أثير- د. ناصر بن سيف السعدي، كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج، جامعة نزوى
تعد الكوارث الطبيعية من أبرز العوامل التي أثرت في تشكيل المجتمعات وتطورها عبر التاريخ، لما تحدثه من تحولات لا تقتصر على الخسائر في الأرواح والممتلكات، بل تمتد إلى بنية المجتمع نفسها.
ويقدم أحد النصوص التاريخية النادرة التي حفظتها المصادر العُمانية توثيقا لأثر العوامل المناخية والبيئية على البنية العمرانية والاجتماعية في عُمان، فالنص الذي نحن بصدد الحديث عنه يتعلق بالسيول والأمطار التي وقعت في ليلة الأحد، لثلاث ليال خلون من جمادى الأولى سنة 251هـ، وتأثرت بها مناطق عديدة من الباطنة وسمائل وبدبد، وقد وصف النص هذا الحدث بأنه: ”أمر فظيع عجيب“.
وقد اعتمد هذا المقال على النص الوارد في كتاب ”تحفة الأعيان في تاريخ أهل عمان“، وبالرغم من أن النص يتناول بالأساس سيول وأمطار سنة 251هـ، إلا أنه تضمن إشارات عرضية إلى قحط وجفاف، كما في قوله: ”إن منح أصابها محل شديد حتى غارت الآبار ولم يوجد فيها ماء للشرب...“. كما تضمّن النص إشارة إلى نكبة سياسية أصابت بعض المناطق، مثل ما ورد عن ”الموضع المسمى الأسرار من لوى، وحسفين... كانت بلدة طيبة ذات نخل وشجر ولكن تغلب عليها بعض الجبابرة“.
أدت هذه الجائحة الطبيعية إلى تغيرات في الجغرافيا السكانية، وخلفت آثارا اجتماعية واقتصادية، حيث لم يكن ما حدث مجرد جائحة عابرة، بل حدث استثنائي في ذاكرة المجتمع العُماني.
وقد وصفها النص بلغة مشحونة بالرعب، قائلا: ”أمر عظيم جليل، ونزل عليهم في الليل، وثمارهم متعلقة في نخيل محدقة، فجاءهم دويّ وظلمة وهوى وهول مفظع وأمر مطلع، فناهم في ذلك بحيح وصياح وعجيج، واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء“. كان وقع الحدث شديدا إلى درجة أنه لم يُنسَ، بل تم توثيقه وتناقله جيلا بعد جيل، ولم يكن حفظه نابعا فقط من شدة الجائحة، بل أيضا من آثارها الكبيرة على البنية الاجتماعية والاقتصادية، مثل خراب الممتلكات العامة والخاصة، وتغيّر أوضاع الناس، وضياع الحقوق بسبب جهل أصحابها أو غيابهم؛ ما جعل من التوثيق بمثابة حفظ للذاكرة الجمعية وصيانة الحقوق.
في هذا المقال عبر ”أثير“ نحاول تقديم قراءة تحليلية شاملة لهذا النص التاريخي، من خلال التوقف عند عدة زوايا، منها: الحالة النفسية، والآثار المادية والاجتماعية، والتحولات في الملكية، ودور المرأة، والتلميحات السياسية التي جاءت بين ثنايا النص.
أولا: البُعد النفسي
ألقت السيول والأمطار بظلالها الثقيلة على النفوس، قبل أن تصيب المنازل والممتلكات، فتحوّل الليل الآمن فجأة إلى لحظة من الفزع والخوف والرعب، ويصف النص هذا المشهد المخيف بقوله: ”فناهم في ذلك بحيح وصياح وعجيج... واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء...“. ويتصاعد الألم حين يبلغ الفقد ذروته، حيث ”غرقت النساء والرجال، فغرق الرجل وعياله، وتخرب منزله وماله...“. إنها لحظة مأساوية لا توثق الدمار فقط، بل تسجل الأثر النفسي الذي تركته الجائحة في وجدان الناس.
