د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
مجلس الدولة
إنني متفائل بأن القادم أفضل، وأن فرصة التعليم اليوم للدخول من أوسع بوابات المستقبل، وكسب الرهان المجتمعي، واستلهام المعاني العميقة التي تتطلبها المرحلة، باتت أقرب من أي وقت مضى، مستفيدا من الخيوط المتقاطعة والثغرات الواسعة التي أفصحت عنها جائحة كورونا ( كوفيد19)، والتي بدورها أحرجت مؤسسات التعليم الوطنية من مدارس وجامعات ومراكز بحوث ومراكز للابتكار، وبدل أن تشكل نقطة تحول وتأمل وأمل لالتقاط الأنفاس والتفكير خارج الصندوق، أسدلت الستار على الكثير من الأنشطة والبرامج، وأغلقت ملفات العديد من المبادرات والتوجهات، وقضت على فرص الآمال بإحداث تحولات في منظومة التعليم، لتتجه إلى إغلاق أبوابها عن طلبة العلم، والباحثين واهل الاختصاص والمبتكرين، رافق ذلك تدني في مستوى تفعيل مراكزها البحثية والعلمية، نظرا لمحدودية الدعم المالي المقدم لها، واختزالها من الموازنات العامة للمؤسسة الأم.
ولعل الصورة التفاؤلية التي أرجو أن تلازمني في هذا الشأن، ناتجة من قناعتي بما يحمله إنسان هذا الوطن وأبناؤه الأوفياء طلبة العلم وسند التعليم من روح التغيير سواء منه الكادر التعليمي نفسه، أو الطلبة وتشوقهم لمرحلة جديدة من الأداء التعليمي الذي تتجاوز فيه المنظومة شكليات الأداء، وتتجه فيه إلى العمق والمهنية والبحث في القدرات العليا، وإنتاج القدرات، وصناعة القدوات، وتنشيط حركة البحث العلمي والابتكار والاختراع والريادة، وإنتاج الحلول للكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والتعليمية في واقعنا العماني، وتحديات التوظيف والتشغيل، والتسريح، وسوق العمل، والثقة في الكفاءة العمانية، وغيرها التي هي في الأساس تعبير عن تراجع في الأداء التعليمي عالي الجودة، وقدرة مخرجات التعليم على كسب ثقة رجال الأعمال والشركات، وباتت في الوقت نفسه بحاجة إلى أن يعيد التعليم إنتاجها من جديد، بما يتناغم مع معطيات التحول القادم والطموح المجتمعي منه، وبالتالي نقل الحالة التعليمية من الاستهلاكية إلى الإنتاجية، ومن لعب دور ضحية الظروف إلى المؤثر في السياسات، ومفجر الطاقات، ومنتج الفرص، وصانع الوظائف، ومن المتلقي للمعونة المالية إلى المنتج لها والمستثمر في الموارد الوطنية، وإعادة تحسين وهيبة صورة التعليم المؤثر والفاعل في السياسات التنموية، بما يمثله من امتلاكه زمام المبادرة بالتغيير والتصحيح والتقييم والمراجعة، ذلك أن قدرة المجتمع على صناعة الفارق في أداء مواطنيه، ومجتمعه الوظيفي، وتكوين القيادات الملهمة التي تحمل بجدارة دافع التطوير والتحسين، وإعادة هندسة العمليات بالمؤسسات وقيادتها، إنما يعتمد على حجم ما يؤسسه التعليم في الكفاءة الوطنية من قيم، ومبادئ، وأخلاقيات، ومهارات واستعدادات، وفرص وينتجه فيها من روح التغيير وثقافة التجديد وحس المسؤولية ورغبة التحول.

ولأن الرياح تجري بما لم تشتهِ السفن، فقد كانت التوقعات تتجه إلى أن يكون العام الدراسي الجديد مرحلة لالتقاط الأنفاس في الانطلاقة من المدارس، والتوجه نحو اللامركزية في التعليم، أو على ألأقل تعزيز منظومة الصلاحيات والحوافز والتمكين لإدارات المدارس والمعلم والطالب ، في سبيل خلق منظور تعليمي يتناغم مع قدراته ويستجيب لاستعداداته، الأمر الذي ينسحب أيضا على الكليات والجامعات، كما أن التوقعات أن منظومة التعليم استطاعت أن تشخص الخلل الحاصل في الأداء، والثغرات المرتبطة بالمنهج، وأساليب التدريس، وأداء المعلم ، ودور الإدارة والشركات مع المجتمع وأولياء المور ، أو في الاستثمار في الموارد، وتعزيز قدرة المدارس على إدارة مواردها، ومنحها صلاحيات أكثر في توظيف مواردها البشرية لصناعة منجز تفخر بها مؤسسات التعليم، وأن يتجه العمل إلى مراجعة التشريعات والقوانين والأنظمة لتحقيق جودة الحياة التعليمية ، وضبط السلوك العام، وتوجيه الصلاحيات والحوافز والتمكين بصورة أكثر إجرائية ترتبط بالمهام الوظيفية ووصف الوظائف التعليمية وتقييم الأداء، والتأثير الذي تحدثه في واقعها الاجتماعي، وحركة التحول التي تصنعها في المسؤولية الاجتماعية، ومع ذلك فمن المؤسف حقا أن تفصح المؤشرات الأولية التي بدأت بها منظومة التعليم عن تدني وجود رغبة جادة مخلصة نحو التغيير الصحيح، إذ ما زالت البدائل المطروحة والخيارات المحددة غير قادرة على سبر أعماق الواقع وهي حلول ترقيعيه غير منتجة، وما زالت المعالجة الحاصلة تركز على ما هو موجود فعلا، فتعمل على الاقتصاص منه واختزاله، واضعه في قناعاتها أن المشكلة تكمن في مساحة المرونة التي منحت للكادر التعليمي مثلا، والفرص التي تحققت له مثل، الأنصبة، والتدريب والتأهيل، لذلك حان الوقت لاقتلاعها.
أخيرا يبقى هذا الطموح بتحولات جذرية في مسيرة التعليم عامة المدرسي منه والأكاديمي، في انتظار ما تسفر عنه الفترة القادمة من مراجعات للمسار التعليمي، ومعالجات تأخذ في الاعتبار محطات القوة والتميز أو حالة الإخفاق والفشل التي رافقت التعليم في تعاطيه مع الجائحة، وأعتقد جازما بأننا بحاجة إلى التفكير الجمعي، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وصناع القرار المهرة، والاحتفاظ بالعقل الاستراتيجي، والشراكة الفعلية والاحتواء، وخلق منصات اكبر للحوار في صياغة القرار التعليمي، لبناء أدوات العمل، وتقريب صورة الغايات والأهداف التي تسعى إليها مؤسسات التعليم، وبين ما يفكر فيه الطالب الذي سيواجه مصيره القادم، ليقف في طابور الخريجين، باحثا عن عمل، منتظرا دوره لسنوات عدة، وقد يتخرج ولا يمتلك صنعة أو حرفة أو مشروعا يبني به ذاته، أو يمارس خلاله هواياته، لذلك تأتي أهمية استشعار هذا البعد، وخلق هذا التناغم ممزوجا بالممكنات الذاتية، مراعيا الفروق الفردية وتكافؤ الفرص ، وتحقيق مفهوم العدالة التعليمية التي تأخذ بيد الجميع، لتضع كل فرد في المسار الذي يطمح إليه، ويتناغم مع رغباته، ويستطيع من خلاله أن يصنع الاعجاز الذي طالما حلم به واستثمر وقته وجهده من اجله.