القلق على السلطان وماجد واخذ منا الاضطراب كل مأخذ فمنظرنا أصبح منظراً لا يوصف اختلطت فيه المشاعر وضاعت المقاييس ولو هبط علينا أحد من خارج القصر ورأى وضعنا المزري وفوضانا المفزعة في تلك الليلة المرعبة لظن انه في مستشفى المجانين وليس في حريم السلطان .

 

وبعد طول عناء وألم ممض بدأت دياجير الدجى تنزاح عن ليلة الفزع هذه وأنوار الفجر تنتشر وتنبثق عن نهار لم يستطع ضياؤه ان يزحزح ما كنا فيه من ظلام الجهل عما يجري في البلد من أحداث وعن أسباب هذا الحصار المفروض علينا ولم يسمعنا النهار شيئاً عن أخبار السلطان  أو ماجد ولكننا في طريقنا إلى أداء الصلاة لمحت أحدانا الأسطول راسياً في الميناء وقد أفرحنا هذا الخبر وأفرغ من روعنا ، ولكن سرعان ما عاودنا الذعر والروع حين شاهدنا صواري الأسطول ترفع اعلام الحداد ، ثم وصل إلينا أخوتنا ولكن السلطان لم يصل .. وعند هذا فهمنا ما تعنيه أعلام الحداد فوق سفن الأسطول ووا اسفاه ..

 

اذن فقد رحل عن هذه الدنيا الأب الحبيب والسلطان العزيز ورب البيت وسيد الحمى ،ولي العبد المؤمن سعيد بن سلطان نداء ربه تعالى ورجعت نفسه المؤمنة إلى جنات ربها راضية مطمئنة ، فقد توفي السلطان اثناء عودته من عمان إلى زنجبار اذ هاجت عليه عقابيل جرح خلفته شظية مدفع استقرت في فخذه في احدى حروبه وظل بحياته يعاني منها الألم حتى قضت عليه.- ” كانت وفاة السلطان سعيد بن سلطان في 19 اكتوبر 1856م وقد اصيب في 18 سبتمبر من نفس العام بورم والتهاب في ساقه من أثر الجرح القديم في فخذه وفي 13 اكتوبر اصيب بالديزانتريا الحادة التي تسببت بوفاته” –

 

أي خسارة جسية لا تعوض قد منينا بها ومني بها شعبنا فلم يكن السيد سعيد الاب العطوف لأهله وشعبه فحسب بل كان خير الحكام وأعدلهم وانقاهم ضميراً وأقربهم إلى قلوب رعيته الذين رفعوا الأعلام السوداء على كل بيت من بيوت زنجبار تعبيراً عن حب الشعب لحاكمه وحزنه لوفاته .

 

وقد أدلى لنا بتفاصيل الوفاة أخي برغش الذي كان برفقة أبي في رحلته الأخيرة ، ونحن ندين بالشكر إلى برغش ان استطاع ان يحتفظ بالجثمان العزيز بدلاً من إلقائه في البحر كما تقتضي بذلك تعاليم الإسلام وان يصر على نقله إلى زنجبار ليدفن بها وقد أمر بصنع تابوت لحفظ الجثمان فيه ، وكان برغش مدفوعاً بعمله هذا بحبه إلى والده والرغبة في إكرامه وان خالف في الواقع بعمله هذا تعاليم الدين وتقاليده ، فنحن لا نعترف باستخدام التوابيت بل نعتقد ان المرء يجب ان يعود بكل بساطة إلى التراب الذي خلق منه .

 

ثم بدأت أسرار الأحداث الغامضة والحصار المحكم تنكشف لنا بالتدريج مع طلوع النهار ، في الوقت الذي تاه فيه السيد ماجد أسطول ابيه بسبب الظلام والعاصفة التي ألمت بهم بتلك الليلة ، ولذا استمر برغش قائداً عاماً للأسطول بعد وفاة السلطان باعتباره أكبر ابنائه الموجودين على ظهر الأسطول آنذاك ولما هدأت العاصفة ولاحت الأرض لبرغش أدخل الأسطول إلى الميناء خلسة وانزل منه الجثمان سراً وامر بدفنه في مقبرة العائلة في زنجبار”

 

 

 

ـ المصدر : مذكرات أميرة عربية ، بقلم السيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان سلطان مسقط وزنجبار ، ترجمة عبدالمجيد حسيب القيسي ،الطبعة التاسعة 2007م

Your Page Title