زاوية تربوية

د.رجب العويسي يكتب عن التعليم المدمج وتوحيد الجهود الوطنية نحوه

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

لعل من بين محاسن جائحة كورونا (كوفيد19) في التعليم، أنها أسهمت في إحداث نقلة نوعية في منصات التفكير بنوع التعليم الذي تحتاجه الأجيال خاصة في ظل ما أفصحت عنه الأشهر الماضية من عجز مخيف لمؤسسات التعليم في بعث نوافذ الأمل ورسم خريطة إنجاز واضحة المعالم تصنع القوة لدى المتعلمين خاصة والمجتمع عامة في قدرة التعليم على معالجة المشكلات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي خلفتها هذه الجائحة، وأحدثت المعالجات الجادة التي باتت تُطرح حول التعليم عن بعد، ومنح التعليم الشبكي وعبر الإنترنت فرصة أكبر للظهور كمسار تعليمي رسمي له قواعده وأسسه ومنطلقاته سواء على مستوى مؤسسات التعليم العالي والجامعات والمدرسي تصالحا فكريا مع المفهوم ورغبة أكيدة في صناعة واجهة تعليمية جديدة تحفظ ماء الوجه وتعزز الثقة في قيادات التعليم ذاتها وقدرتها على التعايش مع معطيات الوضع العالمي الجديد، وبدأ التفكير في مدخلات عدة وبدائل متعددة تراعي إلى حد ما طبيعة ظروف كل مرحلة تعليمية وخصوصية التعلم في كل منها، فكان التعليم المدمج أحد الحلول المناسبة لضمان تحقق انتاج ملموس للتعلم في حياة الطالب مع الإبقاء على الآليات السابقة حاضرة في التعليم وهو الأنسب في التعاطي مع تحديات كورونا وتلبية رغبة المتعلمين وشوقهم في العودة للمدارس.

ولمّا كان التعليم يشكل أولوية في العمل الوطني ومفتاح الدخول للمستقبل ، لذلك جاء التوجيه السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في اجتماعه بمجلس الوزراء الموقر ليعرج عن ما يحظى به التعليم من متابعة من لدن جلالته ليأتي الإعلان بأن يكون عام 2020/ 2021 عامًا للتعليم المدمج، بما يضع أمام مؤسسات التعليم جميعها مسؤولية وضع إطار وطني للتعليم المدمج يصنع القوة في دافع التعليم ويسهم في تقليل حجم الفاقد التعليمي الذي ساير تعلم الطلبة مع بدايات عام 2020 وبما يؤسس لأنموذج وطني له خصوصيته وأدواته ومعاييره وأطره واستراتيجياته وبرامجه التي تستفيد من المشترك العالمي والتجارب الدولية وفي الوقت نفسه تبرز الخصوصية الوطنية والممكنات المتاحة لتعزيز جذور هذا التعليم في فقه الطلبة وقناعاتهم واهتمامات أولياء الأمور ومستوى الاستيعاب له من قبل الطلبة أنفسهم والممارسين للتعليم، وقراءته في إطار أكثر استدامة ومتطلب مرحلة، وليس في كونه حالة طارئة أفرزتها جائحة كورونا، وبالتالي صناعة وجه جديد للتعليم في عمان يدمج بين الأطر التقليدية المعروفة والنماذج القديمة وبين التحولات التي طرأت في عالم التقنية والتعليم الشبكي الإلكتروني ، لصالح الاستفادة الكبرى من التقنية الحديثة في تحقيق تعلم الطالب وإنجاز دروسه وواجباته واختباراته وانشطته وفق برنامج تدريس معد في هذا الغرض، مستفيدا من ميزات هذا التكامل والدفع به نحو تحقيق تعلم عالي الجودة يشارك فيه الطلبة ويعبر عن رغبتهم واهتماماتهم ويلبي مطالبهم، وفي الوقت نفسه يؤسس لحراك تعليمي يعيد انتاج الممارسة التعليمية التي تعاني من الكثير من الاضطرابات والتباينات وضعف مستوى القبول لها من الطلبة أنفسهم خاصة عند الأخذ في الاعتبار مخرجات الدبلوم العام والجامعي والتخصصات التعليمية وعلاقتها بسوق العمل وقضايا الباحثين عن عمل.

