محمد بن علي الوهيبي- كاتب عماني
يُعد أدب الرحلات من أكثر فنون الأدب ثراءً وجمالا وهو الفن المفعم بالمتعة والإثارة يوثق فيه الرحّال مغامراته وانطباعاته من خلال ما يقوم به من رحلات إلى البلدان، ويتكلم عن الآثار التي تحتوي عليها، وما يشاهده من تصرفات الناس وعاداتهم وما هم عليه من سلوكيات، كما يأتي على ذكر الأحوال المعيشيّة والأنماط الاجتماعية والاقتصادية للبلدان التي يتم زيارتها.
ولعل أدب الرحلات هو أقدم ما كتبه الإنسان على وجه الأرض بغض النظر عن ما شاب بعضها من مبالغات وتضخيم ، وفي هذا الإطار يمكننا أن نذكر الأوديسة أو اُدوسـِّيا والإلياذة لليوناني هوميروس وهما أقدم عمل أدبي غربي ما يزال موجودا ليومنا هذا، ويُعتقد أنها كتبت قرب نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، تدور أحداث الإلياذة حول الحرب، أمَّا الأوديسة فتتحدث عن رجلٍ يحاول العودة لدياره، وفي طريق عودته يتحوَّل إلى رمز للروح البشرية في بحثِها عن معنى الحياة وعن كل ما هو جديد.
تصب مؤلفات ألف ليلة وليلة ورحلات السندباد والشهنامة وسفرنامة في الاتجاه نفسه.
كما أن هناك العديد من المؤلفات العربية القديمة التي تناولت أدب الرحلات، منها: كتاب رحلة ابن جبير لابن جبير الأندلسي، وكتاب عجائب البلدان لأبي دُلَف الينبوعي، وكتاب المعرب عن بعض عجائب المغرب لأبي حامد الغرناطي، وكتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني وخريدة العجائب وفريدة الغرائب لابن الوردي وتحفة النظّار وغرائب الأمصار وعجائب الأسفار لابن بطوطة ، وفيه يقول عن بلادنا عندما زارها في تلك الأزمنة “ركبت البحر إلى عُمان ثم وصلنا إلى مدينة (قلهات) فأتيناها ونحن في جهد عظيم. فلما وصلنا باب المدينة قال لنا الموكّل بالباب: لا بدّ لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيتك، ومن أين قدمت. فذهبت معه إليه، فرأيته فاضلا حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني، وأقمت عنده ستة أيام.
ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد. حيطانه بالقاشاني، وهو مرتفع، ينظر منه إلى البحر، والمرسى، وأكلت بهذه المدينة سمكا لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم، وكنت أفضّله على جميع اللحوم، فلا آكل سواه. وهم يشوونه على ورق الشجر، ويجعلونه على الأرز، ويأكلونه. والأرز يجلب إليهم من أرض الهند. وهم أهل تجارة… ” وكيف تبدو الآن مدينة قلهات من وصف ابن بطوطة ؟!!
ويُعد كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد الله البكري من أهم كتب أدب الرحلات، والذي أثراه بالقصص التاريخية وأشار فيه إلى الغرائب والعجائب رافضا منها ما يتعارض مع العقل.
ويُعد أنيس منصور في الزمن الحديث الأغزر إنتاجا بين الكُتّاب العرب في هذا المجال وله كتب عديدة منها : “حول العالم في 200 يوم، بلاد الله خلق الله، غريب في بلاد غريبة، اليمن ذلك المجهول، أنت في اليابان وبلاد أخرى، أطيب تحياتي من موسكو، الرصاص لا يقتل العصافير، أعجب الرحلات في التاريخ.”
ولا يفوتني هنا أن أسجل إعجابي بالبرنامج الأسبوعي “المسافر” الذي تبثه قناة الجزيرة ، وهو من أبرز البرامج المختصة بالسفر والترحال والمغامرة، حيث يطوف بك هذا البرنامج في مدن وبلدان العالم من خلال إلقاء الضوء على أهم المعالم والنشاطات السياحية المختلفة.
كما لا يفوتني كذلك الإشارة إلى مجلة العربي الكويتية التي مر على مسيرتها التنويرية أكثر من 60 عامًا، حيث تُخصص “العربي” عددا من صفحاتها لتتجول بالقارئ في مدن أو دول من شتى أصقاع الأرض عبر استطلاع مصور للتعّرف على ما فيها من معالم والحديث عن نشاطات سكانها فتنقل هذه الصفحات صخب تلك الأماكن وعنفوانها في النهار، وتجعلها تبدو في المساء كأنها تغتسل بالأضواء عبر ذلك الورق المصقول بالسحر والجمال .
