أثير- عبدالرزّاق الربيعي
في محافظة الكرك الواقعة جنوب الأردن، التقيت به، فشممتُ ضوع البُخور العماني، ولفت نظري اللبان، والمبخرة، والحلوى العمانيّة، والخنجر العماني، المعلّق على جدران غرفة استقبال الضيوف، والعصي المصنوعة من خشب العتم المحلّي العماني، المعروف بصلابته، ذات المقبض المعقوف، المزين بالفضّة العمانية، والنقوش، وكانت مدخلا لفتح صفحات ذاكرته المليئة بكثير من تفاصيل حميمة، حملها معه من السلطنة التي أقام فيها ثلاثين سنة، معلّما في مدرسة السلطان الخاصّة في السيب، ومؤسسات تربويّة أخرى، وظلت محفورة في وجدانه، قبل ذاكرته.
إنّه التربوي الأردني الأستاذ عبد الكريم الطراونة.
في البداية، عدنا معه إلى سنوات بعيدة خلت، فسألته “أثير” عن السبب الذي جعله يختار السلطنة، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في تلك السنوات المبكّرة، من عمر النهضة العمانية، فقال” كنت في الثلاثين من عمري عندما وقع نظري على إعلانٍ في الجريدة بأن معهداً في الخليج بحاجة لمعلمي لغة عربية ممن يتحدثون اللغة الإنجليزية. وقد تضمن الاعلان ما يلي: مطلوب معلمين لمدرسة خاصّة – الرجاء مراجعة فندق (عمرة) في تمام الثامنة من مساء يوم الأحد. الرجاء إحضار السيرة الذاتية وأي شهادات معتمدة ذات علاقة بالمسمى الوظيفي. هنا توقف الزمن للحظات وشعرت أن عقلي استغرق وقتاً إضافياً لفهم مضمون الإعلان، رغم وضوحه. مشاعر مختلطة من المفاجأة والسعادة والخوف والتردد والانكار، أفكار شتى بدت وكأنها تنهمر عليَّ، يفيض عقلي بها ويخفق في تحجميها رغم محاولتي الجادة”
وأضاف الطراونة “كنت في تلك الفترة أعمل في الإذاعة والتلفزيون محرّرا لنشرة الأخبار التي كانت تذاع باللغة العربية. لا أذكر من تفاصيل ذلك اليوم إلا ذلك الاعلان الذي شغل تفكيري وكأن القدر عاد يطرح فكرة العمل في الخليج مرة أخرى. كنت قبل تحرير الأخبار قد عملت في المملكة العربية السعودية ( في أرامكو تحديدا) كمعلم لغير الناطقين بالعربية. لم أمكث هناك سوى سنة واحدة وقد كانت تجربة مريرة إلى حد ما وقد يعود هذا لكونها تجربة الغربة الأولى التي عادة ما تكون موحشة. كنت في تلك الفترة متزوجاً ولديّ من الأبناء اثنان، خالد وعبد الله لا تزيد أعمارهم عن الثلاث سنوات وكان وجودهم في حياتي قد زاد من صعوبة الأمر وقساوة البعد فقد كنت أشعر بأن كل يوم أقضيه بعيداً عند دفء العائلة هو وقت مهدور لا قيمة له، عدت للمنزل وحدثت عائلتي ووالداي بمضمون الاعلان وأن فرصة جديدة ها هي تلوح بالأفق. لم تبدُ عليهم ملامح التشجيع بل كان صمتهم أكثر دوياً من تعبيرهم لو كانوا لينطقوا بما يجول في خواطرهم. رأيهم الذي اعرفه جيداً ” غربة مرة أخرى؟!” رغم عاطفتي تجاههم إلى أن تفكيري بطريقة عملية سار بي لتلك المقابلة. أذكر أن غرفة الانتظار كانت مكتظة بالمتقدمين للوظيفة. معظمهم من حملة الماجستير والدكتوراه معتدون بسنوات الخبرة الطويلة وأنا أقف بينهم أنتظر أن يحين دوري ليس معي من حقائبهم الممتلئة بالأوراق والملفات سوى شهادتي واستعدادي. ولكن كان بحوزتي شيء أهم بكثير من الأسباب التي نأخذ بها. كان معي ثقتي بأن الله عزَّ وجلّ هو وحده الموفق، هذه الفكرة الوحيدة هي التي تسلحت بها حتى أُخفف عن نفسي هول المشهد الذي ازدحم بجهابذة اللغة العربية. وبالرغم من صغر سني وخبرتي المتواضعة بالمقارنة مع المتقدمين لهذا الشاغر، إلّا أنّ المقابلة التي أُجريت معي انتهت على خير ما يرام. فقد بدت على ملامح المدير الأجنبي علامات القبول والرضا وقد لمست هذا من الدقائق الأولى ومع ابتساماته المشجعة انهال علي شعور فيه كثير من الراحة وفعلاً كنت أنا من وقع عليه الإختيار.
