أثير- تاريخ عمان
إعداد. د. محمد بن حمد العريمي
حرص العمانيون طوال تاريخهم الطويل على الاهتمام بالعلم، وتشجيع الإقبال عليه، فلم تنقطع الأوقاف والوصايا والهبات والصدقات منذ بزوغ فجر الإسلام حتى الآن، ولعل من يتتبع تاريخ الوقف في عمان سيجد أن هناك الكثير من الإشارات الدالة على هذا الاهتمام، ليس من قبل الأئمة والحكام والأغنياء فقط، بل تعداهم لأفراد المجتمع العاديين، لذا لم يكن من الغريب ظهور العديد من الشخصيات العلمية البارزة في مختلف المجالات، وتأليف الكثير من الجوامع والموسوعات والكتب التي غطت سائر الفنون العلمية، وأصبحت المكتبة العمانية من أبرز المكتبات الإسلامية في مجال التأليف والنسخ.
“أثير” تقترب في هذا الموضوع من إحدى الشخصيات العمانية الأوائل الذين كان لهم دور كبير في مجال الاهتمام بالعلم ونشره، وتخصيص الأوقاف له، بل وصل اهتمام هذه الشخصية لدرجة إنشاء مدرسة تحتوي على قسم داخلي يأوي طلبة العلم الذين لم تقتصر هويتهم على العمانيين؛ بل تعداهم إلى إخوانهم من طلبة العلم المغاربة برغم بعد المسافة وصعوبة التواصل، إنه العالِم والشيخ والإمام “ابن بركة السليمي”.
ابن بركة
هو العالم الكبير عبدالله بن محمد بن بركة البهلوي، نسبة إلى بهلاء، ينتهي نسبُه إلى سلِمة بن مالك بن فهم، وكنيته أبو محمد، لم تذكر كتب السير تاريخ ميلاده بالضبط، ورجّح بعض الباحثين أنه ولد في أواخر النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ما بين 296 – 300هـ، من خلال عدة قرائن، منها ما ورد في مناظرات له مع الإمام سعيد بن عبد الله الذي بويع بالإمامة عام 320 هـ، وكانت وفاته سنة 328 هـ، ويحتمل أن يكون في العقد الثالث أو الرابع من عمره آنذاك.
ومن أبرز شيوخه: أبو مالك غسان بن الخضر الصلّاني، وأبو مروان سليمان بن محمد بن حبيب، وأبو القاسم سعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب، ومن أبرز تلامذته: الشيخ أبو الحسن البسيوي صاحب كتاب ” الجامع” في الفقه.
جهوده الفكرية
اهتمَّ ابن بركة بتأصيل الفقه وتقرير قواعده، واهتمَّ كذلك بمقارنة الفقه الإباضيِّ بالمذاهب الأخرى، ممَّا زاده ذلك سعةً في الفكرة، وقوَّةً في المناظرة، وإدراكاً منه بأهمية دراسة أصول الفقه، والنظرِ في الروايات، وكيفيةَ الاستنباط من الآيات القرآنية، وإعادةَ فروعِ الفقه إلى القواعد التي يسمِّيها أحيانا أمّهات الفقه؛ وضع كتابه المسمى بـ”الجامع”، والذي انتشر صِيتُه وأصبحَ يُنعت عند علماء الإباضية بـ: “الكتاب”.
ويعد كتاب الجامع لابن بركة من أهم كتب الفقه التي دوّنت في القرن الرابع الهجري بالنظر إلى ثراء مادته، وحسن ترتيبه، ودقة عباراته، وغناه بالأدلة الشرعية، لاسيما الروايات والآثار، وقد اعتمد هذا الكتاب لدى الدارسين كمصدر هام يبرز الصناعة الفقهية والأصولية عند الإباضية المتقدمين.

ومن كتبه: “التقييد” وهو مجموعة جوابات تلقاها من شيوخه في مسائل متنوعة، وكتاب “المبتدأ” في التواريخ والأنساب العمانية، وكتاب “التعارف” في دليل العرف وحجيّته، وكتاب “الموازنة” أورد فيه مواقفه من الأحداث السياسية في عمان وقتها.
وبحسب الباحث خلفان بن محمد الحارثي فإنه “مما يؤسَف له أنَّ آثارَ العلاَّمة أبي محمد ابن بركة قد ضاعت، ولم يبق منها إلا النـزر القليل، وربما يرجع سببُ ذلك إلى أنَّ العلماءَ الذين جاؤوا من بعده مالوا بقوَّةٍ إلى أبي سعيد الكدمي المعاصِر له، وراقتْ لهم آراؤه، خاصَّة مسائل الوَلاية والبراءة فيما يخصُّ الأحداث الواقعة بين موسى بن موسى وراشد بن النضر، زمانَ الإمام الصلت بن مالك، في القرن الثاني الهجري، وكان العلاَّمة أبو محمد بن بركة يقف موقفا مغايرا للعلامة أبي سعيد الكدمي، حتى أنَّ الموقفين تأسَّست عليهما فرقتان، وصارتا مدرستين تعرف لكلاَ العالمين”.