ومن أشهر الرحالة الغربيين ماركو بولو، وكما تشير المصادر لم يكن ماركو بولو أول الأوروبيين الذين اكتشفوا الصين ومناطق آسيا، لكن قيمته الحقيقية في أنه أول من دوّن في كتابه الشهير “رحلات ماركو بولو” الكثير مما رآه خلال رحلته إلى الصين وشرق آسيا، وربما يُنظر إلى كونه أول من نقل ووضع للغرب وصفا دقيقا للشرق بكل عظمته وفكره وثقافته، كما يُذكر أن حكاياه ومشاهداته ألهمت عددا لا يحُصى من المغامرين الآخرين لينطلقوا ويشاهدوا العالم، وبعد قرنين من رحلات ماركو، وعلى هداه انطلق كريستوفر كولومبس عابرًا المحيط الأطلسي آملًا في العثور على طريق جديد إلى المشرق.
وللعُمانيين العديد من المؤلفات في أدب الرحلات منذ أقدم العصور والتي منها: رحلة السلطان برغش ” تنزيه الأبصار في رحلة سلطان زنجبار ” ورحلة السلطان خليفة بن حارب إلى أوروبا. وللأديب والشاعر محمد الحارثي مؤلفات رائعة وهي “محيط كتمندو” و “عين وجناح” ، وهناك مخطوط شبه مكتمل عن زيارته الأخيرة إلى سريلانكا.
كما قرأت مؤخرًا ليونس بن سعيد العنقودي كتاب” زنجبار أرخبيل القرنفل المنسي” الذي يجعلك تُسارع الخطى لحجز تذكرة في أقرب رحلة لزيارة تلك الجزر الطافحة بالسحر والجمال، وللتعرف على التاريخ الخالد للعُمانيين وآثارهم في تلك البلاد.
وربما يكون كتاب بدر بن ناصر الوهيبي “تذاكر سفر” الذي صدر عن دار الانتشار العربي ببيروت، آخر الإصدارات العمانية في أدب الرحلات حيث لقي هذا الكتاب إقبالا ورواجا من قبل القُراء والمهتمين حيث وثق فيه الكاتب رحلاته وأسفاره المختلفة وفيه يكتب بدر:
” لم أكن لأتخيل يومًا – عندما كنت طفلًا- أن يأتي يوم وأحلق في طائرة مثل التي كنت أراها بشكل شبه يومي في سماء قريتي الوادعة على سفح وادي مجلاص بحاجر ولاية قريات ، لعلني كنت أبالغ في نظرتي تلك حتى أتى ذلك اليوم وقد سلمني أخي الأكبر” تذاكر سفر ” سوف تتيح لي، لأول مرة في حياتي، ركوب الطائرة. “
وعبر صفحات هذا الكتاب نقل بدر الوهيبي للقارئ تجاربه ومشاهداته عن أسفاره في 40 بلدا.
وأختم ترحالي في هذه المساحة مع كتاب نيكوس كازانتزاكيس “رحلة إلى الأراضي الفلسطينية” بين عامي (1926- 1927م) ونيكوس هو الروائي الذي كتب تقريرًا إلى” غريكو، وزوربا اليوناني ..إلخ”
في هذا الكتاب قال نيكوس عن مدينة أريحا:
“فجأة ترى أريحا تبتسم كواحةٍ، تجد نفسَك أمامَ بساتين الرمان المُزهرة، وأشجار الموز، والتين والتوت، محاطة بسياجٍ من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، وينابيع الماء المتفجرة، فترتاحُ عينُك، ويشعرُ جسمُك بالراحة”
وقال عن اليهود في القدس:
“إنهم يسألون الرُّسُل، يصرخون، رهنوا دموعهم وحبَّهم عند الله، وكأنه هو المدين لهم، يُلحون عليه بالطلب، عند حائط المبكى، كي يُعيد لهم دينَهم.
كانوا يتصورون أن المعبد قد أُعيد بناؤه، وأن صهيون قد نهض، وأن الماشيح قد دخل مرة أخرى من باب داود على حماره الأبيض”.
“قال صديقي العبري المُلحد:
يعتقدون أن صرخاتهم، التي يُطلقونها في الهواء ستُعيد بناء الهيكل، في حين أن الثروة والمال هما وحدهما القادران على صياغة الجنس البشري، وبناء القدس الجديدة”
وحيّر نيكوس الكثيرين عندما أورد في كتابه الفلسفي “رحلة إلى الأراضي الفلسطينية” هذه الكلمات
“آمل – لأنني أحبّ اليهود – أن يتمكن العرب، عاجلا أم آجلا من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”