أبجد

الغنائيّة في ( صدق خيالك )

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

 الغنائيّة في ( صدق خيالك )

الصوت الخافت والأفق الضيق !

حسن مجَّاد – العراق

 

 ( لا احد ينام في العربة حين تقله من الزنزانة إلى المقصلة، لكننا ننام جميعا من الولادة إلى القبر أو أننا لم نستيقظ حقا.وإحدى مهام الأدب العظيم إيقاظ الانسان السائر صوب المقصلة )

 إرنستو ساباتو : ( الكاتب وكوابيسه : ت: عدنان المبارك )

 

بدءاً ينبغي لنا أن نتريث قليلاً؛ لكيلا نقع فريسة غواية التحديث الشكلي، فالتقليدي تقليديّ لا لأنه يكتب على طريقة أبي العتاهية،بل لأنه يكتب على طريقة رامبو أيضاً ،إذ لغواية التجريب فخاخ في اللعب تصبح به القصيدة ضرباً من ضروب الاستعارات البعيدة ، تلك التي نعجز عن أن نلمَّ أطرافها بالشكل الذي يعيدُ ترتيب فهمنا أو إدراكنا للواقع وتأويله على نحو خلاّق،والفن مهما بالغ في ترفه لا ينبتّ أبداً عن رحم التجربة الأولى، ولكنها تجربة لا تتعالى على البيئة على مستوى المناخ الخاص أو الاجواء العامة،بل تقدم فهما آخر أكثر حساسيّة وعمقاً لمصير الفرد وذبول الجماعة ، لإحساس الفرد بشيئيته واغترابه عن المحيط ، ومن ثم اكتشاف سر الوجود شعريّاً وجمالياً .

الشعر أولاً وأخيراً وليد الغموض،غموض الروح،فحين كابد الإنسان مشقة الوجود حاول أن يجد تفسيراً لمنابع قلقه،ولنوازع مخاوفه من المجهول؛لذا وجد في الأسطورة تفسيراً فأنشأ قصة،ووجد في الدين تأويلاً لمخاض التجربة فكوّن تصوراً ، ووجد في الشعر ترنيمة ،فظل ينشد ويشدو وسيظل !، وبين الأسطورة والدين والشعر ما هو مؤتلف في النشأة ومختلف في التكوين ومفترق في الاتجاه.

لا يمكن لنا أن نعاين نصوص ( صدق خيالك ) بعيداً عن منجزات القصيدة العربيّة السوريّة وآفاقها في الرؤية والتعبير لمرحلة ما بعد الكلاسيّة المحدثة عند بدوي الجبل وعمر أبي ريشة ، بعد أن أزيحت النبرة الخافتة والمحاكاة التقليديّة للبناء الفني في التراث الشعريّ العربيّ ، ووصولاً نحو متغيرات الحساسية الجديدة وتحولاتها الرمزية والأسطورية باتجاهاتها المختلفة من الواقعية الأسطورية إلى الواقعية الثوريّة عند ممدوح عدوان، وأدونيس ، و محمد عمران وشوقي بغدادي  .عبوراً نحو جيل أكثر عنفا في التمثيل الاستعاري للغة ، فإذا كانت جماعة المحافظين يعملون على إحياء التقاليد الشعريّة لغة وصورة وتعبيراً ، فإن شعراء ما بعد الكلاسية المحدثة عملوا على  مايعرف بــ( تثوير اللغة )واكتشاف طاقات أخرى لممكناتها الوجودية والفكرية ،وقد كانت مغامرة عصيّة في انكسار الأنموذج الشعري وتهشم العلاقات النحوية ، ولكنها بقيت تجابه الجمود والتحجر وقدمت دلائل واضحة في بعض رؤاها ومنها تجارب  سليم بركات ، نزيه أبو عفش ، وفايز خضور ، وآخرين .