بضعة أيام من أيلول وغادرت أرض الوطن مرة أخرى ولكن هذه المرة ليس للسعودية وإنما لبلد خليجي آخر. بلد لا أعرف عنه الكثير..( على جميع الركاب المسافرين على متن طيران الخليج رحلة رقم (لا لم أعد أذكر) والمتجهة إلى مسقط سرعة التوجه إلى بوابة رقم (غربة). والفرق كبير بين الشعور الذي كان يخالجني والواقع الذي كان ينتظرني. نعم الى مسقط في سلطنة عمان غادرت. لم تكن معلوماتي عنها تزيد عن التفاصيل القليلة التي كان يزودني بها كل صيف ابن عمي المخرج (محمد الطراونة) الذي سبقني للعمل في سلطنة عمان. كان يعمل مخرجاً في التلفزيون العماني آنذاك ووجوده مع عائلته في (مسقط) كان الشيء الوحيد المطمئن لي في بداية هذه الرحلة”
وحول شعوره عندما وطأت قدماه أرض السلطنة للمرّة الأولى قال الطراونة” أذكر جيداً أنني تفاجأت بدرجات الحرارة المرتفعة المصحوبة بالرطوبة عند وصولي ولكني تعلمت بعدها الاستمتاع بدفء المنطقة، والذي يعد التأقلم عليه أسهل بكثير من العيش لخمسة او ستة شهور تحت وطأة شتاء الأردن الجاف والقارس البرودة.
مرّ شهر، اثنان، ثلاثة، على عملي معلما في مدرسة السلطان الخاصة في السيب لم أشعر خلالها ولو للحظة إني في غربة. كل ما كان يخطر ببالي هو حمد الله مراراً وتكراراً أن قادتني الأقدار لتلك المقابلة ورزقت تلك الفرصة. مدرسة السلطان ليست مدرسة تقليدية فهي بكل صدق تتميز بكل شيء. قدمت لي سكناً آمناً وبيئة في غاية من الرقي. قدمت لمعلميها وقاطنيها خدمات بأعلى مستويات الجودة من كافة النواحي التي قد تهم أي فرد منا”
وعمّا علق في ذاكرته من عمله في المدرسة قال” كان انضمامي لها بمثابة نقلة نوعية لي من الجانب المهني والإجتماعي والمادي أيضاً. دَرّستُ فيها اللغة العربية لطلبة القسم الإعدادي والثانوي وأوكلت إليَّ مهمة المراقبة في القسم الداخلي الذي يتميز بأنه يضمّ الطلبة المتفوقين من ولايات السلطنة، حيث يكافؤون على جهودهم بمقاعد دراسية مدفوعة التكاليف كمنحة من قبل الديوان وسكن خاص بهم أيضاً يمكثون فيه خلال الأسبوع. كشابٍ يافعٍ لا أكبر بعضهم بكثير نسجت معهم علاقاتِ صحبة طيبة تجمع بين الحزم والجد كمعلم والمزاح والمشاكسة كصديق”
وحول كتابته للشعر في تلك السنوات قال ” في عُمان اكتشفت بعض المواهب التي لم أكن أعلم إنني أمتلكها أو لأكون منصفاً، لم تسنح لي الفرصة الشحيحة في وطني آنذاك أن أُدركها أو أنميها، فبرزت لدي موهبة نظم الشعر أو بالأحرى تبلورت. كيف لا ومكتبة المدرسة تفيض بأجمل وأثمن الكتب والمراجع، القصص والروايات، دواوين الشعر والمجلات المناسبة لمختلف المستويات العمرية ولكافة الاحتياجات والأذواق وبأكثر من لغة مما ساهم في إثرائي ثقافياً في شتى الميادين. حينها أدركت أن وجود الموهبة ليس وحده المهم. إنما المهم هو توفر الأدوات والمعطيات لصقل الموهبة فلكل منا ما يميزه ولو أُحيط أي منا بما يلزمه لتطوير مواهبه لبرع بكل تأكيد. اُخترت بعدها لأترأس القسم الأزرق في المدرسة من الناحية الرياضية والرعوية الذي كان يُرمز له بالصقر Hawks) والذي ينافس القسم (الأبيض والذي يرمز له بالمها Oryx ). ) وكمشجع ومرشد لهم مشيت وركضت أميالاً مع الطلبة وتسلقت ولعبت معهم لسنوات عدة”
ويسترسل الطراونة الذي عمل مترجماً للمدرسة إلى جانب عمله في تدريس اللغة العربية، وكان عضوا في لجان اختيار معلمي مواد الدراسات العربية من الوطن العربي، ومجلس الآباء في المدرسة، في حديثه الشيّق، فيقول” انضمت زوجتي وأبنائي إلى المدرسة في العام الثاني وبوجود عائلتي أصبح للحياة في مسقط معنى آخر، أكثر قيمة وجمالاً بكل تأكيد. دَرَّست زوجتي اللغة العربية أيضا للمرحلة الابتدائية، فكلانا من خريجي الجامعة الأردنية متخصصين باللغة العربية وآدابها، مكثنا هناك السنة تلو الأخرى هانئين بما يوصف برغد من العيش، وكنت أسمع حديث نفسي، نِعم الله مدهشة لا بل عظيمة وكنت أدرك تماماً أن عُمان نعمة جميلة. عملت في المدرسة سنين عدة وتعاقبت عليَّ أربع إدارات مختلفة ومعلمون كثر معاً ساهمنا في تطوير المدرسة والبلوغ بها لمستويات عليا. اليوم كلّي فخر بالطلبة الذين درّستهم وها هم اليوم يتصدّر أغلبهم مواقع مهمّة ونافذة في السلطنة. أسأل الله أن يسدّد خطاهم”
