أثير- مكتب أثير بتونس
حاوره: محمد الهادي الجزيري
قد يكون اسمه متداولا لدى البعض ولكني لا أعرفه ، هو: علي حسن مي النوراني..، شاب فلسطيني فاز في السنة الماضية بالمركز الثاني في مجال الشعر بجائزة الشارقة للإبداع الأدبي، عن مجموعته (نهارُ الغزالة)..، ولكن صدفة عرفت أنّه ابن إحدى صديقاتي المبدعات ..، فهو ابن عطاف جانم الشاعرة التي بهرتني في مجموعتها ( مدار الفراشات ) وقدمتها سابقا في ” أثير “.


ومن ضمن ما حبّرت تعليقا عن القصيدة التي شدّتني بقوّة : إنّ ” أنسنة ” الغيم أبدع ما حاولته الشاعرة ..إذ أنّك سيدي القارئ ترى وتحسّ وتتذوّق كذلك وتركض خلف الغيم العابث في البيت…
” بعضُ هذا الغيم طفل عابثٌ
يقفز ما بين الشبابيك.. يغنّي
ينقر الدفّ
فيجري خلفه بعضُ الصغارْ
بعضُ هذا الغيم بنت للمكانْ
تغسل الأطباق..
تُغلي قهوة السّمار..
أو
تحمل (فنجانا) لنَجم يتمشّى في الجوار”ْ
المهمّ ..طلبتها ولم تبخل عليّ بمجموعة ( نهار الغزالة ) وها إنّي أعرضها على سادتي قرّاء “أثير”
من قصيد ” كنعانيا ” اخترت لكم هذا المقطع الأخير..لأبدأ حديثي عن هذا الفتى الذي يجمع خصلتين هما الشاعرية والخوف من النهاية قبل أن يكون، لنستمع إليه في قرفه وذعره من الموت المجاني وإيمانه بضرورة إكمال نشيده، فما هو إلا نشيده :
” وتمرّ حرب بعد حرب بعد حرب ..ثمّ ماذا أيها الموت المسيّرُ بالرُمُوت
ألا تزلّ خطاك عن درج البيوت ؟
ألا تقلّ ألا تضلّ ألا تنام
ألا تُصاب ولو مجازا بالزكام
ألا تموت ولو قليلا
لو قليلا
ريثما
أنهي
نشيدي…”
ريثما أنهي نشيدي..، فالجملة مضارعة لا تنتهي أبدا..، وهذا هو الشعر الصافي وهذا هو الشاعر المعتكف في غياهب اللغة والأماكن والأزمنة، يَنشد عالما يُنشد فيه إلى الأبد….
” أغنية أخيرة تحت سور أخير” قصيدة يكشف فيها علي مي قلبه الدامي حبّا وألما ومعاناة على بلاده الحبيبة ..أمّا اسمها ففلسطين تلك المغتصبة منذ داهمها الجراد، يكشف لنا حجم الفقد واليتم الذي يعانيه كلّ عاشق لها، إنّ الوجع الجليّ المشحون داخل الكلمات، والغضب الساطع في الصور الشعرية التي في القصيدة، واليتم الكبير الذي تعيشه أجيال إثر أجيال .يؤكد أنّ الشاعر/ العاشق مصمّم على بلوغ الهدف رغم صعوبة ذلك، فالهدف هو تحرير الحبيبة فلسطين .
” وعاشقا قلبه للريح منذ غدت
بلاده دمعة ترتجّ في الحدقِ
ناديتَ ..راح الصدى يرتدّ أسئلة
تحدو بها أبجديّات من القلقِ
لمن تسطر سفر الحرب يا ابن أبي
ونحن سيّان في دوّامة الغرقِ
ننشقُ عن ذات جرح ضفّتيْ وَجعٍ
فنزفك المرّ يهمي عن دمي الغدقِ ”
المجموعة مكتوبة بين قصائد عمودية وقصائد حرّة، شحنها علي مي بأحزانه وهواجسه وأحلامه، ولا يخفي أبدا أنّه عاشق ومحبّ، يتجلّى لنا في أبهى صوره في قصيدة بعنوان : نشيد لفتاة الأرق الأسمر، يفتتحها بالصهيل حين تلج شارع الحبّ وتتضوّع من عبورها حارة العطر، أميل إلى هذا السرد الشعريّ المعترف بكون الحبيبة تصير فجأة كلّ شيء جميل ورهيف ولطيف، هذا هو الشعر الصافي بالنسبة لي.
” تمرين من شارع الحبّ في حارة العطر
فياضة بالعذوبةِ
طازجة كصباح العصافير حول السواقي
ولا حول للبسطاء على درج الوجد
والعابرين وقد عشقوا فجأة دون قصد
ولا حول لي
والغواية تسحبني من قميص الكلامِ
لأكتب..”
هذا شعر وكفى .
من آخر القصائد المدرجة ..واحدة بعنوان ” حلم ” ، هي حقيقة شبيهة بحلم قديم يعاوده الشاعر بكلّ ما أوتي من رغبة جامحة في ترك بصمته على الطاولة، فالشعر ليس نزهة في ضفاف اللغة ولا هو تنفيس عن النفس، إنّه أن تكون أو لا تكون كما قال محمود درويش، الشعر ما قال الفتى لفتاته وأكثر من ذلك بكثير، إنّ هذا الفتى يتحدّى اللغات جميعها ويتحدّى الشعراء بمختلف أعراقهم وأجناسهم ، ويقول آخر شيء في آخر بيت ..
لن أقول ..أترككم تكتشفون جرأة وإيمانه بنفسه :
” عاريا يتدفّق صوت القصيدة في ماء روحي
وأشعل في عزلتي قمرا وأغيبُ..
وتنأى ضفاف الجسدْ
وأقطف من شفتي وردة
وأحاول حلمي القديمَ..
على عتبات الأبدْ
………
ذات حرف سيعبر ذاك الولدْ “