ثانيا: البعد العمراني والاجتماعي والاقتصادي
أظهر النص أثر الجائحة على البنية المكانية والاجتماعية لمناطق مثل بدبد وقيقا وصحار ودما وسمائل، إذ لم تكن مجرد سيول وأمطار عابرة، بل أدت إلى تحول شامل في العمران والسكان والاقتصاد. فقد ورد في النص: ”هدمت السيول مساكنهم، وأخرجتهم من أوطانهم، وحملت إلى البحور أبدانهم“، في وصف لمأساة حوّلت القرى العامرة إلى أماكن خالية، وطمست معالم الأراضي والمنازل، وامتد الأثر إلى الجانب الاقتصادي، لا سيما فيما يتعلق بملكية الأرض والماء، وهما عماد الحياة الاقتصادية في المجتمع العُماني؛ إذ أدت السيول إلى تدمير البنية الزراعية، وجاء في النص: ”وقلعت الأشجار وأغارت الأنهار“. هذا يوضح كيف انهارت أنظمة الري، وجُرفت المزارع، ما أدى إلى ضياع مصدر الرزق الأساسي.
كما يشير النص إلى أن الجائحة لم تخلف فقط خسائر مادية، بل أحدثت تغيرات عميقة في النسيج الاجتماعي، تمثلت في الهجرة والانتقال الجماعي، حيث ورد: "تفرّق من بقي منهم في البلدان، وتركوا الأوطان، وخربت المواضع والعمران، حتى إنه ليمر بها الإنسان فتأخذه لمنظرها رهبة”. هذا المشهد لا يعبّر فقط عن خراب عمراني، بل عن تفكك اجتماعي أيضا، ومن بقي من الناس أحياء، لم يسلموا من آثار الجائحة، فقد انقلبت أوضاعهم من اليسر إلى الفقر، كما وصف النص: ”فأصبح السالم الموسر منهم فقيرا، يطلب الأكل والشيء اليسير...“.
ثالثا: تحوّلات الملكية
تأثّر نظام الملكية بصورة واضحة بسبب الجائحة، نتيجة موت أصحاب المنازل والأراضي أو هجرتهم، أو بسبب اختفاء الحدود والمعالم التي كانت تحدد الملكيات، ما جعل من الصعب تحديد أصحاب الحقوق. يذكر النص في هذا الصدد: ”كل عرف ماله، إلا بدبد، لم يكن أحد يعرف ماله، إلا مال مسجد قيقا منها، عرف وحيز هو وماؤه إلى الآن...“. ومع هذا الغموض، تحولت الأملاك إلى ما يشبه ”المال المجهول ربه لا يعرف ولا يكاتَب فيها“. ولهذا السبب ”تركت بدبد قبيضة في أيدي المسلمين حتى يرجع إليها أهلها، ثم صُيّرت بيت مال“، ما يشير إلى تحول الملكية الخاصة إلى مال عام بسبب غياب الملاك.
في المقابل، أفرزت هذه الإشكالية سلوكا جماعيا للتكيّف، حيث لجأ الناس إلى الاعتماد على بقايا معروفة لإعادة تنظيم الملكيات، فكما ورد في النص، عرفت نخلة من سمائل " وقيست الأموال عليها، وسمى ذلك المال الحلال، وقد تراضوا على ذلك لأن أهلها بقوا...”. ويمكن اعتبار هذا التراضي آلية توافقية أفرزتها الجائحة، تهدف إلى حفظ الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتُعبّر عن مرونة المجتمع العُماني في التعامل مع النتائج التي خلفتها الجوائح.
رابعا: الجفاف والخريطة السكانية
إلى جانب السيول العارمة التي اجتاحت مناطق مثل بدبد وقيقا ودما وصحار، شكّل الجفاف عاملا لا يقل أثرا في تفكك النسيج الاجتماعي، وذلك بسبب ما سبّبه من هجرة ونزوح جماعي، فقد أشار النص إلى أن بلدة منح عانت من ”محل شديد حتى غارت الآبار ولم يوجد فيها ماء للشرب“. هذا الجفاف أجبر السكان على ترك ديارهم وأوطانهم، والانتقال إلى مناطق أكثر خصوبة، ما أدى إلى تغيرات واضحة في التوزيع السكاني.
