قبل أن نرحل
حكايات مخبّأة تحت رمال الصحراء
عبد الغني سلامة
محمد الهادي الجزيري
لطعم اسم فلسطين مذاق خاص في القلب والروح ..وهذا ما دفعني إلى طلب نسخة من كتب القاص والروائي عبد الغني سلامة ..حتّى أتمكّن من ملامسة الجرح الفلسطيني الذي ما يزال مفتوحا ينزّ دماء وأنينا وحنينا ..، هذا اليوم أخصّصه له فهو كاتب من رام الله وعضو اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين ولديه ثمانية كتب منشورة حول فتح وحماس والاحتلال الصهيوني ..، إضافة إلى رواية بعنوان ” من سرق روايتي ” ومجموعة قصصية ” قبل أن نرحل ” سنبدأ بها قراءتنا ..:

أوّل قصّة شدّتني في هذا المتن السرديّ هي قصّة قصيرة بعنوان ” ذاكرة سبعيني ” ومثل ما يوحي العنوان تتحدّث عن ضعف الذاكرة في أرذل العمر ..حين يموت الأحباب والأصدقاء ويبقى الإنسان وحيدا يواجه قدره..، تقصّ حكاية عجوز يقف كلّ يوم ليستوقف الحافلات والسيارات ..ولا تقف له أيّة عربة ..فأولاده أوصوا السائقين بعدم التوقّف لأنّ الشيخ مصاب بالزهايمر ..يريد أن يمضي إلى مقهى يجلس إليه أصدقاؤه الموتى ..ويريد أن يذهب إلى رفيقته ..:
” آخر مرّة رأيتها فيها كانت قبل عشرة أعوام، ومن بعدها لم أعد أذكر شيئا…
ـ وأين هي الآن ؟
قال: هي في مكان لا تستطيع مغادرته أبدا ، تنتظرني ممدّدة، بلا حراك..أرجوك خذني عندها ..خذني إليها ..ولا تنتظرني ..لأنني على الأغلب لن أعود ..”
خاض القاص في هذه المجموعة كلّ المواضيع الممكنة في رفض الظلم المسلّط على الإنسان وتطرّق في خاتمة المتن القصصي إلى مسألة مهمّة مازلت تعاني منها شعوب كثيرة وإن غيّرت شكلها وأساليبها ..المسألة هي العبودية التي عانت البشرية من ويلاتها خلال قرون عديدة ..، وقد التقط بمهارة فائقة لقطات ممّا تخزّنه الذاكرة لإدانة الجور والقبح ولقول : لا ..لكلّ من يحلم بالتفكير في إعادة ما كان وانقضى غير مأسوف عليه ..إذن كتب عبد الغني قصة ” انتحار ثلاثون عبدا ” ومنها اخترت لكم هذا المقطع الملخّص لجبروت الإنسان وصلفه :
” في الطريق الطويل نحو المجهول بدا المحيط أكبر بكثير ممّا كانوا يظنّون ، وأكثر قسوة، كانوا مكدّسين على رفوف معدنية وهم مكبلين، كما لو أنّهم أكياس بطاطا، يخرجونهم بين فينة وأخرى لتنهال السياط على ظهورهم، وتحفر فيها أخاديد متفاوتة العمق، وترسم على جلودهم خطوطا في كلّ اتجاهات، وعندما تتقيّح جروحهم يرشقونها بماء البحر المالح، فتكمل الشمس جريمتهم ..”
في كلمة تقديمية حاول الكاتب أن ينظّر لقصصه وردّ كلّ معاناة الإنسان نابعة منه وبيّن للقرّاء أن لا مناص من الاعتراف بذلك حتّى نصلح ما يمكن إصلاحه ..وممّا قال :
” حاولت أن أقول أنّ مأساة الإنسان واحدة، في كلّ مكان..منذ وعى وجوده قبل مليوني عام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..وأنّ هذا الإنسان لم يتوقف عن إنتاج الظلم يوما واحدا ..مارسه بحقّ نفسه بكلّ غباء..عبر الاحتلال والعبودية والصراعات الدموية، والتمييز العنصري، والإقصاء، والتطرف والعنف والجشع، والسجون والتعذيب والحروب الأهلية ..، وإن كانت آلام الإنسان متشابهة، فإنّ خلاصه سيتمّ بمعبر واحد..وقبل أن نعبر منه، لا بدّ أن نتمثّل معاناة الآخرين، وأن نحسّ بهم ..ثمّ نمضي معا نتلمس النور في آخر نفق ..”
خلاصة القول هذه مجموعة قصصية فلسطينية تلهج بحبّ الإنسانية وتدعو إلى توحّدها رغم ما يفرّقها ..لكي تقف في وجه قلّة قليلة تريد مواصلة التناحر إلى ما لا نهاية له ..مازلنا نطّلع على الأدب الفلسطيني ونكتشف فيه جواهر ثمينة ..وما أكثر الجواهر في بيتنا العربي