د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
من منطلق ما تعيشه بيئات التعليم من تفاعلات عميقة في تفاصيلها، دقيقة في معانيها، أو يتعرض له الطلبة من حوادث متنوعة مؤلمة، نتاج لما يتسم به مجتمع الطلبة من تنوع في مستويات التفكير، والقدرات، والاستعدادات، والاهتمامات ، والمدركات الحسية والمعنوية، وما يعنيه ذلك من توقعات بوجود توافق وانسجام وتكامل في المسارات، ينتج عنه رصيد فكري وخبراتي وتجارب ومواقف متنوعة، تصنع الفرص وتبني الإنجاز، أو قد تتجه إلى تباينات، واختلافات، وصراعات، وأنماط ومنافسة غير متكافئة، لتجد الظواهر السلبية في مجتمع التعليم كالتنمر والانطوائية، والاعتداء، أو استخدام أدوات التأنيب والعقاب التقليدية، وسرقة أدوات الطلبة، أو ما تؤديه حالة القلق والانطواء والخوف التي يعيشها بعض الطلبة في حياتهم الأسرية الناتجة عن عدم الاستقرار العاطفي ، والخلافات العائلية، وضعف الحوار الأسري، والطلاق، أو ما يثار حول بعض حالات التحرش الجنسي الذي يتعرض له الأطفال من الأصدقاء الكبار أو الشللية خارج نطاق المدرسة ، يضاف إلى ذلك تعدد حوادث الحافلات المدرسية، وحالات الدهس ونسيان الأطفال في الحافلات وغيرها كثير مما يؤسس لعمل وطني لا يقبل الانتظار وعبر إيجاد إطار تشريعي “قانون ” لجودة الحياة في المؤسسات التعليمية، يعمل على ضبط تأثير العوامل الخارجية والداخلية والمفتعلة والمستجدة والحوادث أو المشكلات الناتجة عنها على حياة الطلبة العلمية ومستوياتهم الدراسية ويضمن في الوقت نفسه الثبات في إجراءات العمل المتخذة بما يتناسب وخصوصية مؤسسات التعليم وحقوقها وحقوق الكادر التعليمي والإداري والفني في المدارس والجامعات والكليات ورياض الأطفال والحضانات وغيرها.
إن من شأن وجود قانون لقياس جودة الحياة في المؤسسات التعليمية، تعزيز مفهوم التقييم المستمر والرصد الفوري لمواقف الحياة اليومية وحركة التفاعلات الحاصلة ، وأفضل الممارسات التعليمية التي يمكن أن تصبح نموذجا تعليميا رائدا في بيئة التعليم القادمة، بحيث تتجه الممارسة التعليمية فيها إلى تأطير البعد التشريعي وتحديد أبعاده الإدارية والتنظيمية والتعليمية والفنية النافذة، عبر وضع القواعد القانونية والنصوص والبني التشريعية التي تعالج قضايا التعلم والعمليات الإدارية والتنظيمية والفنية والتدريسية والسلوك الطلابي والعلاقات والتفاعلات، والمهام والاختصاصات، في ظل الخصوصية التي يحتكم إليها، وطبيعة الدور الذي يؤديه، إذ إن من شأن ذلك أن يوجه بوصلة السلوك التعليمي، ويحفظ مؤسسات التعليم والتعلم وقواعد العمل فيها، ومستوى التفاعلات بين منتسبيها من أي انحرافات قد تتجافى مع خصوصية التعليم وحساسيته؛ وبما يضمن وقاية مؤسساته من أن تدنسها أيادي العبث أو الإشاعة أو تقلل من دورها وكفاءتها العلمية، الأحكام العشوائية والأفكار السطحية، فالقانون بذلك إطار عمل لبيئة تعليم وتعلم تنمو فيها فرص الامن والأمان، والتعايش والسلام، والحقوق والمسؤوليات، وتتفوق فيها لغة الأخلاق ومعايير الاحترام والذوق العام، وتسمو فيها الأفكار الرصينة، وتؤسس فيها فرص النجاح والتميز، وهي بما تحتويه من قواعد للعمل، ونصوص تشريعية، وجزاءات وعقوبات، وآليات تنفيذ ومتابعة وتصحيح، ضامن أساسي لتلمس الكفاءة في الممارسة التعليمية، والحفاظ على المكانة العلمية والتعليمية والاجتماعية للمدارس والجامعات وغيرها من مؤسسات التعليم الأخرى؛ وحماية الطلبة من أي ممارسات تقف ضد تعلمهم النشط، أو تقلل من حماسهم ودافعيتهم نحوه، أو كفاءة الأداء التعليمي المقدم لهم، وقياس تأثير الخطط الدراسية، والقرارات التعليمية، والمشروعات والبرامج ، والسياسات المتخذة على حياة المتعلم وانعكاساتها على مستوى تعاطيه مع فرص التجديد التعليمي ، بما يضمن تعظيم الاستفادة من الفرص والتفاصيل الدقيقة في بيئة التعليم وتوجيهها التوجيه الأمثل لخدمة الطلبة وجودة الأداء.
