أثير- تاريخ عُمان
تلخيص: د. محمد بن حمد العريمي
نتيجةً للازدهار الحضاري الكبير الذي تمتعت به السلطنة منذ أقدم العصور نتيجةً لموقعها الجغرافي المتميز، وقربها من الحضارات الكبيرة، وتفاعلها المستمر مع الشعوب المحيطة بها، فقد جعلها ذلك عرضةً للاحتكاك السلبي أو الإيجابي من قبل عدد من الشعوب والجماعات والأفراد، وكانت موانئ عمان المختلفة محطة لكثير من الزوّار الذين كتبوا انطباعاتهم المختلفة عنها، والتي كانت تتمحور بصفةٍ عامة حول الأهمية الكبيرة للمكان، والثراء الحضاري له.
ومن الفئات التي كتبت عن عمان، وشكّلت كتاباتهم مادةً تاريخية خصبة لمن أتى من بعدهم؛ الرحالة العرب والمسلمون، ومن بعدهم الأوروبيون الذين زاروا عمان في فتراتٍ مختلفة، ودوّنوا العديد من النقاط المتعلقة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لها.
“أثير” تستعرض في هذا الموضوع ملامح من مدينة مسقط عام 1835م، وذلك من خلال استعراض كتاب ” تاريخ عمان..رحلة في شبه الجزيرة العربية” لمؤلفه الرحّالة الإنجليزي جيمس ريموند ولستد، ومترجمه الدكتور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، ومؤلف الكتاب عمل في الحملات المسحيّة على متن الفرقاطة بالينورس التي قامت بمسح السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية حتى رأس الحد، ولكن البحوث المسحية لم تشبع نهمه، فسعى إلى اكتشاف ما بداخل شبه الجزيرة العربية، وقد بدأ ولستد مهتمه من ميناء مسقط في 25 نوفمبر 1835، والتقى بالسيد سعيد بن سلطان وأشاد بتعامله، ثم زار عددًا من المدن والمراكز الحضرية العمانية كصور، وجعلان، ووادي بيثة، وبدية، ونزوى، والجبل الأخضر، والسيب، والسويق، وشناص، وعبري، وتطرق إلى العديد من القضايا والموضوعات المتعلقة بحياة العمانيين، كما كتب انطباعاته عمّا شاهده أو تعرض له من مواقف متباينة خلال جولاته تلك، وتعد رحلة وليستد مهمة كونها من أوائل الرحلات التي توغلت في الداخل العماني، ولم يتم لأي أوروبي بعد ولستد زيارة الأماكن التي زارها إلا في عام 1876 عن طريق مايلز.
موقع مسقط
وصف المؤلف موقع مسقط بأنها تقوم عند أقصى بقعة من خليج صغير ناتئ عن مخنق عميق ذي امتداد شاسع يأخذ في الاتساع التدريجي عند المدخل ويزداد اتساعه شيئا فشيئا، وهو يقارب المنطقة الداخلية، وتحيط بهذا الخليج الصغير، وترتفع على كلا جانبيه تلال يتراوح ارتفاعها بين الثلائمة إلى الخمسمئة قدم فوق مستوى البحر، تقف فوقها قلاع يمكن أن نصفها بأنها قد صينت بشكل جيد، وتقع أكبر هذه القلاع وأميزها في أقصى المنطقة الداخلية من ذلك الخليج الصغير، أما القلعة التي تقع على الجانب الغربي للخليج فهي تلك التي تحتجز الدولة فيها الأشخاص الذين يقضون أحكاما بالسجن.
وصف عام للمدينة
أشار المؤلف إلى أن منظر مسقط بقلاعها وتلالها المتشابكة منظر غير مسبوق، ويمكن القول إنه رومانسي خلّاب يأسر ألباب الوافدين إلى البلدة بحرا، وعلى الرغم من أنه لا توجد هنا أية أشجار أو شجيرات، أو حتى أي أثر للنبات، إلا أن منظر هذه البلدة بسطوح منازلها البيضاء وبروجها المتناثرة حين تختلط مع السواد الفاحم الذي تتشح به كتل الغرابيب السوداء المحيطة بالبلدة، يهدي للعين تناسقا فريدا.
