تونس- مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري
أوّل قصة في المجموعة شدّتني هي ” سجن ” ، وتأتي في المرتبة السادسة في القصص ، ليس لأنّ القصص الفائتة لم تعجبني بل لأنّي لم أفهم بالضبط ما مغزاها وما المقصود منها ، فأنا أميل إلى الأدب الواضح مع القليل من الغموض..، ووجدت صعوبة في فهم محتوى القصص الخمسة الأولى ..، رغم قراءتي لها عديد المرّات ورغم قصرها المحرّض على إعادة القراءة ..لكنّها تظلّ مستعصية على الفهم والإدراك ..وسأشرح ذلك بعد حين مع القصة الأولى..، أمّا الآن فأقاسمكم هذا السهل الممتنع ..وهذه المتعة الأدبية التي تنمّ عن ذكاء القاصة أميمة الناصر..، القصة كلّها على رجل بصدد تكليف مهندس بصناعة نوافذ لبيته ..تمتدّ على طول واجهة البيت ..، وفي النهاية تبوح لنا القاصة بسبب الكِبر والاتساع :
” حين أبدى المهندس استغرابه ، إذ لم يصمّم من قبل نوافذ بهذا الحجم الكبير ، ابتسم الرجل الأربعيني بحزن قائلا :
ـ لا عليك ، أريدها نوافذ لا تشبع من الشمس والهواء .
قال ذلك في حين كانت ذكرى نوافذ سجنه الضيقة تمرّ في باله مشبعة بأسى مرير ”

قبل أن أنسى ..عليّ أن أشرح أسباب قصوري وعدم فهمي ..وأتخّذ نموذجا لكلامي القصة الأولى ” صاحب السجن ” ، فالبداية سجين يصرخ طالبا رؤية صاحب السجن ..مبرّرا ذلك بأنّ له أسئلة كثيرة ورعبا لا يقوى عليه ..، ثمّ يصاب بالعدوى حارس السجن ويمضي إلى السجين في زنزانته ويوقظه قائلا له : ثمّة أسئلة كثيرة ..، المهمّ أنّني هنّأت نفسي بالفهم والإدراك ..بأنّ حمّى الأسئلة الكثيرة تفشّت من السجين إلى حارس السجن ..ولكن يختلط الأمر عليّ ..السجّان يفتح قفل السجين ..الذي لا يبدي فرحا أو امتنانا ..أمّا السجّان فيبدو شاحبا ..وتنتهي القصة..، أنا لا أريد أن أظلم أميمة الناصر فيكفيها أنّها حرّضتني على إعادة قراءة قصتها عديد المرات ..، وهذا السرد الغامض له أتباعه ومحبّيه …
ذكّرتني قصة ” أرملة ” أنّ الكاتب عموما كشّاف كلّ سرّ وفاضح كلّ مستور..، هذا ما اقترفته بعناية فائقة أميمة الناصر ..وأوغلت في باطن امرأة مات اللحظة.. زوجها وعرضت لنا داخل تلك الأرملة الجديدة ..وما يحدث في الخارج من بكاء وعويل نساء وتعازي غرباء ..، بصدق من فكّر في نفسية أرملة ارتاحت من زوجها ..بموت هديّة من السماء ..، الكلّ ينوح إلا هي لائذة بالصمت الآمن :
” ركضت إلى خزانتها وتدثّرت بالسواد
حين أطلّ وجهها من المرآة ، خشيت أن يفتضحها فرح عفيّ لم تذقه منذ سنوات ”

..ولكني لن أنهي هذه الإطلالة السريعة على مجموعة أميمة الناصر ” صحو ” إلاّ بعد أن أمرّ بأجمل ما قرأت ..، فقد لخصّت القاصة كلّ شيء وقالت كلّ شيء في قصة ” كلب ” ففي هذا المتن القصير..يرى كلّ واحد منّا نفسه ومسيرة حياته..، يرى أنّ العمر سلسلة من التحدّي والخوف والمكابرة والفرح بالنجاح ..، تروي لنا الكاتبة قصة ثلاث صديقات يفعلن نفس التحدّي في طريق العودة من المدرسة ..، أن يركضن أمام كلب مربوط ..ويقطعن الطريق إلى الجهة المقابلة ..في تحدّ واضح ..وهو ما يحيلنا إلى الحياة الدنيا بمخاوفها وتحدّياتها وتجرّأنا عليها في كلّ ساعة ..بل في كلّ لحظة ..، ذاك هو الإنسان المغامر المبدع الخلاق ..ذاك الذي يفعل المعجزات قبل أن يؤوب إلى القبر..إلى السكينة الأبدية …:
” أنطلق كما ريح غاضبة ، وما إن يراني الكلب حتّى يبدأ نباحه المجنون ، وأبدأ أنا بالصراخ وشتم نفسي على هذه المغامرة ، لكن ما إن أجتازه ويخفت نباحه حتّى أتوقف لألتقط أنفاسي وابتسامة رضى تعلو وجهي .
تفعل صديقتاي ، مثلي وأصفق لهنّ بحرارة حين يجتزن نباح الكلب .
ونواصل السير منتشيات بالفوز ، ونأخذ العهد من بعضنا ، كما كلّ يوم ، أننا سنسير في الغد في الشارع ذاته ، ولن نحيد عنه إلى خيار آخر “…