ومن هنا كانت عنايتنا هنا تتجه في الكشف عن أفق التجربة الشعريّة وتمثلاتها الجمالية والبلاغية ،واقتناص لحظة المغايرة في الصوت الشعريّ ، ولكننا سنجدُ – ولعل ذلك استنتاجاً قبل أوانه – أنَّ الأفق  الشعريّ بدا ضيقاً ومختنقاً بأسر الذات وقوقعتها بسبب من الأجواء الغنائيّة  ،وأنَّ الأصداء الهجينة للرومانسيّة والرمزية الساذجة كما في رمزية الصياد والبحار قد كانت واضحة وضوحاً يجعل من القصائد تندرج في سياق من التجارب الشعرية الرائدة عن السندباديات ولم تتجاوز الصراع الشكلي نحو سبر عميق لمشكلة الوجود الإنساني .

إذاًَ،وفي ضوء من ذلك ، فإن الشعر ليس كلاماً جميلاً فحسب كما سيظهر ونحن نعاين ( صدق خيالك ) ، بل تجربة في فهم الوجود والإنسان ، وهو بكل الأحوال  ذو منطق مركب من واقع ملتبس،ورؤية للعلاقات التاريخيّة،وفهم لماضٍ ظلّ حاضراً،وتصور لآفاق المستقبل ،وإنَّ أيَّ مهمة نقديّة تستهدف قراءة النص الشعريّ لابد لها أن تلتقط ذلك الجوهر الغامض من الروح الشعريّة وتأمل مراياها وانعكاساتها الدلاليّة والموضوعيّة ،واكتشاف تبدلات أحوالها السيكولوجيّة ، في ظل  سياق الوضع الإنساني المعاصر القائم على ركائز تتنازعها فيها سلطة رأس المال وانفتاح الأسواق مما جعلتاه سلعة وليس زبوناً،معلقاً على صيرورة تنامي المد الأصولي مساوقاً او متاخماً لنمو الديكتاتوريات بعد أن عجزت المفاهيم الشموليّة (الاشتراكيّة،الوحدويّة،وغيرها ) عن تقديم إجابات كبرى لواقع الانسان وآماله وأحلامه ، وهذا العجز عن تحقيق الحلم شكلّ خراباً كبيراً يعتمل الروح،وجفافاً يهددُ بئر الأسرار؛لهذا رجع الشعر العربيّ في طوره الأخير إلى الالتزام  بــ( النظام الموسيقيّ)محققاً الصفة الإنشادية التي كانت ملازمة للنزوع المأساويّ في التراجيديات الكلاسيّة عبر أنماط نوعيّة تتداخل به الأسطورة مع الدين و تتواشج الكلمة مع الروح (التراتيل، الأناشيد، الأدعية، الابتهالات) .

ومن هنا نجدُ تحولاً في الرؤية الشعريّة وأدوات التشكيل الفنيّ في التجربة الأدبيّة من الواقعيّة بانشغالاتها المتعلقة بهموم الانسان الاقتصاديّة والسياسيّة في الكفاح والتحرر من قوى الظلم والاضطهاد إلى الرمزيّة المشوبة ببعد وجوديّ التي اشتغلت على أسئلة تتعلق بكينونة الانسان وهمومه الميتافيزيقيّة ومآلات مصيره،وظهر بوضوح ميل إلى تكوين الصورة الشعريّة عبر تقنيات تراسل الحواس ،وهدم التراتب المنطقي في الإسناد النحويّ لصالح التداعي الحر في إنشاء الجملة الشعريّة ،مما أفضى ذلك الى ظهور سمة الحشد الفني في تكوين الصورة عبر تراكمها وتلاحقها دون روابط سببية بل عبر علاقات سيكولوجيّة يكون بها المحتوى الداخلي هو الجوهر المحرك للصوت الشعريّ ذاتياً.

