يحلو لي أحيانا أن أعود لبعض الكتب التي قرأتها في السابق وكتبت عنها. أعيد تقييمها أحيانا، وأعيد تقييم ما كتبته عنها أحيانا أخرى. مؤخرا عدت لكتاب نصر حامد أبو زيد “دوائر الخوف.. قراءة في خطاب المرأة”، الذي كنت قد قرأته لأول مرة عند صدوره، وبعدها كتبت عنه مراجعة مطولة انطلقت فيها من سؤال الكتاب: لماذا حين يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري ، يصبح “وضع المرأة” قضية ملحة ؟.
في تلك المراجعة كتبت؛ “أن من هذا السؤال المهم يبدأ موضوع كتاب أبو زيد بالتكون والتحقق تحت مظلة الإيمان بأهمية بحث قضية المرأة بتشعباتها وتداعياتها المختلفة على هامش واقع عربي اجتماعي وفكري غارق في الركود والتخلف.
ومنذ البداية يتوقع الدكتور أبو زيــد أن يجد العفـريت فعلا كل من يريد البحث عنه في ثنايا كتابه ذلك العفريت الذي سبق وأن عاني منه كثيرا منذ أن أعلن إيمانه بالاجتهاد سبيلا إلى تصحيح معتقدات اعتمدت على النقل التواتري دون إعمال للعقل أو اجتهاد حقيقي. انطلاقا من مضمون المثل الشعبي المصري الذي يتوقع أن يطلع العفريت لكل من يخاف منه.. بالتحديد.
وأبو زيد الذي يسمي كتابه “دوائر الخوف” ينطلق من مركز الدائرة التي انداحت لتـصنع من مجمل كتاباته الأخيرة اتجاها يشير إليه بالتحديد.
وإذا كان المؤلف قد كتب معظم فصول كتابه الذي بين أيدينا الآن قبل إصدار الحكم القضائي الشهيرـ الذي أدانه وحكم بتفريقه عن زوجته باعتباره مرتدا عن ملة الإسلام مما اضطره إلى الهجرة من بلده للعيش في هولندا ـ فإن قراءته على ضوء ذلك الحكم وما رافقه وتبعه من ملابسات وردات فعل مختلفة ومتناقضة تلقي مزيدا من الأضواء على فكره ودعوته العملية لفتح باب الاجتهاد، خاصة وأن مؤلفه يقدمه للقراء على طبق من مرارة التجربة الشخصية التي كان من الصعب عليه التغلب عليها، ويزداد الأمر صعوبة كما يقول أبو زيد “حين تكون مرارة التجربة ناتجة عن عوامل وظروف كان المفروض أن تؤدي إلى عكس ما أدت إليه بالفعل . والحديث هنا عن تجربة الكاتب التي دفعته دفعا إلى أن يهجر وطنه وأهله، وأن يحرم من طلابه ، غرس يديه وثروته الحقيقية ، ويقرر الحياة في المنفى ..” ، فنصر حامد أبو زيد إذن يجمع بحوثه ودراساته التي سبق وأن أنتجها قبل أن تتفجر قضيته القضائية الشهيرة ويضيف عليها فصولا جديدة ليصدرها في كتاب في ظل هذه الظروف “المريرة” التي أرقت الكاتب وجعلته يتردد كثيرا في النشر بصفة عامة رغم أنه كما يقرر لم يتوقف عن القراءة والكتابة، خاصة وأنه لاحظ أن “استراتيجية البحث عن العفريت”، كما يسميها ، تسيطر على قراء كتبه مما جعله يفقد الجدوى في القراءة والكتابة أصلا. وبالتالي فإن قراءة الفصول القديمة والجديدة في إطار من فهم وتفهم الظروف التي أحاطت بتجربة الكتاب ـ الذي قرر أخيرا نشره بفضل جهود بذلها في إقناعه أحد أصدقائه الناشرين ـ تستدعي منا التغاضي عن بعض “الملاحظات” السلبية الفنية او الشكلية فيه .
وقد سبق لكتاب دوائر الخوف أن صدرت معظم فصوله في كتاب عنوانه ” المرأة في خطاب الأزمة ” وذلك قبل قضية أبو زيد الشهيرة، ولكنه لم يوزع لظروف تتعلق بتوقف دار النشر التي نشرته عن مواصلة عملها . ولذلك كان من الطبيعي أن يقتنع أبو زيد بإعادة نشره في صورته الجديدة رغم ما كان قد أصابه من إحباط”. حسنا. ما الذي يمكن أن يضاف إلى مراجعة كهذه الآن بعد أن رحل أبو زيد رحمه الله بحسرته، وبعد أن تمدد الإحباط وصار مذهبا للكثيرين ممن يؤمنون بأفكار أبو زيد في ذلك الكتاب أو غيره تجاه وضع المرأة في الوطن العربي، وبعد أن أحاطت بنا العفاريت المخيفة من جانب، كيف يمكننا قراءة دوائر الخوف؟ بعد أن انتهيت من الكتابة والمراجعة أيقنت أن أبو زيد لم يطلق على كتابه هذا العنوان إلا لأنه يرى أننا لن نخرج من تلك الدائرة ما دمنا نمشي بموازة حافتها خوفا من العفريت الرابض خارجها كما نظن، بل سنظل ندور معها إلا الأبد وأن الحل الوحيد للخروج منها هو كسر الدائرة وقتل العفريت.. فمن يجرؤ؟!