كتابات منهكةٌ من أثر الحرب
محمد المهدِّي – اليمن
(١)
النهار كتابك أيها المطر, ودمُ الرِّياضيَّاتِ شهيدُ الدِّراساتِ الفلكيَّة..
أقول للماسونيَّة: المعركة حاسمة بين pdf وtxt إنها مأهولة بالتَّضاريس الاستوائية حيث دفاتر رسم الموسيقى لا تزال ضمن أسرى حرب العبقرية, وفخامة الفلسفة في العناية المركزة للذهول, تعاني من تكسُّرات حادَّة في ثلج المخيلة..
ما الذي سيفعله حرف الجرِّ بمفردة الرغيف، وماذا سيحدث للَّنشيد الوطني حين تسدلُ السِّياسةُ ستارَ المسرحيَّةِ وتبيضُّ عينا الإنسانيَّة من العرضِ والطُّول..
أعرف أنَّ الكثير من البلاستيك حين يشعر بارتفاع درجات الحرارة, يقول: “اللهم طوِّلَكْ يا روح” هل ما قاله يعتبر من الأخطاء الشَّائعة أم أن الأرواح بطبيعتها مطاطيَّة تنكمش بالبرودة وتتمدَّدُ بالحرارة؟؟..
بيني وبين النَّار حسابات افتراضية, وعلاقتي بالصقيع والليل جيِّدة, أستطيع أن أقول أنها علاقة حميمة كعلاقة العنكبوت بالغار, لهذا لا خوف من عولمة الحواس وفيدراليةِ المعادلات النفسيَّةِ..
ما أخشاه –عندما أتحسَّس عاطفتي- هو اشتباك دفتر التَّقويم مع مواعيدي, واختناق الوقت بكلابِ جولةِ الساعة…
أيتها الفوضى: ما دمتِ قد امتلأتِ بالقواميس وما دامت زاويةُ المحرابِ وحدها تُجيدُ ترجمةَ الجهات؛ فما جدوى مهرجاناتك التي تُحرِّضُ قبائل الجنِّ على استفزاز المقابر الصخريَّةِ؟!
(٢)
مشكاة الرؤية كموسيقى باردة من أثر التأمل وأنا وأنت كمجرتين من الملائكة..
أيها المتجرد: لدي علامات ما بعد القيامة وأشراط الدرجة العالية في الروح..
لقد تعلمنا كيف نستدرج الغيب وكيف نحدق في الغيمة لنلهمها ما يخطر في بالنا من النجوى..
كثيرةٌ هي أسماء النجوم وقليلةٌ هي التي تسمع أصواتنا المرئية..
بعيدةٌ هي آمالنا وقريبةٌ هي مهاوي الردى في زمنٍ مصابٍ بالنخاع الشوكي..
بالتأكيد.. الكتاب يأخذ بك إلى نزق المعرفة, وأنت تلميذُ قلبك النوراني..
من أيِّ مملكة جاءت بك مودَّةُ الغيم؟
هل أنت عابرُ حظٍّ في شوارع الغيب؟ هل هذه هي سليقةُ نجواك المأهولةُ أم يخيل إليك أن قلبك غرفةُ نوم ميكائيل؟؟..
لك أن تحتفي بلغة الملائكة وبنبرة صوت القدر, ولي أن أعلِّمك كلماتٍ هي في كتاب الكُتب: خلاصة التأؤيل وملكة نحل السرارة السرياليَّةِ:
للماء في أسمائه ومضةٌ/ وللنَّهارات اكتمال الوجودْ
وللصَّدى تنهيدةٌ ما لها/ في رئةِ التَّكوينِ غير الخلودْ
فما الذي تأتي به قِبلةٌ/ جبينها مؤهَّلٌ للسِّجودْ؟.
قد لا تفيء إلى أمر الذَّات وقد لا تقوى على تقشير ذاتك كما تُقشِّر فاكهة أوهامك لشهيَّة الخوف, وقد يسكنك عفريتٌ من الجنِّ يُجيدُ السَّبع القراءاتِ, لا يأبه بقُرَّاء العزائم وبحلقاتِ الرُّقيةِ؛ كونه متراكمٌ كالدِّيانات, وصّلبٌ كالعقيدةِ…
كيف ستواري سوأة نجواك المخلوقة من طلاسمِ المشعوذين وأبخرةِ الكهنة؟؟..
اليقين كتابٌ مفتوحٌ كصحائف الرحمة, ومحبرة اللَّوح تسبيحةٌ كبيرةٌ تحت العرش, فلا تكن ممن ضلُّوا عن السفينة لاتِّخاذهم المعصية واحتفائهم بما تساقط من جبل النجاة البعيد عن خطِّ الإستواء أو -بالأصحِّ- الذي لا علاقة له بالصراط…
هناك أسئلةٌ لا تدلُّ على المسير ولا تمرُّ مع القافلة, وهناك مسافات لا تعرف خطَّ الوصول, وهنا نقطة عمياء للأفق, وأكوان لا تُرى بالعين المُجرَّدة، وكما تعتقد بذلك, لك أن تُصيب, ولك أن تُخطئ..
المُهمّ أن تُفكِّر جيِّداً كيف تقترب من بدايتك..
(٣)
بعد منعطف الكلامِ الهيدروجيني, يتكئُ البردُ على قافيةِ النَّارِ, وتتخذ الماهيَّةُ زاويةً في أقاصي المعرفة..
لم يكن الأفقُ الزاويةَ, ولم تكن الزاويةُ مأوى ملائكةِ الصَّدى…
كلُّ ذرات اللغة ثقيلةٌ جدَّاً, وأقلُّ مستحدثات الماء ظمآنةٌ إلى أنفاس قناديل كانت تلاوتها لا تخرجُ عن شهيقِ (والشمس وضحاها) وزفير: (والقمر إذا تلاها)..
كُلُّها قراءاتٌ مُطفأةٌ كأُمسياتٍ لفرعنةِ الغابة! حيث الكهرباءُ لا تؤدِّي واجبها في معمل الرُّوح ولا تملكُ حُرِّيتها كأحلام اليقظة المراهقةِ وهي تجيد توقيت القُبلة انزياحاً زمنياً؛ لكأنَّها تضامنت مع قبائل الجنِّ والسَّحرة الذين تكتمل أعراسهم في حضرة المغارات..
هل تسمعُ الآن أصواتاً تنبعث من وادي العصور الضنكى, المُسمَّى بوادي مغرب الشمس؟؟..
