أثير- د.عبدالله باحجاج
التساؤلات :
س : هل ينبغي أن يعاقب فردًا فقط على ارتكابه مذبحة، وهو صناعة أيديولوجيا وأفكار سياسية متطرفة حاكمة لفعله الإرهابي ؟
س : من ينبغي أن يتحمل المسؤولية السياسية والجنائية من أنظمة وجماعات مع هذا السفاح ؟
س : هل ينبغي تبني المعاملة لنفسها التي عامل الغرب بها أنظمة عربية وإسلامية بسبب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ؟
س : أوروبا إلى أين ؟
· الفعل الإرهابي .. انعكاس لأيديولوجيا دموية
لا يمكن فصل الفعل الإرهابي لمذبحة المسجدين في نيوزلندا عن الأفكار التي يؤمن بها صاحب الفعل ، فهذه الأخيرة – أي الأفكار – تشكل الدافع القوي للفعل ، مما يظهر الإرهابي هنا ، وكأنه ينفذ أيديولوجيا معينة ، وراءها أبعاد سياسية واضحة ، وبالتالي فإن الفعل الإرهابي وايديولوجيته الجديدة ، هي ظاهرة سياسية تتحمل تبعاتها ومسؤولياتها منظمات وجماعات وأنظمة سياسية بعينها ، وهنا ينبغي التعامل مع فكر السفاح مثل التعامل الغربي الأمريكي مع اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الذي ربط الاعتداءات بفكر أيديولوجي معين ، أدان دولة الفكر أو دولة الجنسية ، مما أصبح الآن الغرب بقيادة أمريكا ترامب يهدد بعقابها وتبتزها ماليا، وتجتث هذا الفكر من منابعه .
سنحاول في مقال اليوم إثبات المسؤولية السياسية والجنائية لمذبحة المسجدين على جماعات وفاعلين حاكمين داخل نظام عالمي ، مما سيظهر لنا هذا السفاح ، ما هو إلا منفذ لأيديولوجيا متطرفة اقصائية عنصرية بامتياز ، وسيظهر لنا مشهد أوروبي مخيف جدا بسبب هذه الأيديولوجيا التي بدأت أحزاب اليمين الراديكالي في اوروبا تتبناها ، ومن خلالها تكتسح صناديق الانتخابات ، وهذا يجعلنا نفتح ملف السفاح الأسترالي الذي ارتكب مجزرة المسجدين التي راح ضحيتها أكثر من 50 شهيداً، بينهم طفل في الثالثة من عمره وشيخ في عقده السابع ، تفنيدا للسذاجة السياسية التي ترى أن المذبحة ما هي إلا ردة فعل على اعتداءات أطرافها قوى متطرفة ، إسلامية ، بينما هي في الواقع الفعل الممنهج للقتل تعميق الكراهية .
· المقاربة الأيديولوجية لمذبحة المسجدين .
لاستجلاء علمية ربط مذبحة السفاح بأيديولوجية متطرفة دموية هي التي ينبغي أن نحاكمها وندينها ، علينا في البداية ان نقترب من طبيعة الأفكار التي تقف وراء ارتكاب المذبحة التي لم تفرق بين طفل أو مرأة أو مسن ، بل ويتلذذ بقتلهم على أنغام الموسيقى ، ثم من ينبغي أن نحملها – أي هذه الأفكار – المسؤولية السياسية والجنائية ؟ نبني التساؤلين سالفي الذكر على نفس الأساس السياسي والجنائي الذي تم توظفيه في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عندما تم التركيز على أفكار الفاعلين وجنسياتهم .
نجد هذا الارتباط في اعترافات السفاح نفسه ، وذلك عندما اعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رمزا له ، محاولا اتباع نهج ترامب في محاولاته إعادة الاعتبار لهوية البيض ومحاربة المهاجرين وبالذات المسلمين ، وهو هنا يظهر ترامب ملهمه الفكري ، ومبعث فعله ، مضيفا ” ارضنا لن تكون يوما للمهاجرين ” ومضيفا كذلك ” هذا الوطن الذي كان للرجال البيض ، سيظل كذلك ، ولن يستطيعوا يوما استبدال شعبنا ” كاشفا بان هناك الكثير من الجماعات القومية تسانده في هذه الجريمة وتتفاعل معه ، غير أنه يحمل نفسه مسؤوليتها .
ولو بحثنا في أفكار ملهمه ، فسنجده صادقا فيما يقوله ، فأثناء حملة ترامب الرئاسية ، وبعيد الفوز فيها ، وفي ممارساته السياسية لمنصب الرئاسة ، وتصريحات ترامب كلها ذات عنصرية واقصائية ضد المهاجرين وبالخصوص المسلمين، ولو تعمقنا أكثر ، فسنجد أن أفكار ترامب لم تصنع هذا السفاح فقط ، بل ساهمت في صعود اليمين الراديكالي ” المتطرف ” في اوروبا ، وهناك ربط واضح بين فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، وصعود تيارات اليمين المتطرف في أوروبا في الآونة الأخيرة.
