د. رجب بن علي العويسي
أسهمت الحالة الاقتصادية للسلطنة الناتجة عن جائحة كورونا (كوفيد19) وما ارتبط بالأسعار القياسية للنفط في الأشهر الماضية، والتراكمات المالية والإدارية والتنظيمية الأخرى التي أدت إلى زيادة العجز المالي للموازنة العامة للدولة، وارتفاع معدلات الدين العام؛ في تبني العديد من السياسات والإجراءات الاقتصادية الضبطية للموارد وتقنين الانفاق، ورفع مستوى الجاهزية الاقتصادية في مواجهة هذه الظروف، واتجهت رؤية العمل الوطني في الحد من تأثير هذه العوامل على الاستدامة الاقتصادية للسلطنة إلى تعزيز اقتصاد الأزمات، وتجفيف منافذ الهدر المالي من خلال جملة المنشورات المالية منذ عام 2020، وتوجيه الموارد المالية الوطنية التوجيه الأمثل، بما يضمن خفض المديونية، وزيادة الدخل، وانتهاج إدارة مالية كفؤة وفاعلة، تضع تحقيق التوازن المالي، وتعزيز التنويع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني في أعلى سُلّم أولوياتها، وتطوير الأنظمة والقوانين ذات الصلة.
ونظرا لكون التعليم بوابة المستقبل، والطريق لنهضة الوعي بهذه التحولات الاقتصادية، ومن يصنع فقه الأجيال ويبني فكرهم ويؤسس اتجاهاتهم ويعزز قدراتهم ويرسم ملامح القوة في إنتاجيتهم، ويؤّطر مكامن التحول الذاتي في دواخلهم لقيادة برامج التنمية والتطوير، وتعزيز حضور الشباب في ميدان العمل والمنافسة وخلق الحافز الوطني لديهم، وتوفير الممكنات المهارية الداعمة لبناء الإنسان القادر على التعاطي مع متطلبات هذه الرؤية وتجسيدها في واقع العمل؛ لذلك تقع عليه مسؤولية التعاطي مع السياسات والإجراءات الاقتصادية وفق إستراتيجيات واضحة وأدوات مقننة وآليات عمل مجربة، تتكاتف جهود مؤسسات التعليم في رسم معالمها وتنفيذ أجندتها من خلال جملة من المرتكزات، من بينها:
▪ تعزيز التنويع في المسارات التعليمية وعبر منح مساحة أكبر للتعليم المهني والتقني والفني، بحيث يوجه الطلبة له في بعد الصف التاسع؛ لضمان توجيه خيارات الطلبة بما يتناغم مع قدراتهم واستعداداتهم، ويتيح لمخرجات الدبلوم العام فرصًا أكبر للالتحاق بالمؤسسات المهنية والشركات وتنشيط حركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالكفاءة العمانية، فإن من شأن ذلك أن يقلل من أعداد المنتظرين الباحثين عن عمل من مخرجات الدبلوم العام، ويرفد القطاع الخاص بالكفاءات الوطنية المدربة عالية المهارة، ومع التأكيد على أهمية هذا التوجه فإنه بحاجة إلى التشريعات والقوانين التصحيحية والضابطة له، والمراجعة لأدوات وأليات العمل الحالية والمساقات التدريسية والتدريبية والمهنية التي تقدم للطلبة في الأكاديميات المهنية ومراكز التدريب والتأهيل الحكومية والخاصة وإدماجها وفق مسارات تعليمية واضحة، ومرجعية مهنية وتعليمية أكثر تقنينا، بالإضافة إلى تعزيز مسار التدريب أثناء العمل بما يتيح للطلبة مواصلة برنامج تعلمهم في مستويات تعليمية أعلى.
▪ تأكيد حضور المفاهيم الاقتصادية والتجارية في المناهج التعليمية سواء بإفراد مناهج متخصصة لها أو عبر تضمينها في المناهج الدراسية ذات الصلة، سواء ما يتعلق بالثقافة الشرائية والادخار وثقافة الاستهلاك الرشيد، وسلوك الاستنزاف السلبي، والتثمير في الموارد، وخطة إعادة هندسة السلوك الاستهلاكي اليومي للأسرة، وكيفية التعامل مع الضغوطات الاقتصادية، وبناء ثقافة الأسرة الاقتصادية، وتعزيز مبدأ الأولويات في الإنفاق، وطرق المحافظة على المال العام، وحسن استخدام مستلزمات الحياة الأسرية، والترشيد في استهلاك الكهرباء والمياه واستخدامات الهاتف، أو غيرها من الخدمات اليومية.