ولعلّ أولّ مشكل معرفيّ يتجلى بمنابع الرؤية وتشكيلاتها الجماليّة عبر اقتراحها لتصور مغاير للتراث الشعريّ ونحن نطالع مجموعة لــ( شاميّ) تردد فيها أصداء (بدوي الجبل) و جماعة ابولو والمهجريين مع تنويعات متغيرة ، مع ملاحظة أنَّ فهم الإرث الشعريّ لا يقتصر على كونه خبرات وعادات وتقاليد ومناخات فحسب،بل يكمن في وعي خلاق و عميق للخلفيّات الفكريّة والمهاد الحضاريّ الذي يتجسد في علاقة الشاعر المعاصر بماضيه تمثلا واستيعابا وتجاوزا وهو يجترح أسئلته المصيريّة ؛ ليجد أصداءها في أسئلة المعريّ وأبي تمام كما قد يجدها في سان جون بيرس،واراغون، وبابلو نيرودا وضوحاً وعمقاً وتجسيداً لخصوصيّة وابتعادا عن محاكاة ساذجة أو تقليدية فجة،وسيبقى الرهان الأخير حتماً لما يقدمه الشاعر ضمن تجربته من عناصر ورؤى قابلة لتقديم فهم مغاير عن اللهجة السائدة لا أن يندغم في صوت الجمهور وسايكولجيّة الجماعة معززاً قيمها الجمالية كما نجد ذلك واضحاً في مجمل قصائد (صدق خيالك) الملتزمة بنظام البيت الشعريّ لاسيما في قصيدته ( تحية شآمية)التي تحاكي بشكل تقليديّ عناصر البناء الفني للقصيدة العربيّة من رحلة ووقوف عند مزارات البلد وما رافقته من استدعاء للمغاني والشعاب، وهو يقدّم اعتذاراته ملتزماً بقواعد حسن التخلص التي تتيح له العبور إلى غرض القصيدة إلى أن يصل الى قوله :

( أنت والشام والعروبة حسبي …مبدأ للهوى وحسبي ختاما)  

ولعل غوايات الرحلة إلى شاطئ الراحة بعد تعب قد جعلت قصيدته صوتا باهتا في نماذج من قصائد المديح في تراثنا الشعريّ تقليداً ومحاكاة دون تمثل وإضافة وتطوير

( من ذرى قاسيون من كل واد …. أتينا نسابق الاحلاما

فوصلنا إليك قبل المطايا …ورأينا سيل الندى والزحاما ) 

كما نجد بعض أوشال جماعة أبولو،ومقترحاتهم لاسيما عند إبراهيم ناجي في المنولوج والمسوح الديني الصوفي تعبيراً عن قلب مسهد وروح نالها الجفاء والعذاب وهو يتشبث بالشعر وندمائه عسى ان تنجده مما هو فيه :

( هتف الشعر وقد أعجزته….علك الآن تراني قلت : عليّ

ونديمي ليس الا عاشق ….هذبته صحبة الأقداح مثلي

كان يسقيني لكي يسكر بي …. ثم أسقيه فلا يسكر مني

نشوة تشرب من يشربها …بعضها حزت فحاز الكأس كلي )

وهذه الروح المتلفعة بالوجد الصوفي معروفة ومشهورة في الشعريّة العربيّة عند جماعة أبولو وآخرين(ناجي،وأبي شبكة،وسعيد عقل) بما أتاحته من دلالات للـ(كأس ) و( الظمأ) و(الوصال) الصوفي الرومانسيّ .

