فضاءات

د.سالم الشكيلي يكتب: السياسة الأمريكية في عهد ترامب

د.سالم الشكيلي يكتب: السياسة الأمريكية في عهد ترامب
د.سالم الشكيلي يكتب: السياسة الأمريكية في عهد ترامب د.سالم الشكيلي يكتب: السياسة الأمريكية في عهد ترامب

أثير- د.سالم بن سلمان الشكيلي

لا يختلف اثنان ، على أنّ تغيّرًا قد حدث في السياسة الأمريكية ، في عهد الرئيس ترامب ، لكن التغيير الذي نراه ، ليس في المضمون بقدر ما هو في أسلوب وكيفية الممارسة السياسية؛ إذ مضمون السياسة الخارجية الأمريكية دستور ثابت متعارف عليه ، لكن كيفية التطبيق تخضع للواقع الداخلي والخارجي ، وما تمليه المصالح والممالأة السياسية .

فالتأكيد على أن السياسة الخارجية الأمريكية ، لها ثوابت ، لا تتبدل كثيرًا ، إلا بقدر تحول الأحداث الدولية، فالرئيس الأمريكي هو صانع السياسة الخارجية ، وعلى كل الإدارات الحكومية ، الالتزام وتنفيذ سياسة الرئيس ، وهذا ينطبق على وزارة الخارجية ، ووزارة الدفاع ، وإلا كان الوزيران عرضة للإقالة ، في حالة خروجهما على تلك السياسة .

وتدليلًا على هذا القول الأخير فقد حدث ، أن الرئيس الأمريكي روزفلت ، أصابه مرض منعه من ممارسة مهامه الرئاسية ، فاجتمع وزير المالية ، بزملائه من الوزراء فارضًا عليهم سياسة تختلف عن سياسة الرئيس ، وعندما شُفي روزفلت ، كان أول قرار وقّعه ، إقالة وزير المالية ، وهذه الإقالة تعني ، أنه في أمريكا لا صوت يعلو على صوت الرئيس بشأن اختصاصات وصلاحيات السلطة التنفيذية . وعلى ذلك ، فلا يذهبن أحد إلى حد بعيد في حرية الرئيس الأمريكي ، في صناعة وممارسة السياسة الخارجية ، لأنّ هذه الحرية ، مقيدة بعدة قيود ، أولها : سياسة الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس ، ثانيها : الأغلبية البرلمانية في الكونجرس الأمريكي ، وثالثها اللوبي الصهيوني المتغلغل في الاقتصاد الأمريكي ، هذا طبعًا بالإضافة إلى جماعات الضغط ، ودافعي الضرائب ، وأرباب المصالح والمهن الأخرى ، والاتفاقيات والمعاهدات البينية والدولية .

إن القدر الأكبر من هامش ومساحة الحرية للرئيس الأمريكي ، تكمن في السياسة الداخلية ، من حيث نوع ومستوى الخدمات والرعاية التي تقدمها الإدارة للمواطن الأمريكي وتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي تمّ انتخابه على أساسه ، ومع ذلك تبقى عناصر الضغط السالف بيانها موجودة ، وإن اختلفت مستويات حدتها وتأثيرها .