▪ تعزيز حضور المهارات في مناهج التعليم وبرامجه ومنحها مساحة أكبر في مساقاته، خاصة ما يتعلق منها بمهارات الحياة الأساسية، والمهارات الناعمة التي تستهدف تكييف المتعلم للتعاطي مع المهام والمسؤوليات بعد تخرجه والتحاقه بسوق العمل بكل أريحية، مع إعطاء المهارات المهنية والتخصصية أهميتها في تعلم الطلبة، نظرا لأن حاجة القطاع الخاص وسوق العمل إلى المهارات العملية والتشغيلية والمهنية يفوق حاجته إلى المؤهلات العلمية العليا، والمعارف والمعلومات التي يمكن اكتسابها من واقع الخبرة والتجربة وميدان الممارسة.
▪ تنشيط دور مراكز الاستكشاف العلمي والمختبرات العلمية والورش المهنية بالمدارس والمعاهد والكليات المهنية؛ بالإضافة إلى مراكز البحث العلمي والكراسي العلمية في الجامعات بالشكل الذي يضمن قدرتها على إنتاج الحلول وابتكار البدائل الداعمة لهذا التوجه، وتعزيز مبادرات الطلبة ومشروعاتهم الإنتاجية وابتكاراتهم، بالشكل الذي يضمن اتساع نشاط الشركات الطلابية القادة على رسم ملامح التحول الاقتصادي وتوفير التشريعات والحوافز المعززة لحماية الملكيات الفكرية وبراءات الاختراع.
▪ إعادة إنتاج ماده المهارات الحياتية بالمدارس، وتحويلها من كونها مفاهيم ومصطلحات ومعلومات نظرية عامة للطلبة؛ إلى برامج عمل وأنشطة تعليمية وتجريبية في المجالات التجارية والصناعية والمهنية والفنية والتقنية ذات العلاقة بطبيعة الجنسين من الطلبة، وإيجاد بيئات تشغيلية وورش معملية لها في واقع البرنامج المدرسي، مع التركيز على المهارات التي لها علاقة بمستجدات الحياة وظروفها اليومية، وما أفصحت عنه جائحة كورونا (كوفيد19) من افتقار الطلبة إلى جملة من المهارات الحياتية للعيش في الظروف الصعبة.
▪ ردم الفجوة الحاصلة بين الجامعات والمدارس، ذلك أن الوصول إلى منتج تعليمي كفؤ، ومنجز يتناغم مع متطلبات المرحلة، ويحقق الاستدامة الاقتصادية، يتطلب تعزيز الشراكة الفعلية والتوأمة العملية بين المدارس والجامعات لضمان توظيف الخبرات والتجارب، وتمكين نهوض الفرص ونمو الموارد، فتمتلك الجامعات مهارات الواقع العملي، وتستفيد المدارس من النظريات الاقتصادية والاجتماعية ذات العلاقة في تحقيق جودة الممارسة، وتقليل الفجوة والتغيير المتسارع في المنجز التعليمي كونه يفتقر للثبات في النظريات العلمية المجربة والمطبقة عالميا.
أخيرا تبقى كفاءة هذا الدور للتعليم مرهونة بوجود شراكة فعلية، وإطار عمل وطني يضبط المسار التعليمي ويوجه بوصلته، وتعزيز حضوره في السياسات الاقتصادية؛ إما في كونه داعما لها عبر الممكنات التي يؤسسها في فقه المتعلم وفكره وقناعاته ومهاراته ووعيه، أو عبر تهيئة البيئة التعليمية النموذجية المعززة للابتكار والريادة والبحث العلمي وإدارة المواهب ونموها في العمليات التعليمية الداخلية، أو من خلال محصلة هذا الجهد والذي يظهر في قدرة التعليم على إنتاج الحلول والبدائل الاقتصادية لمساعدة المواطن في الحد من أثر هذه السياسات والإجراءات الاقتصادية على حياته اليومية بما تغرسه فيه من قيم المسؤولية والعمل، وتؤصل فيه من ثقافة الشراء والاستهلاك الرشيد، والأخذ بالأولويات والتثمير في الموارد، وتوظيف الخبرات الذاتية المكتسبة في تحقيق التحول في سلوك المواطن الاستهلاكي.