وهو إن كان يرى في قصيدته ( تجل) تلك الرؤية الصوفية الحالمة، فإنه يبقى محافظاً على حدود العلاقة الشعرية كما شيدتها جماعة ابولو والمدرسة المهجرية في قصيدته ( وطني أحبك )

( وطني أحبك كلما رددتها ….يرتد قلبي يانعا خفاقا

كأس أخير من هواك وها أنا …أجتاز أفلاك الحنين براقا )

إن قصائد (صدق خيالك)الملتزمة بنظام البيت تقوم على الوصف التسجيلي وفائض العاطفة الرومانسيّة من صور مكررة وإيقاعات جرس مألوفة مما يفسر لنا ثبات العالم في رؤيته وسكونه في تجربته،وكلها قصائد في المكان ( موال دمشقي )،( تحية شآمية ..إلى أبي ظبي) (وطني احبك) و(أغنيّة شآمية ) على أنَّ المكان لم يستبطنه الشاعر بل بقي محافظاً على سمته الخارجي وهيكله الإطاري ،والشاعر وهو في الألفية الثالثة لم يقدم عبر قصائده وعيّا حقيقا مغايراً لما أصاب المكان من عطب في الروح ،وكأنه لم يطلع على تجارب الشعراء ممن قدموا إسهامات كبرى في ( قصيدة المكان ) ومنهم ( أحمد عبد المعطي حجازي ) في ( مدينة بلا قلب) و(أشجار الاسمنت) والمقالح في (كتاب صنعاء) والسياب في (جيكورياته) والبياتي في ( قصائد حب على بوابات العالم السبع) و محمد عفيفي مطر وكناياته الشعرية عن رملة الأنجب،إذ لم يعد المكان جغرافية شكليّة ،بل أصبح من صميم المعادل الموضوعي للتجربة الشعريّة الحديثة اصطداما بشوارع المدن العارية،وتيها في منافي المدن البعيدة ،وتسكعاً في بارت واضطهاداً في معتقلاتها وأقبية ظلامها البعيد،او عودة مبكرة لمنازل الطفولة الأولى.

ويشيع في تلك القصائد التي أشرنا إليها  صوت الإيمان (حسبي مبدأ وختاما) والهدوء والإذعان،على أن الشعر الحقيقي ذاك الذي يكتوي صاحبه بنار الشك لا اليقين ،ويستفز ببذرة التأمل لا ان يسقط في فخاخ الوصف ،ويعاين المجهول ولا يراه،لا أن يتماهى بالطبائع حد التقرير،وهذا ما أوقع به الشاعر ومجموعته ولاسيما في مدخله او كما يسمى بـ(العتبات النصيّة)التي تضع المعنى موجهاً للممارسة التأويليّة،إذ تقترح مجموعة (صدق خيالك) عتبتين نطل بهما على عالم التجربة، ونحن نحاول أن نمسك بلب المعنى الشعريّ ومداراته،على أنهما في الحقيقة عتبة واحدة ،فالعتبة الأولى هي تعديل شكلي على نص النفري الصوفي (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)(في طريقك إلى الآخر تشعر بالضياع لا لضيق الرؤيا،إنما….. لاتساعها)، والأخرى منتزعة من نص شعري شكلت عماد المجموعة، ومحورها الجوهريّ

( صدّق خيالك

كي ترى ما لا يرى

صدق جناحك كي تدين لك الجهات

ليس السؤال : تكون أو لا

إنما

ماذا تريد من الحياة ؟؟)

في المقتبس النفريّ وتعديلاته الشعريّة يصبح الطريق الموحش مقترنا في الشعور بالضياع،أما في نصه المقتبس فليس الطريق هو المهيمن بل هي الجهات،وليس سعةِ الرؤيا وضيقها،بل رؤية ما لا يرى ،وهذا التوازي بين النصين قد لا يظهر جليا الا عبر خفة التأويل واتساق المعنى،وهو ما يضع المجموعة الشعريّة في اضطراب بين رؤيتين ومشكلة في المعالجة الفكريّة هموما وقضايا بحسب أدوات التشكيل الجمالي للنص الشعريّ، رؤية رومانسيّة تمتح من الشعر العربيّ الحديث عند ابولو والمهجريين ،ورؤية وجودية  نجدها واضحة في بعض قصائد التفعيلة التي عرفت عند شعراء أهمهم ( محمود درويش ) و( سعدي يوسف ) و( المقالح)،وهذا الاضطراب الرؤيوي والانقسام الفكري واضح وبيّن على الرغم من الخفاء البادي للوهلة الأولى .