إنَّها أصواتٌ تشبه مقارعة البروق في أعماق جزيرةٍ تشتبكُ فيها أخيلةُ المقابر بنزقِ الحروب وحطب المعاجم المُتشقِّقة كأقدامِ الأزمنة!! يا للهول!! تُجنُّ التُّكنولوجيا ليعقل المعنى وتتَّضح الصُّورةُ!! لكنَّ اللُّغة مصابةٌ بوعكةِ ذُهولٍ, فهل تدري من أيِّ ناحيةٍ تخرج العولمةُ في صورة امرأةٍ جافَّة؟..
هذا هو حرفُ العلِّةِ يمتهنُ النَّظريةَ الصحراويَّةَ لأقوام الرَّماد/ هذا هو بشحمه ولحمه يؤبجد -في حساب التوكيد الذاتي- منتهى رياضيات الفكر, ويضع خطَّاً تحت مفردةِ “العبقريَّةِ” ودائرةً على مُفردةِ “السِّياسةِ” وعدِّةَ نِقاطٍ بعد مُفردةِ “البلادِ…..” كأنَّه يُريدُ أنْ يقول: هذه جملةٌ ناقصةٌ كتشويةٍ خُلُقيٍّ أو كرغيفٍ تطوفُ حوله أُمَّةٌ من الجُوع..
(٤)
ما دمت فاغراً فاك كامرأةٍ في الخلاء التقت بشابٍ أشقر من أثر الاشتعال؛ اُغْرُبْ عن وجهي أيها الذهول, فالملايين المملينة من القصائد لم تعد تؤدي غرض العاطفة وأنت خارجٌ عن الوعي, وليس ثمة موسيقى تستدرج الروح, لكأن القلوب بلغت الحناجر, والحناجر لم يبلغ سنِّ الريح بعد!!..
أيتها اللغة: متى ستجيدين النطق لكي يتأهل نهداك إلى مخارج الحروف؟ فشفاه الكناية لم تعد ترغب في احتساء اللون الأحمر, ما دامت أباريق النحاس والفضة من المفردات المستهلكة…
أدري أن للجنون قراءات أخرى, وترجمةٌ –على الشمعة- أقربُ منها إليها: ليالٍ بكماء، وأوضحُ من خطِّ نسخها: نبرةُ صوتٍ تتعثر به المرايا من أول السطر, لكنْ ها أنذا في الصفحة التاسعة والعشرين من الرِّحلة, ولم أحظ بعدُ, بأنثى الغابة, فمن يدري أن ثلاثين أغنية غَرُبَت في عينٍ حمأةٍ وابيضَّت عينا الراعي من البُعد, والذئب يعتصر نايه على التلة؟؟ ومن يدري أنني أحنُّ إلى زيارة قبر صالح، وقراءة أوراد الناقة على أسوار قريتي؟؟ ومن يدري أنني كلما اشتقت إلى نخلةٍ في المدينة، يُخيَّلُ إليَّ أنَّ حَمَام مكة مخلوقةٌ من المدائح المحمدية؟…
لكلِّ ذلك تأويلات أُجيدُ قراءتها بهدوء, لكنَّ الصفحة المزعجة للرؤيا: كلما أقرأ رقية المسِّ أحلُمُ بأنني أعاشر امرأةً من الجنِّ؟؟..
(٥)
كما لو أن ذاكرتي امتلأت بمعادلات الجنِّ ولم يعد من مقارنة بين الذاتية البشرية والمعالم الروحانية فلا أتذكَّر تلك الرؤيا المسكونة بعولمة إبليس, إلاَّ لكي أرى سليمانك ابن داؤودي يتنفس من رئتي..
هذه ليست مجازفة بمخيلة السيمياء ولا بداية تجربةٍ لاستحضار الأرواح في معمل الغيب..
إنها حصَّةُ رياضياتِ الأزمنةِ المُقرَّرة على هذه اللحظة, تلقي مادتها الملائكةُ على الثقلين, ليستوعبها كلُّ ذي حظٍّ عظيم, وأنا لست مُعلِّماً لدروس القُوى الخفيَّة إذا كان طُلابي قارئو الكتب السماوية يحتفظون في حقائبهم بأناجيلهم بعد إن حَمَلَتْهُم السَّبعُ المثاني وكَشَفَتْ عن حجاب السَّماواتِ السَّبعِ, وليس لديَّ الرَّغبة في النظر إلى أحفاد سلالتي وهم يُقَشِّرون الفلسفةَ في كنائس الأرقام العبرية ويحلمون بمعاشرةِ اللغة العنكبوتية في فلوات الشياطين, ولا داعٍ لكتابةِ جملة مفيدة على ورقٍ مستوردٍ من الصِّين أو على جلد غزال, ما دامت أعداد لا تحصى من كتب الدنيا والآخرة ملقاة في زاويةٍ من زوايا هذا المعنى..
(6)
العدمُ مخلوقٌ يتيم, والحزنُ فرعون القلوب..
تدري فاكهة البكاء أنني أبجدية لمجرةٍ من لغة الملائكة, وأدري أننا جميعاً نتكئ على حجرٍ يتصدع من خشية الشعر, وأننا -من سوء الحظ- خُلقنا في زاويةٍ من زوايا العنكبوت, وها نحن الآن مشتبكون مع الشبكة, وهذه هي بيوتنا, وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت…
صفحاتنا في النت, وصفحته في الغار, وليس ثمة علاقة بين العنكبوت هنا والعنكبوت هناك..
هو صفحةٌ كونيةٌ, ونحن صفحائح مُؤقتة على هذه الأرض, فما جدوى أن نفكر أو نقرأ أو نكتب ما دامت الأرواح بفطرتها جديرةٌ بالحقيقة؟…
كل شيء مليءٌ بالفراغ, والكونُ كتلةُ هواءٍ بارد، والغيب -بالنسبة لنا- صباحاتٌ مُعتمة, واللوح المحفوظ هناك/هناك ملقىً في أقاصي الأمية..
قيل: كيف الصباح يطوي مساءه؟/قلت: فهم السؤال نصف الإجابة
فالذي كان لا يُجيد القراءة/ وحده.. وحده يجيد الكتابة..
(7)
في الربع الخالي يهيئ نفسه لتركيب سفينة من نوعٍ آخر/ سفينةٍ من آثار أقدام العصور الحجرية, أراه يجمع أشجار الأمم على ظهره, ويلقي بها في عراء التاريخ, وأنا على بُعْدِ مجرَّتين من شواهد قبورِ الديناصورات, مشغولٌ بصيد غزالة الرحمة في أقصى غابات القيامة.. يا لهول الذاكرة حين تقترب مسافات النجوى من بعضها وتعود بي إلى صباحاتٍ دنيوية كانت تمتلئ بمقاماتي الصوفية!! ويا لتراجيديا روحي حين تأخذ بأهداب المخيلة إلى مشيئة النور؛ لتؤاخي بينها وبين الموكلين بالغيب!!.. يا لتجليات الملائكة وخواطر الربانيين التي تخطر في بالي متى شاءت!! لكأنها المعرفة المخلوقة من صلب اللوح وترائب الكلمة قد اتَّخذتْ من رأسي مكاناً شرقيّاً, لكنني لست شيخ العارفين لكي أحظى بهذا الملكوت من الكرامات!!
