أثير- مكتب أثير بتونس
حاوره : محمد الهادي الجزيري
فتى من أجمل ما أثمرت بلادي..، سافر بعيدا نحو أرض اللُبان ..ليعلّم أبناء ذاك البلد الطيّب فنون الرسم التشكيلي ..، ألقيت عليه الحبّ والسلام فردّ بمثله وكأنّنا لم تفصلنا الدنيا أعواما وشهورا ..، إنّه الشاعر التونسي الأمجد بن أحمد إيلاهي ..وقد قبل محاورتي ..، وقد كنت أعلم أنّه أصدر مسافات ديمقراطية التي افتتح بها مسيرته الشعرية ثمّ يساري الهوى قلبي ولا وقت لي فرسائل إلى كارلا وأخيرا كرسي على الشاطئ هذه السنة ..، وتداعينا في كلام على كلام …
ـ كنت وما زلت في سلطنة عُمان ..فكم مضى زمن واختفيت عليّ..، كم مرّت أعوام ولم نلتق ..، حدّثني عن المكان الذي اخترته للتدريس فيه ..وكيف تناغمت مع الأجواء العُمانية : الناس والشجر والحجر..، وهل لديك أصدقاء ؟
سرقَ الزمنُ أعمارنا ، أحيانًا لا أصدق أن سنوات مضت على لقائنا الأخير . لا أحد يرحل عن موطنهِ دون سبب إلا السواح وأرباب المال والحرب ولستُ كما تعلم منهم . أما عمانُ فسأحدثك عنها بقلبِ الشاعر ، جئتها من بوابةِ الأهل فأنا لا أعتبرُ نفسي غريبا عن أي بلاد عربية أشترك مع أهلها في العادات واللغة والأدب القديم ، وهي بدورها أحالتني على الصحراء . الصحراء الشهيرة (الربع الخالي) هناكَ بقيتُ عامينِ متتاليين واحدا في شمال الصحراء وآخر بجنوبها . والحق أقول لك :” لقد لاءمت الصحراء روحي تماما “..
وهناكَ (ظفار) عرفتُ كتّابا وشعراء أحبوني وعشت معهم لحظات دافئة لا تمّحي من الذاكرة ، وهناك كانت لي طاولة تظم من تونس كل من نصر سامي وبوبكر المبروك ومن عمان محمد قراطاس ومحمد جداد ومحمد الشحري .. وإني أشتاقهم كل حين .
والصحراء ليست أرضا عاديّة وإنما فكرة تمتدّ على اتساع المدى ، تؤثر على القلوب الصغيرة فتغادر وتمنح القلوب الكبيرة مساحات جديدة لتتلاءم مع فلسفتها في الوجود .
وفي الصحراء كتبتُ مجموعتي الشعرية الثالثة ” لا وقت لي ” وكتبتُ “رسائل إلى كارلا” ، منحتني الصحراء كل ما أريده منها ” التأمل والهدوء ” والأمان ، وسلطنة عمان أمنة كأرحام الأمهات .
ـ رأيت في أرشيفك في الفيسبوك عديد الوجوه والشخصيات العمانية ..تقاسمك الحياة يبدو أنّك انسجمت مع عُمان قلبا وقالبا ..، ثمّة صورة تكريمية لك ..تتسلّم فيها من الإطار التربوي درعا ..هل نجحت في مهمتك التشكيلية التعليمية ؟
أوطانُ الكُتّاب ليست الأرض أو جوازات السفر ، أوطانهم هي الكتبُ . وفي حالتي يكون معرض الكتاب هو الوطن الذي التقي فيهِ بمن يشبهني ويفهم هواجسي فالحياة خارج الكتبِ مملة ومقلقة ومهلكة . وقد بات لديّ بعض الكتاب الذين أستأنس بلقائهم كلما سنحت الفرص القليلة .
ومن العادات المحمودة في هذا البلد أن هناك تكريما شرفيا للمعلمين المجيدين نهاية كل عام ، وأحسب نفسي من بينهم . أما التدريس فهو عندي عبادة ، حيث أقسو على الطلاب أحيانا ولكني أسعد بنجاحهم كما لو كانوا إخوة لي أو أبناء . وبعد هذه السنوات صار تلاميذي في الجامعات وفي الكليات و هذا في نظري هو أهم ما قد يحصل عليه معلّم .

