فضاءات

د.حارث الحارثي يكتب: ورحل المعلم المناضل الضرير

د حارث بن عبدالله الحارثي – طبيب وكاتب عماني

رحل العم أحمد بن حميد بن سليمان الغساني بعد صراع مع المرض لم يستمر طويلا. رحل ووري جثمانه الثرى في المقبرة المجاورة لمنزله هناك في قرية المزاحيط ضمن ولاية الرستاق. رحل معززا، كريما، وفيا لكل ما آمن به في حياته من فكر ومعتقد ومبادئ. رحل تاركا خلفه موروثا من العلم يضيء طريقنا ويثري مسير الوطن وتاريخه.

بعد كل لقاء يجمعني به، وحوار أتشارك أطرافه معه، كنت أتعلم شيئا جديدا عن تنوع وعمق تاريخ الثقافة في وطننا عمان. تلمست من أحاديثي معه حجم التغير الذي طرأ على وطننا، موقنا أكثر أن عمان لها تاريخ وثقافة عريقة ضاربة بجذورها في التاريخ، ولا يجب أن تختزل تلك الثقافة وتحصر بداياتها في العقود الأخيرة، ورجال مثل العم أحمد الغساني كانوا شاهدين على ذلك.

في لقائي قبل الأخير به، طرحت عليه فكرة تسجيل محطات حياته للأجيال القادمة من أبناء عمان: “لماذا لا تكتب مذكراتك يا عمي أحمد؟”..أعقبت سؤالي بتعليق … “أنا مستعد لحجز أول ١٠٠ نسخة من كتاب مذكراتك” .. ابتسم ضاحكا من تعليقي.. وسرعان ما تبددت الابتسامة من محياه واعتدل قليلا في جلسته… صمت قليلا وكأنه يفكر في الرد المناسب… “يا ولدي هناك من كتب كل الذكريات وسجل كل التاريخ، ولكن بعض الذكريات وبعض التاريخ لا يجب أن ينشر الآن ويمكن ما يستحق أن يحفظ” .. “عمان تغيرت إلى الأفضل وعمان الآن ليست عمان ما قبل ال ١٩٧٠” .. أسهب في سرد بعض محطات رحلة حياته ونضاله .. إلى أن قارب وقت صلاة المغرب فودعته متجها إلى مسقط .. لم أستطع التوقف عن التفكير في إجابته وما الذي كان يقصده..

أقف الآن أمام قبرك الرطب يا عم أحمد، وما زلت أفكر في مقصدك وقد لا أعيه أبدا، لكن جوابك اختزل رحلة عمان في النصف قرن الأخير، من وطن كان بحاجة إلى “مناضلين” يحمونه بأرواحهم وفكرهم، ويصارعون لبقائه بكل ما لديهم، إلى هذا الوطن الجميل الذي ننهل جميعا من نعمه، ونستظل بظلال أمنه وفيء منجزاته. حتما محبة الوطن والحس العالي بالمسؤولية اتجاهه كان الدافع لك في كل محطاتك، هو نفسه الدافع لنضالك قبل خمسين عاما، وهو ذاته الذي جاوبتني به عندما سألتك.

طوال سنين حياته، حمل العم أحمد محبة وطنه في قلبه، وخدمه بساعديه وبفكره، لم يتردد لحظة، ولم يستكن برهة أو يبخل بقيد أنملة. مرر محبة عمان لأبنائه، وبناته ممن أنجبهم أو أنجبتهم عمان. علم ودرس أجيالا ممن تبؤوا مراكز قيادة وحماية وبناء الوطن، واستمرت مسيرة عطائه معلما إلى آخر يوم من أيام حياته.

قلوبنا تئن لفراقك يا عم أحمد وعيوننا تذرف الدمع، وحسبنا شهادة عملك الصالح وإخلاصك لوطنك لك يوم الحساب. إنا لله وإنا إليه راجعون.

Your Page Title