كلُّ ما أعرفه: أن دفتر الرسم الخاص بطفولتي كان يحمل صورة دانيال وبوذا وآصف بن برخيا والإمام على بن أبي طالب, ولا أدري لماذا هؤلاء الأربعة بالتحديد, لا ادري أيضا كيف كنت ارسم ملامح لصور لم ارها من قبل!! هل هذا يكفي لتتضح الماهية ؟ أم أني متهم بالجنون في قرية الله لاعتقادي أن المضاف إليه من الأسماء الحسنى ؟.
من هنا أستقرئ ذاتي وحجرٌ في المغيب يتصدع, وكما أتحسس صوتي في هذا الملكوت, أدرك أن لرائحة المصاحف القديمة سيمفونات نفسية, ولي نفسية لا تألف إلاَ تلك الرائحة, ربما لأنني من قديم الديانات –وهمزة الوصل غامضة- مشغولٌ بالوصول, مشغولٌ ببروفات الصلاة على الحبيب, حيث من بروفة إلى بروفة ووجه الله يتضح في أكثر من قراءة..
للقراءات وجوهٌ كما للبوصلة خرائطُ مرئية, وللذهول أسئلةٌ كما للقيامة علامات, وأنت وحظك في الصفحة الكبيرة –مع أنه ليس هناك ما يسمَّى بضربة حظ- إما أن تكون حرفاً ساكناً أو تكون حرفاً متحركاً, وإن لم تكن من علامات الترقيم فالأجدر بك أن تكون من علامات الساعة، أمَّا أنك لن تكون لا شطراً ولا عجزاً, فما الفائدة في أن تصير كفقير اليهود, لا دنيا ولا آخرة!!.
(8)
إلهي: الموسيقى تعبث باللغة -في غرفة الصدى- والدلالات تراود النجوى عن لونها, والصمتُ وحده مُبرَّأٌ من الانزياحات, هنا عرف المعنى نفسه, وترك الأسئلة عارية في الزحام, متجهاً إلى شواهق الروح القريبة منك.
إلهي: حين يخرج المعنى عن دائرة الكرة الأرضية, ويقفز من كوكبٍ إلى كوكب, ومن نجمٍ إلى نجم, ومن مجرَّةٍ إلى مجرَّة -كلُّ هذا ليكون قريباً من النَّور- هل لك إلاَّ أن تفتح له أبواب السماء؟.
إلهي: من شهيقٍ إلى زفير, والمعنى يتَّجه إليك أكثر.. ولعدم ثقتهِ بأنفاسه البيضاء؛ لم يأخذها معه, فلا تسأله عن أنفاسهِ المُعتمة ما أنَّهُ الآن يتنفَّس من رئةِ حِلْمِكْ..
(9)
كعادتِهِ.. بأنامل نجواه يمسح من حاجبيه رشحَ الذُّهول, وكعادتِهم: يأكلون نهارات سكينته, بأفواه لياليهم المشروغة بالعواء والصقيع.
كعادتِهِ: يحملُ على كتفيه حقائبه, ويمرُّ وهو يوزِّعُ أوراقَه بينهم, وكعادتهم: أُمِّيون, لا يُدركون أنَّ الابتسامةَ أكاديميَّةُ العارفين.
كعادته: يَمُدُّهم بجنودٍ من الطمأنينة, وكعادتهم: مشغولون بارتعاشات أجفانهم القلقة التي استحوذت على بصائرهم؛ يستمدُّون ضجيج أدخنتهم من توهُّج صمتِهِ الأرقّ وضوحاً والأنقى ضميراً.
كعادته: يُحاصرُ أمسياتِهِ بالبكاء, وينتصرُ على أسماء الدّيانات بكنيةِ توحُّدِهِ المستمدّ يقينَهُ من سورة الإخلاص, وكعادتهم: يتقاسمون شواردَ مدامعِهِ, شاهرين كنائسهم في وجه مآذنِهِ القائمة بالقسط.
كعادته: يُرتِّبُ نُجُومَهُ ومجراته وسماوته عامراً بالأُفق, وكعادتهم: يسترقون السَّمع خارجين عن الوعي.
كعادته: ينثرُ محبَّاته على مواجيد الكائنات, وكعادتهم: يحصون مكائدهم ويكتنزون خرائطَ اغتيالاتهم.
كعادته: يحتفي بمصابيحه التي امتلأت ببهاء روحانيَّاتهِ, وكعادتهم: يُلقون حبالهم وعصيَّهم؛ ليُخيَّل لهم أنهم يُحسنون صُنعا.
كعادته: يأتمُّ بالملائكة, وكعادتهم: تُصفِّدهم الشياطينُ في ظلماتٍ بعضها فوق بعض.
كعادته: يستغفرُ لهم خطاياهم, ويقول: ربّ اهد قومي إنهم لا يعلمون, وكعادتهم: يتهامسون في دار النَّدوة, مُتَّشحين بضلالهم القديم..
(10)
إنَّما هي دلالاتُ الماء, تلبسُ البقيعَ, وتتركُ اللُّغاتِ مرقَّعةً بالكنايات, وبرودة النَّجوى تدلَّ على أفقٍ تتدلَّى منه الكهوفُ عناقيدَ بكاءٍ خريفيّ..
إنَّما هي أشجارٌ من الأسئلة, وصباحاتٌ مسكونةٌ بأكثر من بئرٍ تتصدع بالذُّهول خشيةً من ظمأ الرُّعاةِ الشاعرين بمواقيت همزة الوصل بين العشب والغيم؛ وإنما هي خشيةٌ من الرعاةَ الذين عرفوا جيداً كيف يكون التعاملُ مع أوراق الشجر في معامل الـــــ…../ التي نسميها نحن؛ فهم لا يهتمون بالتسميات أكثر من اهتماهم بتصفح علم النبات من عيون قطيعهم..
إنَّما هي جيولوجيا البداوة المبكرة, تُعلِّمُنا كيف نألف الحياة والمعرفة –بالسليقة- وكيف نعيش سعداء بأُمِّيتنا التي تُربِّي العصافيرَ لشيءٍ ما في نفس القرية البعيدة عن الأرض, تلك القرية التي قرأتْ الوجودَ في صفحةٍ واحدة/ من سطرٍ واحد/ بكلمة واحدة/ من أول حرف..