على أنَّنا لا نلمح توتراً في القصيدة على مستوى حدة الأفكار ومشاكستها وصراعها ونموها الدرامي  لاسيما في أكثر قصائده التي أريد لها أن تكون كذلك وأعني بها ( الشيخ والبحر – صراع أزليٌّ ) و( ما زلتُ صيّاداً قوياً )،ففي القصيدة الأولى مراسلة شكليّة لأدب البحر منذ ( همنغواي ) في ( الشيخ والبحر ) مروراً بـ( موبي ديك ) لميفل وأعمال أخرى ،ولكنهما نصان في قصيدة واحدة او قصيدتان لنص واحد ليس أكثر ، إذ تنتهي قصيدة ( الشيخ والبحر – صراع أزلي – ) بـــ

( ولم أبحر ..

على شيخوختي

إلا لأثبت أنني

ما زلتُ صياداً قويّاً .

….) ص16 .

على حين تبتدئ قصيدة ( مازلتُ صيّاداً قوياً ) بــ:

( مازلتُ صيّاداً قويا ..

ساعداي يمزقان الريح ..) فتلك القصيدة من هذه ،وهذه من تلك موضوعاً وفكرة ونسيج رؤية،وإن مضينا أكثر؛لنفتش عن المرجع الفكريّ الذي يشكل الإضاءة الخلفيّة للقصيدة،فإننا لا نجد من أدب البحر برمته من رحلات السندباد البحريّة وصولاً إلى موبي ديك إلا نظماً شعريّاً لرواية همنغواي الكبرى ( الشيخ والبحر)  تلك التي يخوض بها سنتياغو العجوز صراعه مع قوى الطبيعة البحر بأسماكه المتوحشة وطموح حياته وأحلامه،بعد ان وضعت تصورات همنغواي عن جيل الرفض الخارج من الحروب والدمار الإنساني حين قال : ( قد يتحطم الانسان ولكنه لن ينهزم )،والشيخ برحلته الأخيرة لا يستلقى على ساحل التعب والاستسلام ،ولكنه يبقى قوي الإرادة بفعل خلاصة تجربة الحياة ومواجهة الصراع من اجل البقاء على الرغم من أنه العائد من رحلته بهيكل عظمى ،لكأنه يريد أن يقول لنا : إنَّ الحياة مجابهة ومقاومة،وقد فهمت الرواية وجوديّا على أنها ضرب من العبث الوجوديّ الذي عرف في الأدب الأمريكيّ،وبعيدا عن تعدد القراءات وتصارع القوى التأويلية في إنتاج المعنى الروائيّ في تجربة همنغواي فلسفة ورؤية وفناً،الا أننا لا نلمح تعديلاً شعريا لهيكل الرواية العظمي  في القصيدة او القصيدتين معاً،فهي قصيدة تقترب من الرواية ولا تتجاوزها ولا تقدم بديلاً رؤيويا لحياة أخرى،ولعل فهم الشاعر للصراع على أنه مواجهة ضد المجهول وأنه ذو صفة أزلية وقدرية هو جزء من أوشال الرومانسيّة الشعريّة ،وليس من وعي درامي يقوم على تبيان موقع الانسان في خارطة الوجود باحثا عن خلاصه الروحي،وأمامنا القصيدة الان لنستذكر بها رائعة همنغواي الروائيّة بنظم شعريّ .

( في رحلة الصيد الأخيرة

بعدما صارعت موج البحر أياماً…

ظفرت بحصتي الكبرى

شعرت بنشوة

وأنا أشد فريستي بصعوبة نحوي

أخمن أنها كانت ستغلبني

وتنجو…لو رأت شيخوختي

لكنها من حسن حظي لا تراني

…..