وبعد هذه المقدمة اللازمة ، نأتي لطرح السؤال التالي : هل تغيرت السياسة الخارجية لأمريكا في عهد ترامب ؟ . كثيرون يرون ذلك ، ولا أراها خرجت عن الثوابت الراسخة للسياسة الأمريكية من حيث المضمون ، لكن الذي حدث – وبدا للمحلّلين أنه تغيير – هو التحول في الممارسة والكيفية وسندلل على هذا القول بأفعال حية .
الرؤساء السابقون على ترامب كانوا يتعاطون مع السياسة الخارجية ، مثلًا فيما يتعلق بالشرق الأوسط ، بأقنعة مزيفة؛ حيث كانوا يتخذون من المداهنة مطيّة ، ويمارسون الاحتيال والخداع على الدول والحكومات ، لتمرير سياساتهم ، ويتّخذون من المماطلة أسلوبًا ، لإلهاء تلك الحكومات والشعوب عن المطالبة بحقوقهم المشروعة ، والإبقاء على الأوضاع كما هي عليه . يبتزون الدول ، وخاصة العربية منها بطريقة مختلفة عن ترامب ، بحجة مثلا توفير الحماية ، وثبات أنظمة الحكم في هذه الدول . أمريكا تأخذ ضحاياها إلى الدور العلوي العاشر ، ثم تتركهم هناك وتنزل عنهم بعد تعطيل المصعد عليهم ، إذا تغيرت مصلحة أمريكا أو انتهت ، إذ إنه لم يعد لأولئك الضحايا مصلحة تُرجى ، ولا حاجة تُقضى .
لنأخذ مثلًا أقرب رئيس أمريكي على ترامب وهو باراك أوباما ، لنتساءل : ماذا صنع للشرق الأوسط ؟
هل تتذكرون عند مجيئه كيف هلّل وصفق له الكثيرون ، على اعتبار أنه سيصنع السلام في منطقة الشرق الأوسط ، وعندما زار المذكور بعض العواصم العربية ، استُقبل استقبال الفاتحين ، فغصّت قاعة جامعة القاهرة من السياسيين والمفكرين ، والأدباء ، والإعلاميين ، لاستقبال صانع السلام ، وتصدعت جدران القاعة من قوة التصفيق وكثرته ، وتورمت أقدام الحاضرين ، من عدد مرات الوقوف للرئيس أوباما ، الذي استهلّ خطبته بالسلام ، تحية الإسلام ، ومستشهدًا بعدد من الآيات القرآنية المترجمة ، في سبيل أن يستوعب الحاضرون ، وهو يلقي خطابه ، شحون الوعود وجرعات التخدير .
وأصدقكم القول ، كنت مع غيري ، نتشكك في هذه الوعود ، فلم تكن المرة الأولى التي يسمع العالم مثلها من رئيس أمريكي . مرت الفترة الأولى من عهد أوباما ، وأُعيد انتخابه لفترة ثانية ، واشرأبّت الأعناق من جديد ، ولَم يأْت بجديد ، لتنتهي فترته الرئاسية الثانية ، كغيرها من فترات سابقية، دون أن يفعل شيئًا غير خطابات التنظير التي كان بارعًا فيها بامتياز ، لدرجة أنها وجدت أفواهًا فاغرة ، وعقولا فارغة ، وألسنةً غارفة ، تلعق ذلك السفه ، وتروّج له ، يدفعها الميول الفكري المنحرف ، والتعصب الحزبي والمذهبي ، والنكاية بأطراف تخالفها الرأي ، ليستنتج المواطن العربي أن الذي يظنه مفكرًا ومثقفًا هو بلا هوية ، وليس هناك مصلحة وطنية تشغل باله وفكره وثقافته ، ليتسربل هذا المواطن بسربال الإحباط ويألف الفشل والتبعية .



ولا يفوتني قبل ترك هذه النقطة ، القول : كم نحن العرب بسطاء لحدّ السّفَه الممقوت ، نصدق ما تقوله لنا أمريكا ، ونثق في وعودها المزعومة ، ونتناسى التاريخ في التعاطي مع هذه الدولة ، وغيرها من الدول الكبرى، التي تحمي وتضع إسرائيل في أولى قائمة أولوياتها من حيث وجودها وبقائها في المنطقة ، باعتبارها حامية مصالح الغرب ، وجعْلها خنجرًا في خاصرة العروبة والإسلام ، دون أدنى اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة .
ترامب لم يُحدث تغييرًا كثيرًا في السياسة الخارجية ، من حيث المضمون ، لكنه أحدَث تحولًا كبيرًا في الممارسة ، حيث أزال القناع الذي كان يلبسه من سبقه ، وأصبح يلعب على المكشوف ، وبوضوح تام ، وهذا ما لم يتعوده الكثيرون . هذه هي سياسة أمريكا الحقيقية الحالية ، إذا أردتم الصدق ، سياسة عارية من كل الأقنعة المزيفة ، ولا بد من التعود على هكذا أسلوب .
ويصف البعض ترامب بأنه ذو عقلية تجارية ، ويتصف بالغباء السياسي ، وأنه يستخدم التهويش والصوت العالي فقط ، والحقيقة أن الصفتين الأخيرتين غير صحيحتين ، أمّا الأولى فنعم ، ماذا يُضير أي رئيس أن يكون ذا خلفية تجارية ، إذا كان يسخرها في تنمية اقتصاد بلده ، بما يعود بالفائدة على مستوى معيشة المواطن ، وهذا ما فعله ويفعله ترامب من استيراد مليارات الدولارات من بعض الدول ، إما على صورة أتاوات ، أو استثمارات ، أو في صورة شراءٍ لأسلحة أمريكية، وقد رأينا تهافت بعض الدول العربية على شراء المزيد والمزيد من الأسلحة بمليارات الدولارات .
وفيما يتعلق بالسياسة ، فالرجل يمارسها على المكشوف ، وبالنسبة للتهويش والصوت العالي ، دون فعل ، فهذه محل نظر ، لنعود إلى الوراء قليلًا ، ماذا حدث في عهد ترامب ، بخلاف غيره من الرؤساء ، مع كوريا الشمالية ، ألم يخفت صوت رئيس هذه الدولة ، ألم يُقْدِم على لقاء ترامب ، ومن بعد ذلك الانصياع لتنفيذ عدد من الشروط الأمريكية ، فهل تُسمع الآن تلك الغطرسة التي كان عليها قبل ترامب! .



وفيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران ، فقد هدد ونفّذ ، بإلغاء الاتفاق ، وهدد بتوقيع عقوبات على طهران ، وقد فعل ، والله وحده العالم بالقادم .
راهن البعض ، ولا يزال ، منذ بداية عهد ترامب على عزله ، وكأن قضية العزل في أمريكا ، على غرار ما يحدث لدى العسكر في بعض الدول الأفريقية . إن عزل أي رئيس أمريكي يمرّ بإجرات طويلة ومعقدة ، يشترك فيها الكونجرس بغرفتيه النواب والشيوخ ، بحيث يكون هناك اتهام ، ثم تحقيق ، ثم محاكمة . ربما بعودة قليلة للوراء بشأن قضية كلينتون ومونيكا ، يتضح أكثر صعوبة ما يراهن عليه البعض ، فعلى رغم إدانة كلينتون لم يتمكن الكونجرس من عزله ، وبالرغم من كون الاتهامات الموجهة إلى ترامب تمس الأمن القومي ، فإن عملية عزله تستلزم إجراءات قانونية طويلة ، قد يصعب إثبات التهم عليه فيها .
وهذه المرة ، أكاد أجزم مراهنًا ، بانتخاب ترامب لفترة ثانية ، ليس حبًا في ترامب ، ولكن لأن الناخب الأمريكي مزاجي بطبعه ، وما يهمه الشأن الداخلي وخصوصًا الاقتصادي ، وهذا ما يعمل عليه ترامب حاليًا.
يبقى على العرب والمسلمين ، استعادة شريط ذكريات العلاقة مع أمريكا ، طوال السنين الماضية ، وسَيرون في النهاية ، أن السياسة الأمريكية ثابتة ، وعليهم أن يُسلّموا بهذا الواقع ، فيتحدوا مع بعضهم ، ويقربوا بين مصالحهم ، ويتخذوا القرارات المناسبة ، ويحفظوا ثروات بلدانهم لشعوبهم ، فأمريكا وروسيا ، وغيرهما من الدول الكبرى ، لا تريد لهم القوة ، ولن تسعدهم منعة العرب ، ذلك أن همّهم الأول ، زرع الشحناء والبغضاء بين العرب ، وإثارة الفتن في صفوفهم ، ونهب خيراتهم ، ومن ثم يبقون ضعفاء تبعًا لأمريكا وغيرها ، لا حول ولا قوة لهم غير تنفيذ ما يُملى عليهم .
هل تُراني أخاطب قادةً فهموا اللعبة الأمريكية والخطر المحدق بهم ؟ وهل أَجِد عقولًا مفكّرة استوعبوا أهمية دورهم في توعية المجتمع العربي ، وإنارة تفكيره ، وألا يجرون خلف فُتات المناصب السياسية والثقافية ، وأن يكونوا دعاة وحدة ليس بين فئات المجتمع الواحد ، وإنما إلى وحدة الشعوب العربية والإسلامية ، فليس لدينا ما يمنع من وجود تيارات فكرية مختلفة ، لكن يوحِّدها همّ الوطن والمواطن ، وأن يكون لهم صوت مسموع للحرية والعدالة في أوطانهم .
احزموا أمركم ولو لمرة واحدة ، في تاريخكم الحديث لتستعيدوا مجد أمتكم ، كما كانت في عهد الفاروق ، وعمر بن عبد العزيز ، وصلاح الدين ، وعلماء كابن المبارك وغيرهم، فبالله عليكم ماذا أنتم فاعلون ؟!.




Your Page Title