إنَّما هي حكمةٌ, كان يدوسها الحكماءُ بأقدامهم, حين كانوا لا يُدعَون إلى السجود ليستطيعوا… وإنَّما هي نظريَّةٌ, كان الفلاسفةُ والعلماءُ يُكمِّمُون أعيُنَها بالرَّماد, كلما أحسُّوا أنَّها تسترق النَّظر إلى عوراتهم الفكريَّة..
(11)
قد يمنحها -الرؤية- لبني البشر, وقد يمنحها للملائكة, وقد يمنحها للشياطين, إنها مشيئته, ومشيئةُ دلالاتهِ الملقاة على عاتق رؤاه, يصيبُ بها من يشاء, ويصرفها عمّن يشاء.. فلا تكن واحداً ممن صرفها عن ملامساتهم العشوائية, وما عليك إلاَّ أن تُحدِّق كثيراً في عينيها فقد تقرأ ما يدلُّك على همزة وصلهِ الَّتي ستُنجيك من الهلاك الانزياحيّ…
وحده البعيد والقريب, وحده الفاصلة العادية والفاصلة المنقوطة, وحده علاماتُ ترقيم الأزمنة, وحده الكون الفاصل بين الحقيقة والوهم, بين الماء والصحراء, بين الروح والجسد..
قد يكون نصف إلهٍ في فصل الشتاء وإلهً في بقية الفصول الأخرى, وإلاَّ كيف للماهية أن تنفرَّد إلاَّ به فلا يكون بعيداً عن البعد إلاَّ ليكون قريباً من القرب؟؟..
إنها لكبيرةٌ/ كبيرةٌ إلاَّ على الشاعرين؛ فما أكبر هذا الكلام وما أصغره في عين الفوضى والسكينة!! وما أخفه في كفة ميزان الغائب الجدير بالإدراك..
هكذا تُرى المسافات المترامية في أفق الشاعر الحقيقي الذي يدرك ماهيته دون أن يلتفت للخلف كالهارب من الخوف, ودون أن يحدَّق في الماء مُتلبِّساً بالظمأ..
قد تكون هذه الإشارات بيضاء في عينيك؛ لكنها البصيرة التي لا حول لدائرتك المجزأة ولا قُوى لتفاعلاتك المنهكة من أثر الانزياحات الروحية؛ التي قد تكون مواجيدُك من مواليدها؛ فلا تكن هارباً من خوفك, وأنت تسأل نفسك: أي خوفٍ يقصد هذا الجدير بالألفة والمعرفة والذهول؟؟..
لك الآن, أن تهمس في أذنك: ما أعظمك! ما اعظمني! وما احقرنا جميعاً حين نصدِّق أنفسنا ونُكذِّبُ الآخرين, وحين نتذكر أنفسنا في الغياب, وننسى القريبين من الذاكرة..
(١2)
تتراكلُ في محيط التَّعجبُّات أيها الكلام الفاخر..
ماذا تريد من مجاورة الأسرار في مؤمل الحقيقة؟..
أيها الليل: إنني أتساقط من أعالي الكلام وأنت تكتب مشقاتي للريح العاصفة في روحي..
كيف أستطيع ملامسة الغيمة البعيدة حتى عن عينيّ؟..
من هنا, وأنا أطارد شاردتي والزر الإلكتروني يعمل باتجاهي وأنا شاردٌ في فضاءات الرغبة اللامتناهية؛ ما الذي سأكتبه في هذه الصفحة البيضاء من غير سوء؟؟..
أريد أن أقرأ من صفحة الغيب شيئاً غير استثنائيٍّ, فربما تتضح الرؤية لدى ملائكة الرحمة ويكون في ذلك خير..
آه -يا أمي- كم أنا مشتبكٌ بالغربة في متاهة صحراوية الروح, لكأنَّ الجهات عاطلة إلاَّ عن شواردي, وأنا على ظهر هذا الجبل كعصفور على ظهر فرس النهر…
الخوف لا أدري ما معناه, والليل أشبه بمعنىً لمرثيةٍ متأخرة…
أريد أن أتخلص من كلِّ شيء يخصني. كثيراً أفكر بالانتحار…
الانتحار مشروع مؤجل واللحظة لا أستطيع الامساك بها, إنها ملساء والماء جافٌّ الى حد الانصهار!!..
ليس ما أكتبه الآن اتهاماً موجهاً لأخطائي التي مررت عليها, كالذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٍ..
إنه مجرد بكاءٍ غامضٍ!!..
لا أستطيع ترجمة هذه العذابات, ولا أستطيع أيضاً أن أقتني لفزعي إغفاءة صغيرة..
كيف لي أن أحلم –في يقظتي- بأنني أستطيع أن أضع رأسي في يدي وأنام..؟
(13)
كيف لي أن أشعر بالكهرباء الروحية/ الكهرباء التي سكنت الجسد دون سابق انذار؟..
هل لي أن أشارك اشتباكات النفس المشتعلة بشياطين المحيطات؟
كيف يا زينب اللغة؟ ألم أتوحد معكِ يا بنت الكلام؟!..
لا تختلفي مع غريزة كتاباتي المنهكة من أثر الحرب, أنا كتاب الشرارات واللهب, ومعي ذاكرة البروق ملأى بجهات القبائل, وإن يكن لديَّ قناة أبثُّها لواجهة العشيرة..
القريبات من أسرَّتي هنَّ خلائف أزواجهنَّ الخارجات عن المخيلة/ مخيلة رشح الفصول الأربعة.. والبعيدات على سرر موضونةٍ, هنا في غرفتي الصغيرة..
هكذا أقشّر الزمن وأقول لدمعة المواعيد: الأيام لله ولي ما فيهنَّ من عواطف بشرية وحيوانية وكل ما يشعر بالحكمة والجنون, غير أني لم أحظ بعد بنهدٍ في الأربعينات من مراهقة اللحظة..
أين ملكة الأسئلة المتراكمة في هدأتي؟.
أين الضمائر المستحدثة لرؤاي التي لم تُسء ظنها بما يخطر في بال الميتافيزيقا؟.
تلك المعادلات الفكرية تقاسمت أرقامي العشرية وأنا رهن النقطة الكبيرة أقصّ على الفراغات نبأ التكوين..
(14)
الموسيقي أمُّ العاطفة وأنا أبوك يا ابن الكلام…
كثيراً ما أزور المقابر وأنام في أحضانها, وكثيراً ما أُفكِّر بنهدٍ يحتضر, وبامرأةٍ مليئةٍ بالحياة اليتيمة..
اليتمُ: مصحفٌ مهجورٌ في خزانةِ عابدٍ مالَ في نهايةِ حياتهِ إلى كتابةِ الشعر..
كانوا يسألونه عن معنى “لا أقسم بهذا البلد”, وكان يقول –بكلِّ عشوائية-: كلما ضاقت الرؤية في النص – لدى الشاعر المسكين- اتَّخذ الوطنَ حجةً له وعليه, وكما يكتمل الشاعرُ بقراءة الإنسان, تكتمل القصيدة بكتابة الإنسانية..