وبذلك، لم تكن التحولات السكانية ناتجة فقط عن الكوارث المفاجئة مثل السيول والأمطار، بل أيضا عن ضغوط مناخية وبيئية، كما يُظهر النص: ”سار أهلها إلى الباطنة في طلب المعاش“. وهو ما يؤكد أن القحط وقلة الأمطار لا يقلان تأثيرا عن الأعاصير المدمرة، ففي كلتا الحالتين، يُجبر الناس على مغادرة مواطنهم، ما يؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السكانية.
خامسا: دور المرأة في إعادة البناء
ومن أبرز ما يكشفه هذا النص هو دور المرأة في مواجهة آثار الجفاف في بلدة منح، وهو دور نادر الحضور في المصادر التاريخية العُمانية، فقد ورد أن امرأة من أهل منح تُدعى قيقا بادرت إلى بناء مسجد في منطقة المعبيلة بالباطنة، بعد أن هاجر أهلها إليها بسبب الجفاف، حيث جاء في النص: ”ومسجد قيقا، معروف في قرية من الباطنة يقال لها المعبيلة، بنته امرأة من أهل منح اسمها قيقا قبل الجائحة...“. ويؤكد النص استمرارية أثر هذا المسجد رغم الجوائح، إذ جاء فيه: ”فقيل إنها لم تخربه الجوائح أو إنه خرب بالسيول وعُرف مكانه وجُدّد بناؤه“.
هذا الحدث يُبرز دور النساء في إعادة تأسيس البنية المعنوية والاجتماعية في ظل التغيرات التي فرضتها الكوارث الطبيعية، ويجعل من مبادرة قيقا مثالا على الإسهامات النسائية في حفظ الاستقرار الرمزي والديني للمجتمع في لحظات الشدة.
سادسا: تداخل الطبيعة والسياسة
لا تقف الآثار المأساوية التي يصفها النص عند كونها نتيجة لكارثة طبيعية فحسب، بل تتضمن تلميحا سياسيا واضحا يكشف عن تداخل العوامل الطبيعية والسياسية في التأثير على بنية المجتمع، وليس هذا الربط جديدا في الثقافة العُمانية، فقد عبّر عنه أبو الحواري بقوله: ”السلطان مثل السيل“، في تشبيه يلمّح إلى أن جور السلطان قد يكون كالسيل الجارف، يؤثر على الجميع دون تمييز”.
وقد أشار النص إلى هذا التداخل، حيث امتزجت آثار السيول والجفاف بسلوكيات السلطة، لتترك أثرا كبيرا في العمران، والهجرة، وتفكك النسيج المجتمعي، فبينما كانت السيول تجرف القرى وتغمر الأراضي، يلمّح النص إلى أن بعض المناطق تضررت أيضا من التسلط والظلم، كما ورد عن موضع ”الأسرار من لوى وحسفين" بأنها ”كانت بلدة طيبة ذات نخل وشجر ولكن تغلب عليها بعض الجبابرة“، في إشارة إلى أن الخراب لم يكن بيئيا فقط، بل سياسيا كذلك.
ويصف النص دما – المعروفة حاليا بمنطقة السيب – بما يلي: ”مرابط المسلمين في دما من الباطنة“. ومع ذلك، لم تصمد أمام الجائحة، وانتهى بها الأمر إلى أن تكون ”في منزلة المال المجهول ربه لا يُعرف ولا يُكاتَب فيها“.
وهكذا، يجعلنا هذا النص نُدرك أن الكوارث الطبيعية والسياسية قد تشابكت تاريخيا في عُمان، وأسهمت بصورة كبيرة في إضعاف العمران وإعادة تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية للبلاد.