وحلق طائر فوق المكان

محدقا بالماء …ثم اصطاد حصته الصغيرة

في غياب الآخرين

وطار مبتعدا 

….

أبحرت أياما

ولم يبق حين وصلت

الا الهيكل العظمي من صيدي الثمين )

ولكننا في قصيدته (مازلتُ صيّاداً قويا) نلمح تعثراً بين الشيخوخة والفتوة حين يقول: ( مقلباً أغوار هذا الماء

عن صيد ثمين…يستحق فتوتي )

إذ قد يوحي العنوان الشعريّ ( مازلتُ صيادا قويا ) بهرم قائله وشيخوخته لا بفتوته ،وما يؤكد هذا الإيحاء في دلالة العنوان هو انه جاء في خاتمة قصيدة( الشيخ والبحر) منطوقا بصوت العجوز،فالصياد بعد رحلات من العمر الطويل والمكابرات الشاقة ، وبعد ان دب برأسه شيب السنوات وضياع الليالي يصرخ قائلا : (مازلت صيادا قويا لم تأخذ بي السنوات ولم تنل من قواي الحياة )،ولكننا نفاجأ بــاختلاق شخصيتين في القصيدة واحدة تمثل صوت الشاعر نفسه(عن صيد ثمين يستحق فتوتي) وأخرى ( وكان صيادا هزيلا

ظل قرب الرمل ..مكتفيا ببعض الحظ)ولكنها تبقى شخصيّة لا تمنح النص بعداً دراميّا،بل تبقى شخصية عابرة لا تضيء مكامن الصراع وجوانبه الخفية،فهل الفتى الذي يبحر بحثا عن صيد يستحق فتوته يبقى صيّاداً قويا؟!،هو فتى مملوء بالحياة وعليه ان يكون كذلك،إذ لا معنى لفتى يفتتن بقوته !!!

وعلينا أن ننتقل الآن من فتون الطبيعة  كما تجلت في المجموعة الشعريّة إلى فتون المرأة وغزلياته ؛لنتفحص الجديد والمبتكر،ولنتعقب الأصداء والصوت الخافت ،وفي المجموعة حضور للمرأة بطبيعتها الرومانتيكيّة أيضاً ولنا في قصائده(فتاة ..كما ينبغي للقصيدة) و(لم اكتشف قلبي) (لو كان يكفي دمي) (إلى عينيكِ) ( غزل) (امرأة  بلا أحلام) (احتاج لامرأة سواك – القصيدة الخائنة)،(من نور وجهك ) ما يؤكد ذلك النزوع الشعريّ .

  إنَّ أول ما ينبغي أن نستشفه ونحن نتفحص هذه القصائد بعمق هو وضوح مفهوم الحب الأفلاطوني الذي طورته الرومانسيّة الأوربية تلك التي تقوم على أنَّ (الحب قوة غييبة،وناموس وجودي،وأن المحبوب  ملاك حارس) ويتجسد عناء الحب وقيمته في الوصال والهجر؛ليضع الشاعر قرابينه على مذابح قصائده التي تأتي من وحي الملكوت والعالم السماويّ نراه يقول في ذلك:

( فسآتيك بألفي درة …من بحر حزني

ومن الغيب سآتيك بالآف السور )  ص80 .

( أقطف من أقاصي الغيب أجراساً لقافيتي ) ص30 .

ومع تاريخ الحب تصبح الكائنات كلها متبدية أمام المعشوق تفنى فيه وجداً وهياماً

( كيف مالت هذه الأغصان …وجداً ..وحنانا

عندما حاولت أن أكتب تاريخ هوانا )77 .