ويدور حاليا جدال بين زعماء اليمين الراديكالي المعادين للإسلام حول من تبنى أفكار من ؟ فترامب في ناظرهم ليس إلا مقلد استلهمَ منهم نضالهم، وأفكارَهم ليطبّقها في أمريكا.
وأفادت عدة مصادر اطلعنا عليها أن صعود اليمين الراديكالي في اوروبا ، وتقويته كان بعد وصول ترامب للحكم في أمريكا ، وتفيد أن إدارة ترامب وراء احياء هذا اليمين في اوروبا ، لتفكيك المنظومة الاوروبية ، ومحاربة المسلمين فيها ، وتذكر اسم ستيف بانون كبير مستشارى ترامب الأسبق ومسؤول حملته الانتخابية الذي هاجر الى اوروبا ، وأسس منظمة اسماها ” الحركة ” لتقديم خدمات واجراء استقصاءات رأي وعمل تحليلات سياسية من أجل وصول الأحزاب الراديكالية في اوروبا الى السلطة ، وتفيد المصادر أن ترامب وبانون وراء تشجيع البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي ، وسيعقد بانون قريبا مؤتمرا عاما للأحزاب اليمينة الراديكالية من اجل الفوز في انتخابات البرلمان الأوروبي بهدف التأثير سلبا على مشاريع الاندماج الجديدة .
وهذا التحليل الموضوعي ، يقودنا إلى التساؤل ، من ينبغي ان يعاقب على جريمة المسجدين ؟ هل السفاح وحده أم من يغذيه بالأفكار العنصرية الإرهابية التي تقصي الآخر ، وتحلل دمه ؟ من التحليل نخرج بان جريمة السفاح النيوزيلندي ليست ردة فعل كما يصفها بعض النخب السياسية العربية ” للأسف ” وبالتالي لا ترتبط هذه المذبحة بحوادث العنف والإرهاب التي تنسب للمسلمين ، وانما هي نتيجة أفكار ترامب وايديولوجية اليمين الراديكالي في اوروبا ، من هنا ، تأتي المسؤولية السياسية والجنائية لمذبحة المسجدين ، ودماؤها نحمل مسؤوليتها ترامب واليمين المتطرف مع ادواتهم التنفيذية هذا السفاح ، فكل هذه الأطراف تحاول إعادة الخارطة الغربية عبر المنهجية الشعوبية التي تقدس الدولة القومية داخل حدودها الوطنية .
· الراديكالية والفوضى المقبلة في أوروبا .
المتتبع للأحزاب اليمينة في اوروبا ، سيلاحظ انها قد أصبح لها ثقل شعبي ، وأصبحت تكتسح الانتخابات ، ومخطط لها الوصول الى السلطة بمساعدة مؤسسة بانون ، وتتميز كل هذه الأحزاب بسمات عامة مشتركة ، كالعداء للأجانب ورفض الأقليات ورفض التعددية الثقافية ، والدفاع عن هوية وطنية ضيقة تنطلق من منظور عرقي عنصري استقصائي ، ومع هذا الصعود ، نتساءل :
هل سيهمن اليمين الراديكالي على أوروبا ، ويستدعي معه تاريخ الفاشية والنازية .. التي هيمنت على هذه القارة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ؟ وهل ستدخل في اتون مرحلة عنف مع ملايين المسلمين في اوروبا ؟
تلك المذبحة ، وما أعقبها من اعتداءات على المسلمين في بعض الدول الاوروبية ، وتأييد وتعاطف الكثير من النخب السياسية في اوروبا ، كواقعة البيض ، بل وتحريضهم قتل المسلمين ، كالاستاذ الاكاديمي الذي دعا في جمع طلابي الى حمل السلاح الفردي لقتل المسلمين ، بدأ لنا المشهد ، وكأن الدولة في اوروبا ، لا تسيطر على مجتمعاتها ، ولا هي مطالبة بذلك ، كما يفعل بخليجنا منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر التي أصبحت تتدخل عبر مؤسستين صهيونيتين بارزتين هما ” ايباك وراند ” في تحديد الفكر وماهيته الذي ينبغي أن يؤطر الذهنية الجديدة في عدد من دول الخليج .