تبدو مسقط للناظر إليها من بعيد، مثلها مثل كافة المدن الشرقية الأخرى، فأول ما تقع عليه العين قباب المساجد بمآذنها العالية، والسقوف المسطّحة للمنازل، ولكن ما إن يرسو المركب بالمسافر إلى مسقط حتى تتكشف الحقائق أمام العيان، وتتبدد الأوهام، نرى في مسقط الشوارع الضيقة وهي تعجّ بمن فيها من خلق، وتكتظّ بما فيها من بازارات، ويكثر في هذه الأسواق الحمالون الذين تراهم ينوؤون تحت طرود التمر وأكياس الحبوب وما إلى ذلك من السلع والبضائع.
بيوت مسقط
عند حديثه عن بيوت مسقط ومساكنها وصف المؤلف ذلك بأنه تختلط في المكان الأكواخ البسيطة والمنازل التي يجلس أصحابها أمامها على دكك صغيرة يتقون وهج الهجير بقطع من نسيج الكتّان مثبتة أعلى تلك المجالس، كما نجد هنا بعض المنازل البالية التي أرهقت قبضة الزمن كاهلها، لكنها ظلت برغم البلى مأهولة بالسكان، وهناك بعض منازل كبيرة وأنيقة في هذه المدينة، كما يوجد بها قصر الإمام،، وقصور بعض أقرباء الأمراء السابقين، وعدد كبير من منازل أخرى لأصحاب الوجاهة.
المؤن
أشار المؤلف إلى وفرة المؤن على الرغم من أن ظاهر مسقط لا ينبئ عن خير كثير، ولا يبشر بعطاء وفير، إلا أن البلدة في حقيقة الأمر تبزّ كثيرا من البلاد الأخرى التي لا يمكن أن تحصل فيها على المؤن بمثل ما تجد هنا من وفرة غير مقطوعة، وبجودة في الصنف غير منازَعة، فتوجد هنا مختلف أنواع اللحوم من البقر إلى الضأن فالدواجن، أما الأسماك وما يستتبعها فكل أصنافها جيدة، ولا ريب في أن هذا الخليج (خليج مسقط) يحوي من الأسماك أشكالا وألوانا، أما الفاكهة فهي متوفرة في مسقط في كل الفصول.
تشرب مسقط من بئر عميقة شيدت عندها قلعة تؤوي عددا من جند الحراسة يذبّون عنها في حالة الهجوم على البلدة، ويؤمّنون سكانها من خطر العطش، وقد تم مؤخرا (قبل زيارة المؤلف) حفر فلج عند هذه البئر تصل مياهه إلى المدينة، وطعم الماء هنا عادي.
سكان مسقط
لاحظ المؤلف عند حديثه عن سكان مسقط أنهم هجين؛ فهم سلالة العرب الذين اختلطوا بالفرس وبالهنود، كما اختلطوا بالسوريين الذين وفدوا إلى مسقط عن طريق بغداد والبصرة، واختلطوا أيضا بالأكراد والأفغان والبلوش وعناصر أخرى استهواها تسامح الحكومة وطاب لها العيش فأقامت في هذه المنطقة بمنأى عن الطغيان الذي تمارسه الحكومات المجاورة. “إن التسامح في مسقط قديم ممتد الجذور وليس بمستحدث، فقبل ميلاد النبي محمد بقرنين لجأت إلى هذا المكان قبيلة قوية كانت تسكن السواحل المقابلة للخليج، أما في وقتنا الراهن ( وقت زيارة المؤلف) فقد استقبل الإمام (سعيد بن سلطان) بكثير من الترحيب جماعة من اليهود الذين لجأوا في عام 1828 إلى مسقط فرارا من تعدي داؤود باشا وطغيانه”.
يسكن بعض الأفغان في مسقط، ولا تروعك هنا كثرة أعدادهم فأكثريتهم غير مقيمة، حيث تتراوح بين فئتين: غادين أو قادمين من مكة المكرمة، ولا يدخل الأفغان إلا نادرا في عمليات تجارية هنا، كما أنهم لا يختلطون بالعناصر الأخرى.