                                                                                                         وهذه الرؤية الأفلاطونية التي هيمنت على قصائد الحب يكون بها المحبوب منكسراً أمام مرايا حبيبه مهشما ومتصدعاً تارة،ومكابراً تارة أخرى،يؤمن به،ويعلن إلحاده وكفره،وهذا التشتت هو جزء من الشعور بالخيبة السيكولوجية،وهي بكل الأحوال ضرب من الامتزاج المثالي بين تصور المحبوب كائنا سماويا متعاليا و خبرة الحياة الأرضيّة؛لهذا نجدُ موضوعة (الشقاء)(السعادة) متلازمتين في تجربة قصائد الحب؛لأن البحثَّ عن السعادة هو مطلب لحل المأزق الوجوديّ في الرومانطيقيّة الشعريّة يلخصه قباني بقوله :

( الحب ليس رواية شرقية …..بختامها يتزوج الأبطال

لكنه الإبحار دون سفينة ….. وشعورنا ان الوصال محال )

والبحث عن السعادة في الحب -كما قلنا- مطلب رومانطيقي سواء ببعده الديني الصوفي الذي يرى في المحبوب إلها تصلى في محرابه صلاة العشق كما في ( لو كان يكفي دمي )

( ينيخ الزمان

على بابها

وارتال حسادها

سجّدٌ

كأن الزمان

لها عاشقٌ ..بآلاء أسمائها

يشهدُ )

أو في (نور وجهك) التي وضعها لها الشاعر إهداء بـ(الى أمي في عيدها) وهو نور قدسي منح الشاعر حقيقة وجوده،ولذة إيمانه وأكسبه حرية من القيود والأغلال

( من نور وجهك استمد وجودي

يا فرحة الإقرار بعد جحود

قيدت روحي حين أطلقت الهوى

وجعلت سجني أن تُفّك قيودي

أهديك حبّا أنت أصل وجوده

في باقة من ادمع وورود ) 66

او في بعده الغنائي الذي يرى أنَّ المحبوب يُتوَّج بالقصائد والأغاني،ومن أجل ذلك نجد في المجموعة ارتباطاً قويّا للسمة الغنائيّة ،و أمامنا مقتبسات شعرية تدلل بوضوح على هذه الرؤية التي تربط بين (المحبوب) سواء أكان أرضا او امرأة من جهة، والأغاني بمشتقاتها اللغويّة من جهة أخرى.

( أنا أوّل الأغنيات التي قالها الدهرُ ) ص 49 .

( عرفت الطريق إلى بيتها

أولا:

أعبر الجرح ثم أسير مسافة أغنية واحدة) 43

( وقلبي

كعادته في الصباح يردد بعض الأغاني

ولم انتبه أنَّ شيئا تغير

ما بين قبل…وبعد …التفاتي إليها

فتاة كما ينبغي للقصيدة..ان تدهش القلب

لا …

لم تكن وهي واقفة تحت ظل يكاد يزول

تغني

ولكن عطرا تضوع من ثوبها

قد أحال المدى حولها …أغنيات ) 44

( هل تذكرين قصائدي الأولى

وأغنيتي التي اندلعت أمام عبور فتنتك البريئة مرة ) 40

( وان غنيت لامرأة وخنت قصائدي معها

فما غنيت الإك ) 41

وهذه المقتبسات شواهد على تأصيل الرؤية الرومانطيقية وحصر المجال الشعريّ ،ولكن الشواهد الإحصائية لا قيمة لها ما لم نستنبط منها لب الفكرة وعمودها الروحي التي استدعت هذا التكرار الشعوري او اللاشعوريّ على حد سواء،إذ ان هذا الارتباط و التواشج بين القصيدة والأغاني يبرره السمة الإنشادية التي تستحوذ على كيان الشاعر وهو لا يواجه ذاته وقصائده بقدر ما يواجه جمهوره ، على الرغم من أنَّ القصيدة الجادة مهما تلفعت بالغموض أو ادعت تكنيكا موضوعيا عبر ابتكار الأقنعة واستلهام التراث وتنوع الأصوات غير أنها لا تتخلى عن قيمتها الغنائيّة واتصالها الوثيق بالذات تجسيدا لصعودها وسقوطها معاً،ولكن ما يقتل القصيدة هو الفردانية المفرطة والغنائيّة المكررة تلك التي لا تحدث توازنا مع العالم،بل تصبح حبيسة الهموم الذاتية الضيقة والأوهام الحلميّة والكآبة المرضية كما ان العقلانية ضرب من الإطاحة بالذات وقتل للحدس والانفعال والهواجس لصالح خرائط الجماعات والتجربة والملاحظة .