وبسبب هذه الضغوطات وقوتها ، أصبحت بعض الأنظمة الخليجية تحاول التبرؤ من الإرهاب والتطرف ، وتفتح سيادتها الداخلية لإعادة النظم التعليمية والدينية حتى تأخذ صك براءة من الراديكالية الإسلامية ، وقد أصبح الان هناك فوبيا من اليمين الراديكالي وأفكار ترامب الشعبوية ، وهي منتجة للأرهاب والتطرف ، فهل ستبارد الدول الفاعلة في عالمنا العربي والإسلامي الى عقد قمة استثنائية لمحاربة تلك الأيديولوجية والأفكار الشعبوية الاقصائية في أمريكا وأوروبا ؟
ذلكم الاقتراح من الأهمية بمكان التفكير فيه ، فالمشهد الأوروبي قد أصبح يتحكم فيه أحزاب وجماعات متطرفة فوق قوة الدولة ، فمثلا المانيا ، ففيها عدة جماعات متطرفة كجماعة تطلق على نفسها ” فرايتال ” ترى ان الدولة عاجزة عن حماية مواطنيها ، وان مشكلة اللاجئين يجب أن تتولاها هذه الجماعة ” وجماعة أخرى في المانيا كذلك ، تطلق على نفسها ” أوروبيون وطنيون ضد اسلمة الغرب ” تنظم تظاهرات أسبوعية كل يوم اثنين بمدينة دريسدن ، يشارك فيها عشرة آلاف ، وفنلندا كذلك ، جماعة تطلق على نفسها ” جنود ” يجوب افرادها الشوارع لحماية الفنلندنيين من خطر ما اسموه ” الغزاة المسلمين ” والقائمة طويلة .
فأين الدولة من هذه الجماعات ؟ وكيف تسمح لها أن تكون قوة فوق قوتها ؟ هذه الظاهرة لن تجدها في منطقة الخليج ، وهذا يعني أن اوروبا مقبلة على مرحلة فوضى عارمة في ظل انتشار هذه الجماعات المتطرفة وصعود اليمين الراديكالي الذي يجد بيئات مواتية لصعوده ابرزها انتشار الفقر بين الطبقات الاجتماعية ، والشعور بمنافسة الأجانب لخيرات بلدانهم ، وعودة الوطنية بعد أن ابتعتها العولمة والنيوليبرالية … وأسباب أخرى .
حتى في أمريكا في عهد ترامب ، بدأت المتغيرات كذلك تأخذ مسارات غير متوقعة تماما ، كعودة الاشتراكية وتبنيها كأيديولوجيا من قبل تيارات وجماعات كثيرة بعد أن سحقت الرأسمالية الطبقات المتوسطة والفقيرة ، وكشفت عن اختلالات عميقة ، وقد بدأت هذه التيارات تتشكل سياسيا ، مما دفع بترامب ذاته الى الإعلان مؤخرا أن أمريكا لن تتحول نحو الاشتراكية كمؤشر على شعوره بالخطر من تنامي المد الاشتراكي في بلاده – هذا الملف سنتناوله في مقال خاص ، فالإشارة اليه الان ، تستدعيه سياقات التحليل لرفع وعي النخب الحاكمة في الخليج بحجم المتغيرات الكبرى في اوربا وامريكا من جراء رهاناتها المطلقة على الرأسمالية المتوحشة .
وأخيرا ، لا ينبغي الرهان كثيرا على أنظمة في طريقها للزوال مقابل صعود الأحزاب اليمينة الراديكالية ، أو دول تتعمق فيها الكراهية نحو الإسلام والمسلمين ، ومرشحة للرجوع الى التقوقع بديلا عن الوحدة ، وتتوفر للنظام العربي والإسلامي ، على الأقل الفعلين فيه ، فرص مواتية للضغط على الأنظمة التي تصنع أيديولوجيا الكراهية ،هذه الأيديولوجيا هي التي تقف وراء ارتكاب السفاح مذبحته داخل المسجدين في نيوزيلندا .
فلابد من مساءلة ترامب والأحزاب اليمينة عن هذه المذبحة ، فهي تتحمل بالتبعية الاصلية والاصيلة المسؤوليتين السياسية والجنائية ، فهم مشاركون اساسيون فيها ، فلابد من إحالتهم الى محكمة العدل الدولية لمساءلتهم وتعويض أهالي الضحايا ، فقد تركنا مجرمي قتلة العراقيين و… دون مساءلة وعقاب .
لكن من ينبغي أن نراهن عليه من الدول ؟ ربما علينا التوجه نحو العدالة الإلهية للقصاص منهم ، عندها لن تفرق هذه العدالة بين الفاعل والمحرض والصامت ، فالدماء المسلمة البريئة التي سقطت وهي تعبد الله جل في علاه ، لها رب ينتصر لها ، رب عادل يمهل ولا يهمل ، فالصامت عن الحق كالمشارك في المذبحة ، اللهم انتصر لهذه الدماء البريئة عاجلا ، اللهم آمين