أما البلوش، فهم على النقيض من ذلك يخالطون الجميع ويختلطون بهم، وهم يميلون إلى الاقتصاد في المعيشة، كما أنهم غير مبذرين، ويعمل عدد من أفراد هذه الجماعة في حرس الإمام، كما يعمل بعضهم كحمّالين، ويشتغل عدد قليل منهم جنودا على بعض البغلات والمراكب التجارية، وقد اكتسبوا في هذا المجال سمعةً حميدة وذلك لنشاطهم الجم، ولما يتمتعون به من روح مرحة، كما أن بناهم الجسدية القوية تتناسب والمهن التي يشتغلون بها.
يعمل الفرس في مسقط غالبا بالتجارة في السلع التي تفد من الهند، وبتجارة البن وماء الورد، كما يعمل بعض الفرس الوافدين من بندر عباس ولار ومنون في صناعة السيوف، وكذلك في صناعة البنادق ذات الفتيل التي تجد في عمان الداخلية رواجا كبيرا، وللفرس في مسقط قاضٍ خاص بهم، فحين يرتكب الفارسي جريمة مدنيةً كانت أم جنائية، يحال إلى القاضي الخاص بقضايا الفرس ليقرر في شأنه.
أما بالنسبة إلى البانيان فعددهم في مسقط كثير، وقد قُدّرت أعداد نفوسهم فيها (فترة وجود المؤلف) بألف وخمسمئة، ولا تزال أعدادهم في تزايد مستمر نتيجة للتسامح الذي يجدونه من حكومة السيد سعيد، ولا نجد مثل هذا العدد من البانيان في أية مدينة أخرى من مدن الجزيرة العربية، وللبانيان في مسقط معبد صغير يحتفظون فيه ببعض الأبقار التي يحسنون رعايتها، كما يُسمح لهم أيضا بحرق موتاهم، وبممارسة كافة طقوس عبادتهم بحرّية لا يحدّها أي تدخل في أي شأن من شؤونهم الدينية، ولا يجبرون على ارتداء الملابس المميزة التي تحمل معنى التفرقة والتي يُجبرون على ارتدائها في مدن اليمن، فهم في مسقط يتمتعون بكافة المزايا التي يتمتع بها المسلمون من رعايا السيد سعيد.
أما اليهود فتوجد منهم في مسقط أعداد قليلة، وقد وفد أغلب هؤلاء الجماعة إلى هنا في عام 1828 بعد أن خرجوا من بغداد نتيجة قسوة داؤود باشا وصلفه، لجأ بعض هؤلاء إلى فارس بينما يممت مجموعة أخرى صوب الهند، لكنهم حينما بلغوا مسقط آثروا البقاء فيها ولم يواصلوا طريقهم إلى الهند، ويشمل التسامح هنا الذي يمتد إلى كافة الطوائف بني إسرائيل أيضا، فهم في مسقط لا يُجبرون على وضع تلك العصابات أو العلامات التي تميز هويتهم كما هو الحال في مصر وسوريا، كما أنهم لا يُجبرون على السكن في أماكن منعزلة في مناطق قاسية كما هو الحال في اليمن، ولا يقسرون على المرور من يسار المسلم حينما يقابلونه في الطريق، ويشتغل اليهود في مسقط بنشاطات متعددة، فقد انخرط العديد منهم في صناعة الفضة، ويتعامل بعضهم في النقود، وقليل منهم يعمل في تجارة الخمور.
مكانة مسقط
أشار المؤلف إلى مكانة مسقط الكبيرة بقوله “لمسقط مكانة عظيمة بين المدن الشرقية، ليس لكونها مخزنا كبيرا للمتاجر الكبيرة بين شبه الجزيرة العربية والهند وفارس فحسب؛ ولكن لكونها أيضا ميناء عمان وسوقها الذي تفد إليه الواردات الشاملة، ونستطيع أن نقدر إجمالي عدد سكان مسقط بستين ألف شخص تقريبا.