ـ ” ودعيني بيدّكْ
ولا تخلّي دمعة تجرحك من خدّكْ
يا غالية بُعدك صعيب عليّا
إنتِ هذاكَ حدّكْ
ولا ثمَّ حدْ يزاحمك في حبّك ”
هذا مقطع شعري لك ..بالدارجة التونسية من قصيدة عنوانها : ” إلى الوالدة ” ، ينزّ حنين إلى أمّك ..بكلّ ما يلخصّه ذاك الكائن …من بلاد وأحباب وأصحاب ..، أيلازمك الشوق أم لديك خلان عُمانيون من ينقصون ذلك الشعور؟
ـ ” ودعيني بيدّكْ
ولا تخلّي دمعة تجرحك من خدّكْ
يا غالية بُعدك صعيب عليّا
إنتِ هذاكَ حدّكْ
ولا ثمَّ حدْ يزاحمك في حبّك ”
هذا مقطع شعري لك ..بالدارجة التونسية من قصيدة عنوانها : ” إلى الوالدة ” ، ينزّ حنين إلى أمّك ..بكلّ ما يلخصّه ذاك الكائن …من بلاد وأحباب وأصحاب ..، أيلازمك الشوق أم لديك خلان عُمانيون من ينقصون ذلك الشعور؟
سعادة الطيور في أجنحتها وسعادة الإنسان في وجود والديهِ فالأجنحة والوالدان كلاهما وسيلة للعودة الى العش إكان عودا يابسا . وبعد وفاة والدي وانكسار جناحي دون رجعة ، لم يعد لديّ في البلاد البعيدة سواها الوالدة ، وهي تعرف أني لم أسافر إلا وعلى قميصي دموع ودم . لهذا وسواه لا أنزعها في وجداني مطلقا ، فصورتها مرتبطة بصورة الوطن لذلك حنيني للبلاد من شوقي الى الوالدة والعكس بالعكس .
أمّا الخِلانُ الأصفياء ، وهُم في غياب الأهل أهلٌ وإخوة . فلي صحبٌ وزملاء تجمعني بهم السنوات والذكريات الحِسان . ولا أنسى وقوفهم الى جانبي في كل حين تقسو فيه الحياة أو تتبدل.
أدرّسُ في الخابورة منذ سنوات خمس ، وهذه الخابورة مدينة البحر والنوارس والأمنيات ، أجلسُ على شاطئها كل مساء لأكتب أو أقرأ أو أغيب في عالم التذكر دون أن يقطع حبل افكاري شخص أو شيء .. أحيا هنا لأكتبُ عن ” هناك” ولعلي أقلب الموازنة إذا لأن طريق رجوعي الى البيت ..
ـ ” ( رسائل إلى كارلا ) للأمجد ، تجربة تونسية جديدة ، تنضاف إلى روبرتوار أدب الرسائل على قلته في المشهد العربي ، وليس بوسع القارئ والناقد إلا أن يكونا طوقا حاضنا لهذه الرسائل التي تبحث في الحب والشعر والثورة ..”
هذه فقرة قصيرة كتبها الناقد المغاربي عبد الله المتقي عن رسائل إلى كارلا …، فهل كنت أنت وفيّا وحاضنا لهذا الثالوث الذي تدور حوله الرسائل؟
ـ ” ( رسائل إلى كارلا ) للأمجد ، تجربة تونسية جديدة ، تنضاف إلى روبرتوار أدب الرسائل على قلته في المشهد العربي ، وليس بوسع القارئ والناقد إلا أن يكونا طوقا حاضنا لهذه الرسائل التي تبحث في الحب والشعر والثورة ..”
هذه فقرة قصيرة كتبها الناقد المغاربي عبد الله المتقي عن رسائل إلى كارلا …، فهل كنت أنت وفيّا وحاضنا لهذا الثالوث الذي تدور حوله الرسائل؟
أنا اليوم ، وفيّ للحبّ وللشعر وللثورة أكثر من أيّ وقتٍ مضى . ليست المشكلة في هذا الثالوث الذي نكّل بي وبمن آمنوا بهِ منذ قديم الزمان . العطبُ في النّاس ، المشكلة في ضمائر القوم التي أصيبت في مقتل . الحبُّ لعنةُ الطّيبين وأصفاد الشعراء ، والشّعر خيار مقاومةٍ لا يُكسرُ أبدا ، أما الثورة فمستمرة حتى تستقيم الطريق وإن كان الوهنُ يركبُ أحبابها في كل مكان .. الثورة على الذات أولا ، الثورة إيمانٌ بالتغيير ولا تغيير دون علم ومعرفة .. الثورة الحقيقية الناجحة هي تلك التي تؤثث عقولا مبدعة ، لا ثورة ممكنة وسط عالم عربي لا يقرأ نصف صفحة في العام . ولكن شرف المرء في المحاولة و لم أيأس بعدُ .. ما زلت أؤمنُ بكل الأشياء التي أتعبتني و عزلتني ولكننا “لن نستوحش طريق الحق لقلة سالكيه”..

ـ هل ستخرج لنا بعمل جديد ..كتاب رسائل أو شعر أو رواية ؟ ..ماذا تعدّ لنا في عزلتك؟
صدر لي في الأردن عن دار الآن كتاب جديد شرفني بتقديمه صديقي آدم فتحي ، ويحمل عنوان ” كرسي على الشاطئ – السيرة الأبوية ” . وأعكف في عزلتي الاختيارية على كتابة رواية في السيرة الذاتية أسرد فيها وقائع حياتي منذ الطفولة حتى الرحيل وتشعب مسالك الرجوع و ابتعاد الوطن عنّا وسيكون تحت عنوان ” الطريق الى البيت ” . و أحاول انهاء مشروع كتابة جديدة بعيدة عن الأدب ، وهو كتاب في الفنون التشكيلية أتناول فيه تجربة نخبة من الفنانين التشكيليين العمانيين بالدرس والتحليل والنظر في عمق مسيرة الحداثة التشكيلية منذ نصف قرن . وهذا الكتاب بالذات لا يريد أن يكتمل ، ولكنّ الزمن كفيل بإتمامه في الوقت المناسب .