(15)
الكلاميَّةُ لم تعد متكئةً إلاَّ على نصل البُّكاء… البكاءُ وحدهُ الجسدُ الحيُّ في هذا المُتَّسعِ من الحركات/ في هذا الفائض من الفوضى..
كلُّ ما هو مشغولٌ بالكلمة مشغولٌ بالأكمة..
متى ستكون لنا القدرة على التفاؤل؟, والكتابة بحبر يتنفس العطر؟..
متى ستكون (متى) قادرةً على التَّوقيت؟, ويكون الوقتُ جديراً بلقائنا بلا مواعيد؟!..
الهامش الإنساني واضحٌ جداً, والــــ(جدَّاً) بعيدةٌ عن ذلكــــ الإنسان!!.
(١6)
ما يلزمنا قراءته جيداً, والتحديق فيه من أعالي المعنى, هو احتراق الزوزنات القائمة على تكتكات الضحك وانزياحات الذات, وليس مهماً التكامل مع نواقص المعادلات الإنسانية الــ غير متفاعلة.. فليكن أن التوكيد قراءة معنوية واستراتيجية لما تبقى من الفكرة المتهالكة كقميص بني عبس, وكقبعة كافور الاخشيدي…
ما علينا من جمعيات اللغة ومجمعات الصمت وتراكمات الموسيقى المتزاحمة كبنات آوى؟..
ليس من حقنا إلاَّ الوقوف على حافة البئر, وقراءة ما يحول في نفوس الرعاة .
(17)
لماذا كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ما دامت ممنوعةمن الصرف؟ ..
الفرق شاسع بين السؤال والقرين ولكن هذا السؤال قد يكون قرينك, وإلا كيف له أن يظل معك من السادس الابتدائي حتى الثانوية والجامعة ويأبى إلا أن يرافقك في كل دروس الفلسفة؟؟..
قد يكون هذا السؤال قرينك, وقد يكون القرين واضحاً ولكن هناك ما هو أبعد من ذي القرنين.. (وقال سؤاله..وقال قرينه): لماذا كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل؟؟..
هناك علاقة تربطك بذلك ويلزمك قراءتها جيداً..
هل تذكر -حين كنت طفلاً- أنك كنت مهووساً بجمع الأحجار الصغيرة ذات الأحجام المختلفة وتحتفظ بها في حقيبتك المدرسية؟..
لقد كانت تلك الأحجار بالنسبة لك أهم من كتب المنهج التعليمي..
كان أصدقاؤك في الصف يسألونك: ماذا تريد بهذه الأحجار ؟ وكنت تقول لهم: إنها من آثار مملكة النبي سليمان, ثم تقول لهم و-أنت تقلّب تلك الأحجار بين يديك- انظروا: هذا الحجر يحمل شكل طائر كأنه الهدهد, وهذا الحجر واضحٌ جداً يحمل صورة رجل في يده عصا, وهذا الحجر على شكل عرش ملكي كأنه صورة مصغرة لعرش بلقيس, وهذا الحجر …الخ ..
كانوا يسخرون منك؛ فتأخذ حقيبتك وأحجارك وتسير إلى بعيد/ إلى بعيد حيث تكمن علاماتك…
منذ طفولتك وأنت غريبٌ يا محمد.. في المرعى كنت وكانت الفصول الأربعة..
لم تكن طبيب أعشاب, ولكنك كنت مورقاً بالسليقة…
كان السؤال يستوعب قراءاتك لأوراق الشجر: هذه الشجرة لماذا يوجد على كل ورقة من أوراقها سبعة خطوط؟ وهذه الشجرة لماذا أوراقها كآذان الفِيَلَة؟ وهذه الشجرة لماذا أوراقها كعيون المها؟ وهذه الشجرة لماذا أوراقها كأجنحة الفراش؟ وفجأةً تأتي فراشة وتحطُّ على ذات الشجرة التي تتأملها!! يا للدهشة!.. هنا تتوقف عن وضع علامات استفهامك, ثم ترفع بصرك باتجاه الأفق, وتضع علامة استفهام كبيرة: ماذا تعني هذه الرسائل العلاماتية يا إلهي؟.
(18)
تعالي يا تراجيديا النبيّ الأميّ, هذه أسمائي تناديك من حنجرةِ الكلمةِ التي كانت هي البدء في قاموس الخليقةِ؛ فلم يعد من يصغي لآلهةِ الكلام سوى سيمفونيات الماء المسكونةِ بظمأي الحجريّ/ ظمأي المُدرك لماهيات المطرِ الذي لم يكن أصمَّاً ولا أبكماً حيث منافذ الحواس المتراكمة تتفاعل مع الروح المائيّةِ لــ «أبجد» الطلّ والنّدى, ولــ «هوِّز» الفجر, ولــ «حُطِّي» الحمام الذي يطير حول المصباح..
تعالي يا ألفيّات المواجيد المُنقّحةِ كما جاء في كتاب جبريل ابن حرفِ جرِّ السماء,
لا تكوني شاحبةً كأفئدةِ الخطايا, ولا تتّخذي نفسيّةَ النّار استراتيجيّةً عاطلةً عن تكنولوجيا الأولياء المحسوبين على دعواتِ الأنبياء السِّريّين الذين لم يُجاهروا بكراماتهم المستمدّةِ من جناتِ عدنٍ, والمأهولةِ لنجوى الدعوات المُستجابةِ في محراب القرن الحادي والعشرين, العمياءُ جبهتُهُ من بصيرةِ القِبلة..
تعالي يا دفاترَ النّهارات المُسطّرةِ بسجدَتَيّ الضُّحى المتمسك بآخر أنفاس حبال المشيئةِ؛ فلعلّ قراءاتٍ -على متن الضَّمةِ الظاهرةِ على مُنتهى حروفِ الوقتِ- بانتظارِ مواعيد التَّأويل/ تأويلِ التَّجلي هذا المُجاهر بمعرفةِ الصوتِ واللونِ, والعارف بتجويد الرُّؤيا المُسوَّمةِ كخيولِ الصَّحابة..
تعالي أيتها الانتصارات يا بنات صبر الفقراء/ الأغنياء ببكاء صلاة الليل, مُستبشرةً ومُبشِّرةً بحقيقةِ الطَّاقةِ النّورانية همزةَ وصلٍ بين الكائن الناطق والكائن المنطوق..