توضع في مسقط رسوم جمركية بنسبة 5% على السلع المستورَدة، ويصل إجمالي التزام ضرائب مسقط إلى مئة وخمسة آلاف ريال، بينما يصل إجمالي التزام ضرائب مطرح إلى 60 ألف ريال، وتقدر الواردات السنوية بحوالي ثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف ريال، ولا توضع في مسقط أية رسوم على الصادرات، ويمثل إجمالي مبلغ الواردات مبلغا كبيرا جدا بالنسبة إلى موانئ شبه الجزيرة العربية”.
السلع الواردة
أشار المؤلف إلى أن الواردات الرئيسة هنا تتمثل في القمح والقماش، ونجد أن جملة السلع الواردة إلى هذا الميناء تفوق مجمل الكميات المستورَدة إلى أي ميناء أخر في شبه الجزيرة العربية.
كما يرد إلى ميناء مسقط عدد من السلع الأساسية بغرض إعادة التصدير، وتتمثل هذه السلع بصفة رئيسية في البن واللآلئ، ولا تفرض الحكومة أية رسوم على هاتين السلعتين، وتعمل في نقل تجارة البن نحو ثمان إلى عشر سفن كبيرة، وضعف هذا العدد من المراكب الصغيرة تحمله من موانئ اليمن إلى مسقط، وتنحصر تجارة البن في مسقط في أيدي البانيان.
أما تجارة اللؤلؤ في الخليج فتقدر بنحو أربعين لخ (لك) ريال سنويا، ويجلب ثلثا هذا المحصول تقريبا إلى مسقط على قوارب صغيرة ثم يعاد شحنه في مراكب كبيرة أو بغلات إلى بومباي، وتصل هذه اللآلئ إلى مسقط في طرود مختومة ولا يباع منها في مسقط إلا القليل.
السلع المصدّرَة
أما السلع المصدّرة من مسقط والتي لا توضع عليها أية رسوم فهي قليلة، وتتمثل بصفة أساسية في التمر الذي تستورده الهند ويستهلك في المعسكرات هناك، كما تصدّر مسقط التمر إلى بعض الموانئ الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، ويصدّر هذا الميناء أيضا نوعا من الصبغة الحمراء التي تجد رواجا كبيرا عند الهنود، وترسل مسقط أيضا إلى موانئ الصين أطراف زعانف الحيتان التي تستعمل هناك في عمل الحساء، كما تصدّر كذلك مجموعة من السلع البسيطة إلى الهند مثل السمك المملّح الذي يتخذه فقراء الهند طعاما، ويتاجر عدد من أهل المدينة في بغال فارس وحمير البحرين يرسلونها إلى موريشوس، ويأتي عائد هذه السلع إلى مسقط إما في شكل سبائك من الذهب أو في شكل مقايضة بالبن الذي يباع في مسقط أو يعاد تصديره.
حاكم عمان
رأى المؤلف أن أهم ما تمتاز به حكومة هذا الأمير (السيد سعيد بن سلطان) هو أنها لا تلجأ في تعاملها مع مواطنيها إلى التعسف، وعرفها في القانون هو التسامح الذي به تسوّى حقوق جميع الأطراف، ويولي السيّد كل اهتمامه لما يحقق رفاهية الرعية، الأمر الذي جعل سكان هذه المدينة (مسقط) يوقّرونه ويكنّون له الإعجاب، أما أهل البادية فيقدرون له تسامحه، ويحترمون فيه صفة الشجاعة، ويولي السيد سعيد تجار كل الأمم الذين يفدون إلى بلاده للإقامة في مسقط كل رعاية وعناية، ويمتد تسامحه ليشمل كافة الأجانب المقيمين لديه من دون تمييز.
المرجع
1- ولستد، جيمس ريموند. تاريخ عمان.. رحلة في شبه الجزيرة العربية، ترجمة عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، دار الساقي، بيروت، 2002.
- تم أخذ الصور الارشيفية لمدينة مسقط من أعداد مختلفة لمجلة Neglected Arabia الصادرة مطلع القرن العشرين عن البعثة العربية للارسالية البروتستانتية الأمريكية.
- صورة غلاف الكتاب من شبكة المعلومات العالمية.