د. رجب بن علي العويسي
أثار قرار وزارة التربية والتعليم بشأن زيادة أنصبة المعلمين التدريسية ردود فعل غير سارة من قبل التربويين والمهتمين بالشأن التعليمي عامة ومن المعلمين بشكل خاص، في إشارة إلى دعوة الوزارة نحو مراجعة سياستها بشأن المعلم والمحافظة على المكاسب التي تحققت في هذا المجال في العقدين الماضيين منذ بدء تطبيق نظام التعليم الأساسي، والخطة الدراسية للصفين 11، 12 من التعليم ما بعد الأساسي، والتي أسهمت في تقنين وضبط المسار الأدائي للمعلم، وخفض أنصبة المعلمين، الأمر الذي كان له أثره الإيجابي على جودة أداء المعلم، يظهر ذلك في حالة التناغم والتكامل التي بات يعيشها المعلم مع مستجدات التطوير التربوي ووقوفه معه، وبروز دور المعلم في الاحتواء التعليمي على الرغم من التحديات التي كانت تواجهها المدارس، للقناعة بأنه كلما منح المعلم مزيد من المرونة في نصابه وعدد الحصص، وأعطي مساحة أكبر من التمكين؛ كلما استطاع أن يحقق نتائج أوفر مع طلبته، والمنهج الذي يقوم بتدريسه وأنشطة الطلبة، والوقت الذي يمنحه لهم خارج الحصة الدراسية، كما أن ضبط العبء التدريسي وتقنينه، يقلل من الفاقد التعليمي والهدر الناتج عن حالة التشتت الفكري التي يعيشها المعلم، ما يدفع به للمزيد من المشاركات والتحسين المستمر لأدائه، واستفادته من برامج الانماء المهني، وإعادة تقييم مساره التعليمي، والاستفادة من توجيهات المشرف وإدارة المدرسة، لذلك يدعو المهتمين بالشأن التربوي إلى أهمية تقنين وضبط وتوجيه العبء التدريسي للمعلم، وعدم انحرافه عن مسار العمل، وتنشيط الجوانب الاجتماعية والإنسانية والنفسية في عمل المعلم.
لقد حظيت منظومة أداء المعلم بالعديد من المكاسب في العقدين الماضيين، والتي جاءت بناء على تقارير الزيارات الميدانية والاستقرائية، ومؤشرات الأداء التعليمي للمدارس، وتوصيات نتاج الدراسات التقييمية التي نفذتها الوزارة وكلفت بيوت خبرة دولية في دراستها، والتي أعطت جزءا من اهتمامها للمعلم، ومنها التقرير الختامي حول تقويم الحلقة الأولى لنظام التعليم الأساسي والمنفذ من مؤسسة كنكدوم العالمية بكندا عام 2004م وخرجت بجملة من التوصيات التي جسدتها الوزارة في الخطة الدراسية للصفين 11، 12، واستفادت منها كموجهات لعملها نحو المعلم، بالإضافة إلى تقييم النظام التعليمي (الصفوف 1-12) الذي أعده اتحاد المنظمات التربوية النيوزلنديه عام 2014 م.. حيث وضع التقرير المعلم أهم مدخلات تقييم النظام التعليمي، وخرج بجملة من التوصيات من بينها، الحاجة إلى رفع مستوى القدرات المهنية للعاملين بالتدريس؛ ووجود اختلاف كبير في عبء العمل بين المعلمين (نصاب المعلم)، كما جاءت الدراسة المشتركة بين وزارة التربية والتعليم والبنك الدولي “التعليم في سلطنة عمان، عام 2012م لتقدم فصلا كاملا عن المعلم، تناولت فيه العديد من القضايا المتعلقة بنظم الإعداد وساعات التدريس وغيرها من الجوانب ذات العلاقة بعمل المعلم، وأبرزت نتائجها وجود تحول إيجابي لصالح جودة التعليم حيث يتمتع المعلمون في سلطنة عمان بنصاب قليل من الحصص يتوافق مع المعايير الدولية، وتتفق الدراسات المشار إليها سلفا بأن المعلم العماني، معلم شاب وطموح، يؤمن بالشغف والإنجاز، والمبادرة والعطاء، وحس المهنة، ويمتلك من المهارات والقدرات ما يساعده في تحقيق مهمته، وأن على وزارة التربية والتعليم أن تتخذ بدورها الإجراءات العملية التي تتيح للمعلم هذه المساحة من الإنجاز والفرص في إثبات ذاته وتحقيق تحول في مسيرة أدائه، ومع ذلك لم تكتف الوزارة في رسم معالم الطريق وتحديد بوصلة الهدف بما أشرنا إليه، بل عملت على دراسة مسألة العبء التدريسي على المعلم والنصاب التدريسي له، وعلاقته بالوقت الذي يمنحه المعلم لطلابه، من خلال تحليلات واقعية لنتائج الطلبة في اختبارات الدراسات الدولية “TIMSS – PIRLS”، للقناعة بأن مسؤولية المعلم أصبحت حاضرة في هذا الجانب.