تعالي أيتها اللحظة القريبةُ البعيدةُ, أيها الدَّهر الأول والآخر, أيها الغيب الماكث في غياهب محفوظات اللوح, أيها المُطلق, أيها البدء, أيتها اللانهاية, أيها العدم, أيها الأزل.. تعالي يا أبعاد «وزلزلت الأرض زلزالها» ويا مواعيد «عمّ يتساءلون».. تعال يا «يومئذٍ».. تعالوا جميعاً وأشتاتاً؛ لأُشهدكم أنّ هذا الوطن -منذ عرفته- يخاصم الإنسانيةَ, وأنَّ الإنسانيّةَ في هذه البلاد يتيمةٌ جدَّاً, وأنَّ لا شيء يستحقُّ الشهادةَ إلى الأبد سوى أبدية التشهد..
(19)
حيث السقف يهطل على أوراقي كالطل، والمواجيد مُكثَّفة بعبوات الجنون.. ثمة لافتة للكربة ألمحها؛ فيتحول لون ذاكرتي إلى المشهد الرملي, هل تلك الأشجار الدُّخانية هي لحى القديسين الذين تركوا وجوههم في أذهان الحكايا؟..
أنا لم أزر -بعد- »ديترويت« لكني أشعر أني عشت فيها ثلاثة عشر ألف مساء, وأني كنت -في كل مائة حلم- أزور صديقتي التي تسكن »لوس أنجلوس«.. لماذا استحوذ على قلبي هذا الشعور ؟ هل لأن العهد الجديد كان بين يديّ قبل قليل؟..
القمر قصيدة تفعيلة, والصقيع قافية الجوع.. ثمة اختلاف أن القمر نافذة والصعود إلى إليه ليس إلاَّ التسلق إلى النافذة..
قلت: أريد أن نقشر البرد من أجسادنا كما نقشر حبات الموز ونسيت أن الصقيع زجاج يحتاج إلى أحجار من اللهب وكأنما يلزمنا أن نقيم عليه حد المحصن..
من فهقة المساء الحجري, يتحول الصمت من حلم يتبخَّر, إلى ريحٍ تعلِّق بين أسنانها كبائن الغبار, وتجرّ الشرود من حواجبه إلى صالة الأرق الناري الْمُجبر على تجوال شرارته في شوارع الكبريت..
كن حذراً أيها الليل إلاَّ من الشعر والبكاء فالصراصير -التي تسكن معي- لا تكتفي بتصفح أوراقي, وارتشاف احتراقاتي, إنما تتمادى إلى هسهسة أصابع قدميَّ, لا أدري إن كان ذلك احتفاءاً منها بمهرجان البصاق..
إن لم يكن هذا الصقيع هو دخان الكوابيس, فالجهات هي تلك الريح المفخخة بالخناجر, وكما يُخيّل إليَّ أنني شجرة في أعالي الجليد؛ ليس ثمة ما يدل على تشابهنا سوى الانصهار..
حين أرفع يديَّ عالياً؛ لأخبئ قلبي, يلمحني الليل؛ فيحجب أشباحه عنك كأنه لا يعرف سواي..
رفيفُ أهدابي يجعل -بين شواردي- تقاطيع ارتباكٍ لا يرغب بها سقفُ الذهول ولا حتى عدسات المصور..
لا أطيق هذه الحواس.. كلُّ ما أشعر به مزعجٌ للغاية.. تقلقني نبضات قلبي, ليتها تقف لبعض الوقت؛ لكي أكتب جزءاً من مذكرةٍ مطمئنة..
أغلقوا التلفاز, اخفتوا أصواتكم إلى حد الصمت, لا تحركوا ساكنا «لا أريد أن أسمع شيئا» ولا أريد أن أرى شيئا.. كلُّ ما أريد فعله: أن أجعل بيني وبينكم سدّا كما فعل ذو القرنين.. دعوني غريباً كالأسطورة, ووحيداً كالقبر, ولا تنسوا أن ضجيجكم يحرِّضني على الانتحار..
ما لا أريد أن أشعر به هو قلبي الهوائي, فيقيني أن الموت سيكون عادياً -بالنسبة لي-؛ لأني مشيت كثيراً وأنا بلا حذاء؛ وذلك ما جعل بيني وبين التراب مودة حميمة..
إنها السادسة والعشرون من ساعة الاحتضار, إنها القفزة الأخيرة إلى الجحيم.. يلزمني -قبل خوض المغامرة- أن ألقي التحية على حضرة العذاب كالشرطي, أو أنحني كما ينحني الخادم أمام سيّده.. سيدي: السقف جديرٌ بربطة العنق, كلُّ شيء سيكون على ما يرام, عدا لساني سيكون خارج وجهي..
ليس تناقضاً ما سترونه مأساوياً؛ أن تكون »زفة أيوب« تملأ المكان.. ذلك لا يخصكم.. آمل أن لا تكونوا فضوليين وتقوموا بمصادرة المقطع الأخير من «الزَّفة»..
قبل أن تمدوا أيديكم إلى عنقي؛ – لفك ربطة الخلاص- يلزمكم المبادرة بأخذ القصاصات التي تملأ جيوبي, ليس مهماً أن تقرؤوها, الأهم: ضعوها في فمي وأغلقوه كالصندوق.. الصندوق لن يتسع لجميعها, استعينوا بفم صديقي, ضعوا فيه ما تبقى منها؛ علّه يفيق من غيبوبته.
(19)
هُناكَ ما هو أبعد..
لا الطريقةُ ماثلةٌ بكَ ولا الدَّربُ مْتّكئٌ على عصاك.. لا النّهارُ سيتخلّى عن وجههِ ولا الرّيحُ ستُغيّر نبرةَ صوتها لتختصر مسافةَ الموسيقى من العتمةِ إلى نايٍ يعرف كيف يُمطرُ،بعيداً عن الوحشة، ويعرف كيف يُطلّ على حيوانات الغابةِ بكلّ عفويّةٍ كشجرةٍ تضحك..
هُناك ما هو أبعد..
مواقيت أرغفةٍ لا تليقُ بانتظار زُهّاد ٍ ابتاعوا الجوعَ من غرفاتِ البكاء فربحوا سقوفَ الحكمةِ عارفين أن الدمعةَ ثروةُالفقير إلى الله .. وها أنت مُكتظ الخطى بالغياب متحجّج الفكرةِ بطلبِ العلم والمعرفة لا تدري أن العبقريَّ هو الذي لا يفهمُ شيئاً ربما لأنه مشغولٌ بعوالم متراكمة كاللامبالاة..
هُناك ما هو أبعد..
تُزكّي الأسئلةَ على أنها من صفات المُفكّرين وتنسى أ نّ الفكرةَ مجنونةٌ بالسليقةِ، فهل حين تكُحُّ المفردةُ تستطيعُ أن تقول للصفحة البيضاء أن اللغة الجريئة هي التي تُكتبُ من أوّل السطرِ وأن الكلامَ الكبيرَ هو الذي يخطرُ على بالِ المئذنة؟؟..
