قراءة في ديوان ” الفجر ظل داكن ” للشاعر مهدي منصور
Atheer - أثير Atheer - أثير
قراءة في ديوان ” الفجر ظل داكن ” للشاعر مهدي منصور
علي نسر – لبنان
هذه القراءة نُر منها جزء في جريدة النهار وتتفرد أثير بنشرها كاملة
شملة من القضايا تشكّل بؤرة شعرية ينطلق منها الشاعر (مهدي منصور) في ديوانه الأخير (الظل فجر داكن)- شركة المطبوعات للتوزيع والنشر…قضايا تختزل عالما وجوديًّا يتخبط المرء في أوحال تناقضاته من الولادة إلى الموت.. فتقوم بنية القصائد عموما على ثنائيات ضدية تصطرع على مسرح كيان الشاعر، طرفاها الأساسيان: العقل والقلب…
مهدي منصور
الظل فجر داكن
وفي خضمّ هذا الصراع، نرى المستقبل القادم خاسرا أساسيًّا في معركة يحاول فيها الشاعر أن يلوذ بالماضي، متترسًا بطفولة يعرف تفاصيلها،لكنها لا تعرفه لما أصاب ملامحه من تشوّه في سرداب حاضر تشوّهت فيه جميع الألوان الجميلة.(الصغار الذين في آخر الحي/ لم يعرفوني/ ولم يعرفوا أن طفلا تعثّر بالعمر في طابق مهمل/كل يوم يغني لهم معهم.ص14).حاضر لم يبق فيه سوى الوحشة تدب صدى في مشوار الحياة( ليتهم يسمعون صدى وحشتي الآن.ص15).كل هذا يمهّد به الشاعر ليشتري من العاذلين أعذارا يسوّغ بها تشاؤمه، فيجعل الغد لعبة قمار حيث الخاسرون فيها كثر،(…الأيام نرد كاذب الارقام/ والأحلام وعدٌ مضمحل ص18).
هذا الجوّ التشاؤمي،ينعكس على انسانية الشاعر، فتتأجج في دخيلته نيران التدمير التي لم تصب حممها سوى الذات فيستحيل مازوشيًّا، يقترب من مشارف الدونية حين يصبح الحب عاجزا عن تحريك المشاعر فيلجأ إلى الكتابة المتنفس الأكثر جدوى،(رغم انك كاملة الجرح في جسد أسمر كخطاياه/ ليس يفعل سحرك بي أي حلم عجوز/ إذا ما الكتابة أردت قواي بنهرين من فودكا/ ورمتني بحرية من علو عنيد/ على ليلة من ورق ص34).فهل تحطمت روح الشاعر وتشظت مراياه زبدا على شواطئ الحب الذي يؤكد (منصور) انه كان موجودا وانتهى،فاستحالت الحياة مدينة فارغة من ضجيج يؤكد ان للحياة وجودا،(لكن الحياة مدينة صماء بعد الحب ص35).
هذا من الناحية الشخصية،لكن ثنائيات الصراع الاكثر تجسيدا لجدال العقل والقلب،تتجلى عبر ابحار الشاعر في بحر التساؤلات الوجودية والمصيرية التي تدور في خلد كلّ منّا،فنطرحها حينا ونخاف من طرحها على انفسنا احيانا اخرى،والتي غالبا ما تركته شلوًا ممزقا تتلاعب به رياح القدر كورقة لا تعرف اتجاه المراسي،(وانا صدى متجعد في الريح/…وتائه قدّته كف الحزن من ارض القصيدة/ ..لا شأن لي/ والوقت يزلق من اصابع لهفتي ص30-31).
يعلن الشاعر غير مرة عن خوفه من الغد،ومن التساؤل عما هو يتخفى في غياهب الغيب،فالغد حقيقة مموهة،كلما حصلنا على جانب من جوانب احاجيها أفرخت الكثير مما تحار به الألباب(والريح بصّارة الآفاق تقرأ لي/ غدا تشابك فيه الف مفترق ص61).ما جعله ينحني من وزر التساؤلات متقوّسًا ظهره امام ألغاز الاجابات التي تحتاج الى الكثير من التساؤلات الجديدة (وفوق ظهر حنيني حمل قافلة/ حتى اشتبهت: هلال ذاك ام جسدي؟ص55) فيعترف بعدم هدايته،وأنّ باب الرشاد لم يفتح ليدٍ تعبت من قرعه،فيخاطب الله مقرّا بعجزه عن الانغماس في ما هو عصي على الاقناع،( فادخل مساجد ايامي التي صدئت/ ما دام بابك لم يرأف بطرْق يدي ص55).فيحتمي بامتحانات الأولياء،مستعيرا منهم مساورة الشكوك لهم رغم المعجزات،فكيف بانسان لا يملك من الحقائق سوى الاسئلة والتفكير المؤلم الذي لا بد منه( كل قلب له بين ليلين صبح/ ولي كل هذي الرؤى الحالكات/ لأي سماء أحضّر هذي الصلاة ص32).(انا ذلك الشك المساور في صدور الاولياء سكينة الارواح ص81)..ورغم كل هذا،يرفض الشاعر الاستسلام،ويرى التراجع عن التفكير مقتلًا لصاحبه رغم جراحه وآلامه،( جرح التفكّر منعشي،واموت لو/ يشفى فؤادي من نزيف جراحي ص76).