وبالتالي الحاجة إلى تبني إطار وطني في التعليم المدمج تشارك فيها مؤسسات الدولة المعنية بالتعليم المدرسي والعالي وجامعة السلطان قابوس وجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، كما يكون القطاع الخاص بجامعاته وملاك المدارس الخاصة شركاء رئيسيون في هذا التأطير والمعالجة وتبني نماذج عمل تصنع للتعليم محطات وفرص قادمة قابلة للتطبيق في أرض الواقع، بما يؤكد أهمية توفير معالجات مقنعة تتقاسم عبء المسؤولية فيها كل القطاعات، بما يطرح على الواقع مستوى توفر الشبكة الداعمة لهذا التعلم في المدارس والمنازل من جهة، ومستوى الوعي والفقه المعرفي والتطبيقي المتحقق لدى الطلبة في تعاملهم مع هذا التعليم ومتطلباته، ثم الرؤية التي ينطلق منها المعلم والمشرف وغيره من القائمين على متابعة تعلم الطلبة ولجان التقييم والمتابعة والاختبارات وغيرها في امتلاك مساحة المرونة والتدرج في التعاطي مع المفاهيم والمفردات المؤصلة للتعليم المدمج، ومستوى الأريحية في التعليمات والتنبيهات والتوجيهات والقرارات وغيرها التي يتم توجيهها للطلبة، في تدني مستوى الإحاطة بمسار التعليم وما يفرضه على الطالب من التزامات في بيئة الصف الدراسي والقاعات التدريسية ومعامل الحاسوب ومراكز مصادر التعلم أو يلقيه من أعباء على الاسرة والبيت في توفير الأجهزة وتهيئة البيئة المكانية الداعمة لتعلم الطلبة خارج المدارس، مع الحاجة إلى إيجاد بنية تشريعية وتنظيمية وتأطيريه وتوجيهية وتفسيرية تدعم التعلم المدمج وتضمن قبول الطلبة ودافعيتهم له ورغبتهم فيه واندماجهم معه، وقدرة التعليم ذاته على مراعاه الفروق الفردية ومبدأ تكافؤ الفرص في الحصول على حق التعلم بحسب ظروفهم واستعداداتهم وقدراتهم واستيعابهم في ظل محدودية الوقت المتاح لهم في المدرسة ونقص الأجهزة نظرا لزيادة الطلب عليها، والتوقعات بانخفاض في الكادر التعليمي المساند من جهة أخرى، والضغط النفسي والفكري المترتب على وجود فيروس كورونا والاحترازات والتي تقيد حركة الطالب وتطبيق إجراءات التباعد الجسدي ولبس الكمامات وغيرها من الأمور التدابير الوقائية الأخرى.

هذا الأمر يضع القطاع الخاص والعائلي أمام مسؤوليته الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والتعليمية في استيعاب متطلبات نجاح هذا التعليم في واقع الحياة التعليمية، ومراجعة سياساته في الدعم والاختصاص وتنفيذ المهام والمسؤوليات وتوفير فرص الدعم المالي والتقني والفني واللوجستي، بحيث يصنع بمؤسساته وشركاته مسار عمل واضح في مشاركته في تحقيق التعليم المدمج، فهو مسؤول عبر شركات الاتصال وغيرها عن توفير جودة الشبكة الداعمة للتعلم في المدارس والجامعات في ظل الضغط للمتوقع عليها، وفي الوقت نفسه يعمل على تبني برامج ميسرة للتعليم المدمج، وعبر صناعة محتوى رقميا داعما لتعلم الطلبة، ناهيك عن مسؤوليته الفنية في عمليات التدريب والتثقيف وتقديم الفرص وفتح المجال للطلبة للمشاركة بأفكارهم وتجاربهم من خلال ما يقدمه من مسابقات تنافسية وعروض ترويجية ومبادرات جادة تتيح للطلبة التعمق بشكل أكبر في إعادة انتاج الواقع التعليم في إطار التعليم المدمج، بالإضافة إلى دعم الطلبة والمدارس بتوفير أجهزة الحاسب الآلي والايباد وغيرها من الأجهزة الداعمة للطلبة في انجاز مهامهم الدراسية.

أخيرًا تبقى قراءة مسار التعليم المدمج في عمان منطلق للتفكير خارج الصندوق ، فالمسألة ليست مجرد نمط تعليمي يدمج بين التعليم التقليدي والشبكي؛ بل تأصيل لمعادلة التوازن التي يجب أن يصنعها التعليم في حياة المجتمع، وتوجب عليه مسؤولية البحث عن كل الأطر والاستراتيجيات التي يطبقها العالم منذ عشرات السنين في حين ما زلنا اليوم نبحث عن مستوى نجاحها من عدمه، وهو معادلة تصنع من حضور القطاع الخاص في التعليم قيمة مضافة لتجاوز حالة التباين وفجوة الأداء وتجاوز النظرة الربحية التي تقرأ في القطاع الخاص التعليمي أنانية التفكير ومصلحة الذات، وتبقى التكاملية وتوحيد الجهود وتقاسم المسؤوليات ووضوح مشتركات العمل في ظل كفاءة التشريعات التي تحمي حق الطلبة والمعلمين والمدارس وحقوق المعرفة الأخرى، الرهان بتحولات قادمة يصنعها التعليم المدمج على الأرض .

Your Page Title