اهتمامه بالوقف العلمي
كان ابن بركة يتمتع بثروة مالية كبيرة وغنى واسع أنعم الله به عليه، وهو من العلماء القلائل الذين جمعوا بين العلم والغنى، ولكن تلك الثروة لم تكن تشغله عن القيام بالواجب في الإصلاح إنفاقاً وإرشاداً وتدريسا، وكان ينفق من تلك الثروة على الطلبة الذين يلتحقون بمدرسته فهو يؤويهم تعليماً وإسكاناً وتغذية، ولعله بهذا يعد أول من أنشاً ما يعرف حالياً بنظام الأقسام الداخلية، ولعل إيواءه لطلبة العلم بهذه الصورة هو الذي جذب إليه الطلاب المغاربة.
كما بنى العديد من المساجد منها مسجده الواقع في قرية الضرح ومسجد الخير ومسجد الشريعة والفحال والوحيد وغيرها، وأوقف للمتعلمين أوقافاً منها: ضاحيةً كبيرة بقرب مدرسته تسمى (المدانة)، وبحسب اطلاع الباحث خميس بن راشد العدوي؛ فإن أوقاف ابن بركة هي أقدم أوقاف ذكرت باسمها واسم من أوقفها في بهلا.
مدرسة ابن بركة
وأنشأ ابن بركة مدرسةً تحوي قسماً داخلياً في حارة الضرح ببهلا اشتهرت باسم مدرسة ابن بركة إلا أنها تعرف باسم مدرسة الضرح، حيث تقع في حارة الضرح من السفالة على الجنوب الشرقي من مدينة بهلا، ملاصقةً لسور بهلا من جهة الداخل، تشمل بالإضافة إلى غرف التدريس قسماً داخلياً لسكنى الطلاب، والمسجد، وبئراً على الشمال منه، وأما بيت ابن بركه فيقع على الغرب من المدرسة، ولا يوجد له الآن أثر واضح، وقد حل محله تنور شواء لأهل الحارة، وقد زحفت البيوت الحديثة إلى آثار المدرسة بحسب ما هو مذكور في كتاب “الوقف العلمي في بهلا”.
طلبة المدرسة
ارتاد مدرسة ابن بركة كثير من الطلبة من داخل عمان وخارجها وبالأخص من بلدان المغرب العربي الذين شدّ العديد منهم الرحال إلى تلك المدرسة برغم بعد المسافة، وبحسب الشيخ محمد بن عبد الله السالمي المشار إليه في بحث “الإمام ابن بركة: حياته وفكره ومدرسته” للشيخ أحمد بن سعود السيابي فإنه ” كانت لعمان في القديم مدارس للفقه وبقية العلوم منها: مدرسة الشيخ أبي محمد بن بركة في بهلا، وآثارها باقية إلى الآن تشتمل على كثير من الطلبة من البلاد ومن الخارج، وسمعت والدي – أي نور الدين السالمي- رحمه الله يذكر أنه تخرج منها ثمانون عالماً من إخواننا المغاربة، فلذلك ترى المغاربة يثنون على ابن بركة من علماء عمان أكثر من غيره، وكان الشيخ من أغنياء أهل زمانه يحوط أمواله كل يوم من أول الصباح ثم يعود إلى التلامذة للتدريس”
وقد خرّجت تلك المدرسة عدداً غير قليل من العلماء الأعلام الذين قدموا للعلم والإسلام خدماتٍ جليلة سجلتها صفحات الأيام، وفي مقدمتهم العلامة الخبير والمؤلف الشهير أبو الحسن علي بن محمد البسيوي صاحب المؤلفات العديدة.
المراجع:
1- الحارثي، خلفان بن محمد. القواعد الفقهية عند الإمام ابن بركة، ضمن أعمال ندوة ” تطور العلوم الفقهية المنعقدة عام 2004، طـ الرابعة، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية،2012
2- حاج أمحمد، قاسم عمر. منهج روايات الأحاديث ونقدها عند فقهاء الاباضية في القرن الرابع الهجري. ابن بركة العماني أنموذجاً،İslami İlimler Dergisi, Yıl lO. Cilt 10, Sayı 1, Bahar 2015 (111/ 127-250-234)
3- السيابي، أحمد بن سعود. الإمام ابن بركه: حياته وفكره ومدرسته، ضمن أعمال ندوة” قراءات في فكر ابن بركة البهلوي”، طـ الأولى، المنتدى الأدبي، مسقط، 2001
4- العدوي، خميس بن راشد. الوقف العلمي في بهلا ماضيه وحاضره، طـ الأولى، مركز الخليل بن أحمد، جامعة نزوى، 2016.
· الصور من شبكة المعلومات العالمية (الانترنت).