ولكن (صدّق خيالك) القصيدة،لا المجموعة، ناضجة بكثير عن أخواتها وهي تقف مع بضع قصائد قلائل؛ لتؤكد فرادة الشاعر وحدته وتحول رؤيته الشعريّة وقدرته على التوازن الخلاق بين العام والخاص،الذاتي بأفقه الداخلي والموضوعي بمضمونه الإنساني،وقد بنيت القصيدة على اللازمة الإيقاعية بتكرارها ،وافتتحت بها حتى اختتمت اختتاماً دائرياًَ بحيث نعود إلى أول القصيدة لنقرأ من جديد في دورة فلكيّة على الرغم من النبرة التفاؤلية التي انتهت بها القصيدة

( في الصيف فجراً

حين تعبر غيمة فوق الجبال وتمحي ..

كالوهم ..

أرشف قهوتي متنهداً ..

وأغيبُ )

والقصيدة تستدعي أجواء قصائد أخرى لاسيما ( الشيخ والبحر ) ولكن بتطوير فني آخر تكون به المفارقة عنصراً في التصادم،إذ لم يعد به البحر شيئاً خارج الذات ، ولم يعد الصراع هيكلاً عظميّا لتكوينها

( سأنجح في انتزاع الطعم

من أسماك هذا البحر

أتركهم جياعا…

ثم… أدرك أنني كنت الضحية دونهم

ولأنني الأقوى

غلبت

فمتُّ قبل العاجزين عن اصطياد الموت

كانت حصة الصياد أن أنجو مرارا..

ريثما يأتي

وكانت حصتي من حنكة الصياد أن أحيا

لكي يصطادني )

إنَّ النبرة التفاؤليّة في الحب والحياة قد أكسبت الشاعر وعيا كبيرا في الوثوقية والاطمئنان المشوب بقلق رومانسيّ لا يخلو من أجواء الكآبة ،ولكنه اليقين الذي يتسامى على اليومي والمألوف من الأخطاء،ولهذا نراه لا يحفل بالمعنى البعيد، وقد استهلك الحب اعتذارياته الشعريّة (وكانت حصتي ..

من موت ذاك الشاب في البيت المجاور

أن أغير في الصباح  طريقي المعتاد

كي أتجنب التفكير بالمعنى البعيد )

( حبك استهلك أعذاري وصارت

طرق الورد أمامي مستحيلة ) 80.

وإذا كانت القصيدة قد افتتحت بـ( غيمة تنمحي ) دلالة على العدم فإنّ الشاعر قد يعود مرة أخرى؛ لينهي قصيدته انتصاراً لإرادة الوجود .

( ولو وثقتُ بما أريد

فسوف يصلح كلُّ شيء للغناء وسوف ينتصر الخيال

لا بد …ينتصر الخيال

في الصيف فجراً ..حين تعبر نجمة

فوق الجبال )

ومن هنا،تنغلق الخواتيم الشعريّة على معنى دون أن تتيح مساحة للتأويل.وبعد كلّ ذلك، فالشاعر غنائيّ  متمكن من أدواته الشعريّة صنعة وفناً ،ويحاول جاهداً أن يبحث لصوته طريقاً بعد ان يبتعد عن دائرة التقريرية في قصيدة  البيت الشعريّ والوضوح في دلالة المعنى والنهايات المغلقة على دائرة التأويل .

 

Your Page Title