من هنا عملت الوزارة في ظل خطتها التطويرية لتجويد التعليم نحو تبني بعض المبادرات التوعية التي سعت إلى تعزيز جودة التعليم وكفاءة المعلم ومن بينها، إلحاق المعلمين من حملة الدبلوم المتوسط للحصول على الدرجة الجامعية أثناء الخدمة، وإلحاق معلمي اللغة الإنجليزية ببرنامج جامعة “ليدز”، بالإضافة إلى إيجاد متنفسات تدريبية تستوعب المعلمين، فكريا في إصدارات الوزارة المتعددة حينها، أو ترفيهيا وتنافسيا فكان المهرجان الصيفي للمعلمين بمحافظة ظفار، ومسابقة المعلمين والتربويين العمانيين، والملتقيات السنوية للمعلمين، ومهنيا من حيث مراجعة أنصبة المعلمين في مراحل التعليم الأساسي وما بعد الأساسي، وتعزيز الكادر التعليمي بوظائف أخرى مساندة للمعلم، وإعادة تقييم أداء المعلم وفق معايير ومؤشرات عمل تضمن تحقق المنافسة والوصول إلى جودة وكفاءة الأداء، ثم جائزة الإجادة التعليمية للمعلمين في ظل ما سعت إليه من إذكاء روح المنافسة بين المعلمين في تقديم المبادرات وتوفير الإستراتيجيات وصناعة المعلم النموذج، وصولا إلى الطموح نحو تجسيد ذلك كله عمليا في منظومة تشريعية وطنية متكاملة ومن خلال “قانون التعليم” الذي وضعت الوزارة فيه الكثير من الآمال والطموحات لبناء نظام تعليمي عالي الجودة وتكوين معلم عماني كفؤ؛ فكان هذا التوجه نتاج عمل مضنٍ، وجهد مثرٍ شارك المعلمون في صياغة أبجدياته، وإدارة محاوره، وتقنين مساراته، وضبط انحرافاته.
ومع القناعة أيضا بأن جائحة كورونا (كوفيد19) وانقطاع الطلبة عن الدراسة لمدة عام ونصف العام، والأزمة المالية التي حدّت من تعيين المعلمين، ونظام التقاعد الإجباري، ثم تقاعدات المعلمين الاختيارية، وزيادة أعداد الطلبة والشعب في الصفوف (1-12)، وتعدد المناهج، وغيرها كثير؛ أعطى الوزارة مبررات في إعادة النظر في أنصبة المعلمين، إلا أن ذلك يجب أن يكون في إطار عمل واضح وخطة زمنية محددة، بحيث يتضح للجميع ما إذا كان توجه الوزارة نحو رفع أنصبة المعلمين حالة مستديمة لفرض سياسة الأمر الواقع، أم ظرف استثنائي مؤقت مرتبط بالمعطيات التي أشرنا إلى بعضها، وتتزامن مع خطة التوازن المالي، مع إمكانية مراجعة التوجه بعد تحسن الوضع المالي، وجاهزية التعليم نحو توفير البدائل الأخرى المساندة للمعلم في هذا الشأن، هذا الأمر من شأنه أن يقلل حالة الاحتقان، ويزيل الهواجس، ويضمن تفاعل المعلمين وإدارات المدارس إيجابًا مع هذا الوضع، باعتبارها مرحلة تستدعي تكاتف الجهود والوقوف على الحدث، واستشعار عظمة الموقف، مع استمرار جهود الوزارة وعبر تنشيط حركة التواصل والتفاعل مع المدارس في اقتراح البدائل والحلول المناسبة التي تُبقي على استحقاقات المعلم قائمة، فإن إعادة النظر في نصاب المعلم والعبء التدريسي يجب أن يتم بنفس الطريقة التي تم خلالها إقرار هذه الحزم واستطاعت خلالها المنظومة التعليمية أن تتبوأ موقعا متقدما في منظور الخبراء الدوليين.
أخيرا يمثل طرحنا للتساؤل، دعوة إلى المحافظة على المكاسب التي تحققت للمعلم العماني، وليكن المبدأ الذي تعتمد عليه أي توجهات فيما يتعلق بنصاب المعلم “أن لا مساس”؛ إن تحقيق ذلك مرهون بحجم ما يمنح للمدارس والمعلمين من فرص إنتاج البدائل والحلول المناسبة لتقليل الفاقد التعليمي الناتج من نقص الكادر التعليمي في المدارس.