هُناك ما هو أبعد..
ما تُردّدُهُ شيخوخة العولمةعلى مسامعِ الذُّهُول هو ما قالتهُ طُفولةُ الوعي البشريِّ -في بدء الرّحلة- حين حطّتْ قدمها الأولى على قبضةِ الدّائرةِ دون أن ترفعَ طرفها إلى حيث الخريطة مأهولةٌ بخطوط العرض والطول، فهل كل راحلةٍ ستحتفي بنقطة الوصولِ إن لم تكن بوصلةُ الذّاتِ كلّ متاعها؟..
هُناك ما هو أبعد..
أستطيعُ أن أُشير لك إلى هُناك، لكني أخشى عليك من التّماهي الذي سيُثقلُكَ بالحقيقةِ، كذلك أستطيعُ أن أُلقي عليك بما سيجعلك واضحاً في عينك، لكني أيضاً أخشى على سكينتك من عبثيّةِ اللّونِ؛ فَلِكَيْ تستطيعُ أن تصل إلى بعيد، يلزمُكَ -وأَنتَ تَقْرَأُ مُحَمَّد المهدِّيْ- أن تُحدّقَ جَيِّدَاً فهُناكَ ما هو أبعد
(20)
سأقول لحمورابي: أنت متهمٌ بأغنية شعبية كنت ترددها تحت شجرة السدر القريبة من منزلك المسكون بالجن..
سأقول لأبرهة الحبشي: امنحني جارية من جواريك التي اشتريتهن من سوق الطلح وسأمنحك فيلاً وحشياً يجيد الرقص على الحبل مع أني لم أدربه على السيرك..
سأقول ليوحنا المعمدان: عندي أسئلة مغناطيسية فهل ستكون إجاباتك نحاسية أو فضية لتكون بعيدة عني؟..
سأقول لسفينة التيتانيك: هذه ألواحي مصنوعة من الزئبق فهل ستجيدين السباحة قبل أن يقول أحد القساوسة: هذا درس السماء إلى الأرض..
سأقول لسفينة نوح: عثرت عليك بالصدفة حين كانت خارطة الأنبياء في كفي وبوصلة الملائكة في عيني, لكنني تركتك هناك على ظهر جواد الغيب ولم أقل: لأحفادي هناك ضالتكم..
سأقول لناقة صالح: أنتِ محظوظة لأنك لم تفكري بالانتحار مثلي ربما لأنني جملٌ ضالٌ في الربع الخالي..
سأقول لثلاثية الليل والمطر: أين يقع مثلث برمودا في هذه اللحظة وأين سيقع عندما أفكر بالصعود وأنا أقرأ سورة الواقعة..
سأقول لخوفو وخفرع ومنقرع: الثلاثة الكوكباني في مطعم الشلال مقلوبون على رؤوسهم كأنابيب الغاز..
سأقول لأهل الكهف: كنت باسطاً ذراعيَّ في الوسيط حتى سقطت الشمس على رأسي فانتبهت ولم أجدكم في قلبي..
سأقول لسميح القاسم: إسرائيل قصيدة رائعة وأنت شاعر مروِّع..
سأقول لمحمود درويش: القدس في ذمتك حتى بعد رحيلك فلا تحملنا وزرها المقدَّس..
سأقول لمحمد الماغوط: حمرة عينيك شاهدة على بكائك المتستر كما لو أن جمجمتك مقبرة جماعية للدول العربية..
سأقول لباولو كويلو: علاقتي بك جيدة خصوصاً حين تقول لنفسك: تعبت من حمل أسئلتي على كتف ريح باردة..
سأقول لأوراقي المبعثرة: أراني فيك واضحاً وأرى فيَّ وطني الحقيقي..
سأقول لخليل حاوي: ثمة توأمة روحية, “أنت من السابقين وأنا من اللاحقين”..
سأقول لصاحب النون: كل شيء بالنسبة لي مالحٌ جداً فهل يعني هذا أنني الآن في بطن الحوت..
سأقول لنيكوس كازانتزاكيس: رحلتك إلى مصر لم تكتمل بعد..
سأقول لإيزابيل الليندي: منذ 2007م لم أنس في ابنة الحظ: “وصلت العربة المرسلة من قبل سومرز متأخرة نصف ساعة. كان السائق قد حمل ما يكفي من الكحول بين صدره وظهره.”..
سأقول لحنا مينه: أنا لست برهوم زكّور.. “أنا زكريا المرسلني لست راضيا عما حدث وأقسم على ذلك”..
سأقول لعبد الله البردوني: كلما ألقيتُ على الليل جنَّ الكلام, اختنقت الأقمار الصناعية, وأصيب النجم القطبي بسعال لغوي.. لم أقصد إيذاء مجرة التبانة بتكنولوجيا الصور الشعرية الخارجة عن الوعي ولكني كنت أعي كيف يختلف التشكيليون مع صوتي وصورتي, أعي وأعرف جيداً أن صوتي بعيد عنهم لأنهم ألصقوا آذانهم على الجدران والأبواب المغلقة ولهذا لم ولن يلتمسوا ماهية الصوت الذي لم يتلاءم مع الزوايا والسقوف الحجرية..
سأقول لعبد العزيز المقالح:
مَــنْ عــلَّـمَ الـشُّـعــراءَ أنْ يــتـلاعـنـوا؟
مَـنْ غـيـرهُ.. الـشَّـبـحُ الـفراغُ الخـائـنُ؟
شكراً.. يُسمُّونَ القصائدَ: قامـة الــــــ..
إطــلالــة الـــــ.. وكـلُّـهـنَّ “طـــبـائـنُ”
عفواً.. لـقـد سـقـط الـرِّهـانُ ولـم يـعدْ
صـــوتٌ حـَقِــيـقـيٌّ عــلــيــه أُراهـــنُ..
سأقول للمشهد: حتى متى والقراءات منهكة كسجناء مسَّهم اليأس؟..
سأقول للمؤرخ: ماذا فعلت؟ هل تستطيع إضافة ما لم يحدث بعدُ, أم أنك موكَّلٌ بغسيل وكواية ملابس الحراج المستوردة من براميل القمامة؟..
سأقول للفصول الأربعة: كيف تبني القصيدة عشها في ضل سياسة القمع وزمن المسرح المبرقع؟؟ هل الشاعر هو من ينتظر عطلة السبت أو إجازة ما, حتى يجد الوقت المناسب لقراءة رواية أو لكتابة سيرة ذاتية للفراغ..
سأقول لامرأةٍ أميَّةٍ: ثقي أن الكلام المباشر كالعاطفة القروية يهزم الشوارد الرقمية والسيمياء..