وما يؤكّد هذا التخبط على اراجيح التناقض،ما نلاحظه من تمزّق الشاعر على حدّي المجرّد المطلق والمحسوس،اذ نراه مرّة ينغمس في الحواس مرتميا بين احضانها،متخليا عن البواطن(فالحب من شدة الشوق للدرب/ غادر قلبي الى قدميْ ص23).ولكنه في مرات اخرى نراه يخلع ثياب الجسد والمحسوس،ليرتدي قميص المتصوّفين لاجئًا الى الله من دون براهين علمية بل عبر استشعار قلبي( انزع حجابك وانطلق يا صاح/ خلف الرؤى طيرا بغير جناح/ واسكب بدن الفكر اكسير النهى/ واسكر بخمر الروح لا بالراح/….أترى يزيل الحب اقنعة الدجى/ فتشع من عمق الفؤاد الضاحي/ ام انت نورٌ لا يُرى او ربما/في العتم تكمن حكمة المصباح ص75).
ولم يكتف الشاعر باستعراض حالته التي تشير الى مدى عصابيته،والعصاب تظهر عوارضه في اضطراب صاحبه في علاقته بنفسه والآخرين وبالله ايضا،بل نراه يستغل المناسبة ليجلد الواقع وما اكتسبناه من دون تفكير،حتى صار نمطًا من الصعب الخروج منه او عليه كي لا نكون متهمين ومشبوهين،اذ يرفض غرائز ثقافية تحولت مع الايام الى أعراف تتشبّث بها القلوب وتُسقط على العقول اسقاطا،فيخاطب جدّه،رمز الماضي وعاداته،ساخرا من جيله الذي لا يتعامل مع غرائب الامور بطريقة علمية ومنطقية (انا لم اخن حتى عباءتك التي في البرد تقتلني/ والجأ للصلاة اذا تأخر نهد يافعة/ او انكسفت بهذا الكون شمسٌ/ او تأخرت السماء عن الشتاء ص87).ولم يقف عند حد العرض ولوم الواقع والنعي في الخرائب،انما يقدم رؤية للحل تتمثل في الخروج على المألوف والانشقاق عن الجسم القديم الذي اصبح صدئا باليا،عبر ثورة تطهيريه يرمز اليها بالنار (النار جائعة…سأطعمها كلامك والصحائف/ طالما حتى عقالك فوق رأسي صار مشنقتي/ ونول العمر من هذه العباءة خاط لي هذا الكفن ص89).
هذه القضايا وما يتشعب منها من امور قابلة للجدال والمساجلات،يعرضها الشاعر بقالب فني جعل من الصورة الشعرية برهانا على اثبات مضامينه،ورغم الحاجة الى التحرر من القيود في معالجة مثل هذه القضايا الشائكة،الا أن الشاعر ظل وفيًّا للوزن ولم يخرج من تحت مظلة الخليل واصحاب شعر التفعيلة،فجاء كلامه انسيابيا استطاع التوفيق بين المعاني وحشد الالفاظ التي تخدمها وتعبّر عنها بعيدا من التكلّف،مستأنسا ببعض الشعراء مستعيرا منهم بعض الايحاءات كأبي العلاء المعري حين يقول(وما كذبت على ولد) انسجاما مع(ما جنيت على احد)،وحسن عبدالله في قصيدة اجمل الامهات الشهيرة حين يجعل منصور من نفسه خارجا نحو عمل سام والمدينة تنتظر ولها( دمعتان ووردة).كما قادته عفويته الى استخدام كلمة بشكل مختلف عما هو مألوف اذ الحق علامة التأنيث بكلمة (عاقر) وهي من الكلمات التي لا تستدعي ما يدل على تأنيثها.