ثم ينتقل في الحديث إلى محطة ثانية في عمله التربوي عندما انتقل للعمل في الجامعة التقنية والعلوم التطبيقية في الخوير كمحاضر ورئيساً لقسم الدراسات العربية، ومن ثم التحاقه بالمدارس المتحدة حيث عمل فيها إداريا ومسؤولا أكاديميا لمدة ثلاث سنوات. عملي في عُمان لم يكن إلا رزق أحمد الله عليه حتى هذه اللحظة. والفضل لله أن منَّ عليّ بثلاثين سنة هانئة تخلو من الكدر وسط شعبٍ طيب الأعراق فعلاً، متواضع ومحب للغريب ومقدر لجهوده. ليس هذا فقط بل ويسعى بجد لخلق مساحة عيش له لا يشعر فيها أبدا بغربته او بكونه ضيف مؤقت، بل على العكس، فهو صاحبُ الدار وابن عُمان”
وحول انطباعاته عن الشعب العماني قال” شعب عُمان العريق بعاداته وثقافته يعرف جيداً كيف ينخرط بالثقافات الأخرى ويحترمها وهو الشعب الذي تليق به بلاد الأمن والأمان وجنة الله على الأرض، فعُمان لا تشبه غيرها من البلدان التي زرت لأنها ببساطة تتسم وحدها بقيمة الوطن. الحقيقة أن عُمان تزرع في النفس شيئاً من التعلّق، والحنين والارتباط لا يمكن لشيء أن ينتزعه أبداً”
ويطلق حسرة، ثم يبتسم، ويقول “نغادرها بأجسادنا فقط ولكن تأبى أرواحنا تركها، فتبقى عالقة في الأماكن تارة فوق الجبال الشامخة وتارة على شواطئها الساحرة، تارة في أزقة سوق مطرح القديم وتارة على شوارع مسقط السريعة. هناك شيء منا لا يعود فعلاً، فنجد أنفسنا أنا وعائلتي كثيراً ما نتحدث عنها وكأننا في حالة إنكار لواقعنا الجديد في الأُردن وغالباً ما نقيِّم ثمن الأشياء بتحويلها للريال العماني، رغم أننا لم نعد في عُمان!
فلها، ولبحارها نشتاق كثيرا، فأردّد مع نفسي:
برحت عُمان وقلبي لم يبارحها
ألا ليت شعري بعدي من يطارحها
يا جنة الخلد قلبي لم يزل شغٍفا
العين تدمع والأشواق تحرقها
وحول ذكرياته عن حياته اليومية خلال إقامته في عمان يقول ” كنا نقوم، بين وقت وآخر، بزيارة سوق الأسماك على الشاطئ وشراء ما طاب من المأكولات البحرية الطازجة كلّ أسبوع، ونزور القلاع والحصون والوديان في عُمان التي ما زالت النفس تتجمل بعبق الذكريات التي لا يسعني سردها هنا، الأهم أن لعمان لمسة في منزلنا فها هي الحلوى العُمانية تزين ضيافتنا حتى يومنا هذا، وبعد خمس سنوات من العودة الى الأردن لا تخلو نسائم المساء من رائحة البخور واللبان علنا نستشعر ونشتم مسك عُمان في زوايا المكان. لعُمان كل الحنين والحب والانتماء وفيها أقول:
يا زائرا أرض مجـــــان …. سلّم على أرض الجمـــــان
سلّم على أرض عشقت ……وهويت ردحا من زمان
سلّم على صحب كرام …..كانوا لنا عطر المكــــــان
وقل لهم إنّ الفتــــى …. ما زال يلهج بالحنـــــــــــان
قل للمـــدارس إنني ….أشتاقها طــــــــــول الزمان
إن المدارس سلـوتي …. ومراتعي وهوى الجـــــنان
وختم حديثه بقوله” أسأل الله أن يتغمد بأنيها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم بالرحمة والمغفرة وأن يوفق جلالة السلطان هيثم لكل ما هو خير. ولا يفوتني أن أتقدم بجزيل الشكر لطلبتي الذين لا يزالون على تواصل دائمٍ معي. أما عُمان أرضاً وشعباً فاللهم أحفظ هذا البلد آمنا مطمئنا..
ثلاثون سنة في عُمان ليست إلا سويعات قليلة.. فالجميل عادة ما يمر سريعاً كالوهم..”