ومعنى ذلك أن قانون جودة الحياة التعليمية ليس بديلا لقانون التعليم أو قانون المهن التعليمية الذي يحدد الوصف الوظيفي، وواجبات وحقوق الكادر التعليمي والإداري والفئات المساندة، في حين يتعامل قانون جودة الحياة مع تفاصيل السلوك التعليمي وقواعد العمل وأبجدياته ونمط الممارسة واتجاهاتها، وثقافة بيئة التعليم والتعلم في الصف الدراسي أو قاعات التدريس، وأثرها على أداء الطلبة واستيعاب المناهج، واحترام النوع الاجتماعي في بيئة عمل مشتركة، يسعى فيها الجميع لتحقيق أهداف التعلم مع المحافظة على أصول وقواعد العمل واحترام الذات، لتجسد مبادئ الاحتواء والاحترام، والتقدير في كل تفاصيلها الداخلية ، ليتسع مسار جودة الحياة في بيئة التعليم ومؤسساته من تأمين معايير الأمن والسلامة، وتوفير مستلزمات التعليم والتعلم، وحصول الطلبة على حقوقهم في تعلم عالي الجودة يقوم على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتعظيم فرص الاهتمام بالقدرات الذاتية؛ إلى ضمان احتواء أفكار الطلبة وقناعاتهم والمحافظة على خصوصياتهم من أن تنالها أيادي العبث والتشويه، أو تصادرها الأفكار وحركات التأثير، وترسيخ معايير الانتقاء والاختيار الواعي لديهم لتتكون لديهم منهجية واضحة في البحث والتقييم والمراجعة والاستقراء، وفي الوقت نفسه توليد الممكنات النفسية والفكرية والعلمية والقانونية في مواجهة حالة الاستغلال السلبي أو الاشاعة والأفكار المعلبة أو غيرها من الممارسات التي تنشأ في بيئة التعليم نتيجة خلل الرقابة والمتابعة، وضعف منتج التشريعات، ومزاجية التعامل وانعدام فرص الحوار والتفاعل واختفاء الراي الآخر ووجهات النظر وغيرها.
أخيرا فإن معطيات الواقع التعليمي، والإرهاصات التي باتت تحملها الحوادث التعليمية غير المسؤولة وتأثيراتها على جودة الحياة في بيئة التعليم، وما ولدته الحوادث المتكررة للحافلات المدرسية وغيرها من هاجس الخوف والقلق الذي بات يعايش أولياء الأمور والطلبة في ظل اتساع وانتشار الحوادث المدرسية المتعددة الخارجية منها والداخلية، المعقدة منها والبسيطة ، وحالة الاجتهاد التي باتت تعيشها هذه القضايا أو البطء في إيجاد حلول لها تتناغم مع بيئة التعليم وتجسد خصوصية التعليم، كما تحفظ حق الكادر التعليمي والطلبة وغيرهم ممن لهم علاقة عمل معتبرة مع التعليم وبيئات التعلم، والتعاطي السلبي للشارع الاجتماعي مع هذه الحوادث والتفسيرات المتباينة، وردود الفعل المتغايرة لها أحيانا، أو ما يثار عبر المنصات التواصلية حول التحرش الجنسي للطلبة وغيرها من القضايا المؤلمة، يفرض اليوم تأكيد ضرورة الإسراع في إيجاد قانون جودة الحياة التعليمية بما يوفره من مساحة أمان، وفرص العلاج المناسبة ( الجزاءات والعقوبات النافذة) للحد من انتشار هذه الحوادث، وتقنين الممارسة التعليمية وضبطها وإعادة توجيهها بما يحقق جودة الحياة في البيئة التعليمية، ومن جهة أخرى يصنع من تعدد المواقف الناتجة من التفاعلات اليومية والحوادث الناتجة عن التنمر والاعتداء بين الطلبة وغيرهم رصيدا ثريا لإدارة السلوك الطلابي وتقييم حركة التفاعلات في مجتمع التعليم واتجاهاتها واستنتاج القيم والأخلاقيات، وتفعيل أدوات الضبط الاجتماعي ودور مجالس الآباء والأمهات في بيئات التعليم، وبالتالي مستوى الثبات في الإجراءات، مع ما يحصل من ممارسات خارج العرف التعليمي وداخل مؤسساته، وعبر جملة الموجهات والضوابط والعقوبات والجزاءات التي يجب أن تسري قواعدها في بيئات التعليم، ويتعامل معها الجميع بروح المسؤولية.