سأقول لحبيبتي راحيل بنت محمد: من قال لك أنني عشقت امرأة من الجان وأنها تأخذني متى شئت في نزهة إلى أثينا؟ كيف لك أن تصدِّقي مثل هذا الكلام؟ إنه مجرَّد حلمٍ عابرٍ حدَّثت به صديقتي في الفيس ولم أتوقع أنه سيصل إليك بإضافات أخرى..
(21)
من بداية المعنى إلى آخر الصوت.. ما الذي يجدر بنا أن نضيفه إلى هذه الهوَّةِ الثقافية؟ لا أعني الرؤيةَ التي لم يصل إليها أحد, ولا أستحثُّ إلى معرفة من هو بعيد عن الروح ومن هو قريبٌ من الجسد اللُّغوي!!.. الملامسة واضحة للذي عنده علم من العذاب, والعذاب وحده من يشعر بهمزة الوصل بين المعنى والمبنى.. كثيراً ما أقف كالرقيب أمام الأصواتِ المتشابكة داخل الوطن وخارجه, وقليلاً ما أجد الوطنَ يدرك السطر الأول أو الجملة الأولى مما يمرُّ ويمكثُ.. لا بأس من المرور على الغثِّ والسَّمين لا الإقامة بين الحشرجةِ والسيمفونيَّة, والنظر إلى الضحك والبكاء بنصفِ عينٍ, تارةً من باب المجاملة وتارةً من نافذةِ الدَّهشة… لعلَّ الكتابة مصابة بفيروس الانزياح ولعلَّ الانزياح أصاب الكثيرين بالمسِّ/ المسِّ الغير كهربائي, ولكن المعنى مازال متخذاً عضداً من اللغة وعضلاتٍ من التقديم والتأخير في أكثر من عنوان وأكثر من مقدمة وخاتمة, مع أنَّ المحموم من ذلك هو الجدير بالذكر والبكاء عليه.. ما معنى البكاء عليه؟ هل أنه جنازةٌ على أكتاف الموسيقى؟ أم أنه احتضار في زاوية مقبرة لم تصلْ إليها الفاتحة من يوم الفتح الأكبر؟ هل لها أن تصل بعدُ, وإن كانت عبر البريد الإلكتروني للعولمة؟!.. قد لا تكتمل الإجابة على سؤال الموت كما لا أرغب في حضور وليمة العزاء لاعتقادي أن العبارةَ ستكون متعبةً من كلام المنصرفين والعابرين إلى رزايا لا تشبه بعضها .. هل هناك في الصفحة ما يشبه ذلك؟ وهل المنشور اليتيم كالمنشور المُتَّصل بالورثة المتخاصمين على الدين؟ أم أن المنشور كفيلٌ -بجدارة الروح- بيوم النشور؟؟.. عليَّ أن أتفحص جيداً ملامح العابرين, وأحدق مذعوراً في وجوه (الغبرة القترة) لا؛ لأيقظ اللغة أو أستفَّز المعنى في مثل هذا المشهد العبثي, ولا لأرى جماجم الموتى تتقافز من قبرٍ إلى قبرٍ ككُرةِ السَّلَّةِ؛ فالإشارات عاطلةٌ عن الوضوح ومشغولةٌ بالفوضى العابثة بكلِّ تضاريس السَّكينةِ وأنا مذعورٌ من مدلولاتي..
المؤسف أن آثار أقدام الصداع بالمسافة الملساء تستدل على اللحظة العابرة.. ربما يستفزني البكاء أولاً وأخيراً على مشهد شتائيَّ الكلمة.. الكلمة التي لا تؤمن إلاَّ بالفصول ومواسم الزراعة.. لا أدري إن كان المؤلف مركوناً بالصحارى الفكرية ولا أثق أنه – المثقف- يقطن في التربة الصاخبة/ التربة التي لا تُجيد إلا هجاء الغيم ومخاصمة المشيئة!!.. فمن منا يشاء إلا أن يكون ربيعاً من الصدى, وخريفاً من الموسيقى وإن تكن متقطعة كأحلام اليقظة؟؟ ومن منا شاء أن يحلم بماهيِّةٍ مُمطرة دون أن يصعد سلالم الدعاء؟!.. لا أريد أن أجزم أن المحراب -كيفما كانت قبلته-هو السراط المستقيم؛ فجزئيةُ النَّصِّ المجزوم بالعثرات الانسانية -في اللافتة الغير متواصلة مع قاعدة اليقين الكتابي- لكأنها لا تبصر إلاَّ نصف وجه الماء في ساعة الظمأ… أيُّنا قال: تعبت من كلِّ شيء ولي أن أستفزَّ نفسيتي للرجوع إلى أول السَّطر وقراءة بعضي؟!.. أيُّنا كان جديراً برثاء صلاته الغير متصلة به؟.. أيُّنا استطاع التماهي في حضرة الجليد دون أن يستعين بنظريَّةِ الانصهار؟.. كل ذلك غير مُجازٍ لمشهدٍ مُراءٍ في عاطفته الكتابية التي عليها اتخاذ الروح والنفس ماهيَّةً لذاتها السماوية والأرضية.. مُراءٍ أمام البوصلة الروحية التي تؤدي الى حيث المكان المنتظر والتَّلةِ المُطلَّة والإطلالة الواضحة!! قد يكون أن الطرق لا تؤدي إلاَّ إلى غير الطريق, وقد تكون المسافات بين الانسان والشاعر شاسعة كما بين النعاس واليقظة وبعيدة كالطمأنينة, وقد لا تكون الأشعة ممتلئةً بقوانينها حتى تكون الصورة واضحة كما يجب.. تبدلتِ الأرواح، أم استُنسِختْ من جسد الغابة الى جسد المسرحية البشرية؟!.. إلى أين تسير المتاهة بكل ذلك؟ وهل المتاهة إلاَّ ضلال النفس الإنسانية المنهكة نتاجاً لخطايا ماثلة, ومثولاً لانتهاك الروح البريئة من التَّشرُّد؟..
من أين لي بمشهدٍ خالٍ من الثَّورات, وبثوراتٍ شهيدةٍ من أجل الوطن الإنسان, وبحلمٍ يتَّسع لكلِّ ذلك؟؟؟..
شعراءُ المدينة
مُستوحشون كقافيةِ الشِّين!
والقريةُ الشَّاعريَّةُ
مشغولةٌ بالتَّغزُّل بالكهرباء,
وبيتُ القصيد كعادته دون مأوى
ولا فرق بين البلاد وبين البلاستيك,
لا فرق بين اليتامى وبين الكلام المجفف..
حتى متى؟!
كُلُّهُ: شارعٌ لم يجد عابراً
كُلُّهُ: عابرٌ لم يجد شارعاً
كُلُّهُ: مشهد مستطير.
(22)