أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
كان ربيعا مغبرّا. لا يشبه في شيء الربيع السابق. ولم يكن شهر مارس هذه المرة هو نفسه شهر اللوز والنوار، وتسلق الأشجار والركض وراء النحل لمعرفة مكان عسله. كان ربيعا بلا ضجيج العصافير صباحا وبلا حمام ولا سنونو.
لا شيء في البيت إلا البكاء. تعودنا على غياب والدي وهو في الجبل أو في فرنسا، وكان غيابه دائما ممزوجا بأمل ما، لكن اليوم أصبح غيابه رديفا للموت.
ثلاث مرات وأمي تحاول أن تدخل إلى سجن السواني، لرؤية والدي، ولكنها كانت تصطدم في كل مرة بالرفض. سمعتها فجرا تقول لحنَّا فاطنة: “قال لي العسّاس موحا ولد العربي، إن بابو طماع كبير. لازم تجيبي دجاجة كحلة، ولحم وبيض، ولويزة (ليرة ذهبية)، ويوضع كل شيء في سلة صغيرة تسلم عند الباب لي، أراقبها، ثم أعطي إشارة الموافقة لبابو. يروح هو من جهته يتودد للحراس ” زوجة مسالمة ومعها ابنها لازم نسمح لها بالدخول تشوف زوجها، كما يفعل دائما” بدون ذلك لن يسمعك بابو. فهو حركي عسكري. يُرى من بعيد بطوله ونحافته ووجهه المكدود. قالت حنا فاطنة التي نادتني: “سينو. تعال حبيبي. أنت كبرت. اليوم سترافق أمك لتحرسها من العيون الشريرة. ضحكت في أعماقي. حنا تجد دوما مخرجا قصصيا لحكاياتها. في أعماقي كنت أعرف أن وجودي عالقا بلباسها الشعبي، سيجعل العسكري الفرنسي يلين، ويسمح لنا بالدخول. لقد تعبتْ. كلما عادت من السجن بخيبة كبيرة، تكون في أشد حالا القهر.
– أكيد يا حنّا أرافق أمي. أنا طلبت من قبل ذلك، لكنها كانت ترفض دائما.
– اليوم أنا أطلب منك أن ترافقها وتبعد عنها العيون الشريرة.
كتَّفت أمي الدجاجة السوداء الوحيدة بهذا اللون ووضعتها في وسلة البيض، ثم اضافت اللحم الملفوف في كاغط خشن، هو حق العائلة في “الوزيعة” الشهرية. ووضعت اللويزة، وهي من ميراث والدي، في صرة، خبأتها بعدها في صدرها. ثم وضعتني على ظهر البغل، في عين الخرج وفي العين المقابلة وضعت حجرة بوزني تقريبا للمحافظة على التوازن، ثم سحبت البغل من لجامه إلى الخارج وركبته، وسرنا إلى قرية “السواني”، حيث السجن.
أخذتني الغفوة على حدوتي البغل، في الطريق. لم أعرف أين كنا. في عين الخرج لم يكن بإمكاني رؤية الشيء الكثير سوى السماء وأسراب الطيور المهاجرة باتجاه وادي زلاميط الذي يحتفظ بالماء طوال فترة الربيع.
كانت أمي، من حين لآخر، تدندن بصوت دافئ، لحنا شجيا قادما من بعيد، تردده عادة نساء القرية في الأعياد الموسمية والأعراس.
“نوّري يا الغابة نوّري
نوّري درقي (خبئي) ذاك الشباب.
الغابة حنينة ربات المُجاهدين.
عنّق الشجرة وحسبها مُو (ظنها أمه)”
كنت أعرف أنها كانت تبكي، وأنها كانت في مكان آخر، بعيد، بعيد جدا لم أكن قادرا على لمسه ولا على تحديده. حاولت أن أنسى كل شيء ولا أرى إلا السماء التي لم تكن عالية. يقولون في معتقداتنا إن السماء لحظة الفقدان المرّ، تنزل قليلا لتشترك معنا في شجننا وأحزاننا.
أغفو، ومن حين لآخر توقظني الطيور الهاربة، والأصوات الغامضة في داخلي. لم أكن سعيدا، كنت فقط خائفا: هل سأرى والدي والقيود الثقيلة في معصميه ورجليه كما في المرة التي سرقوه من بين ايدينا؟ هل سيلقانا العسكري الأفطس الذي لا يتكلم لا العربية وال الفرنسية، ويطردنا؟
فجأة توقف البغل وكأن حاجزا صده؟ ترجلت أمي. وطلبت مني ألا أنزل حتى تنزع الحجرة وتشد على الخرج. وقفت. كنا في قرية “السواني”. في السوق التي كنت أرافق إليها أمي، ولكنها لم تكن سوقا. كانت فارغة وجافة. لا أحد سوى كتيبة عسكرية كانت تتدرب، والحارس موحا ولد العربي الذي ساعدني على النزول بعد أن أزالت أمي الحجرة التي كانت قبالتي ووضعتها بجانب الحائط الذي ربطت بمحاذاته البغل، بعد أن شكّلت رجليه.
شعرتُ بشيء غريب. كنت كمن “السواني” لأول مرة. كل يوم أحد أتسوق مع أمي، نشتري الخضر والفواكه مباشرة بعد بيع البيض. قال الحارس لأمي:
– أينَ السلّة؟
– ها هي سيدي, بها البيض واللحم ودجاجة سوداء كما طلبت. واللويزة في صدري.
فجأة وقف عند رجلينا رجل طويل تسميه أمي ” عمود الشواء” بوجهه الكالح، بطوله ونحافته، بجسد يكاد لا لحم فيه. افترضت أنه بابو الطماع الذى حكت عنه أمي مع حنا,
– واش راكي لالة ميزار.
– بخير عمي بابو. السلة راها هنا. واللويزة في صدري.
– السلة خليها هنا يتكلف بها العسّاس (الحارس)، واللويزة ديريها في يدك كي تشوفي البغل تاع ماكس راح، حطيها في يدي.
– فهمتك.
كنت أشعر بالمرارة. كيف يجردون امرأة لا تلك إلا قهرها، من كل شيء فقط لترى زوجها لمدة خمس دقائق. كنت حزينا داخليا. شيء ما فيّ كان يشتعل. تمنيت في ثانية مرت حارقة، أن أكبر وأبحث عن أصدقاء ابي، وأسجن بابو والحارس.
كانت أمي تبعث عن اللويزة التي وضعتها في صدرها. لكن ماكس عقّد الوضعية، فقد جاء باتجاهنا. عندما اقترب أشرق وجهي فرحا. حك على رأسي كما في المرة الأولى عندما سمح لي بالاقتراب من أبي. هو نفسه العسكري الذي طلب من الكتيبة أن تبتعد قليلا عن والدي. حيا أمي بانحناءة. الغريب تذكر حتى اسمي. سألني مع ابتسامة:
– سينو ماذا تفعل هنا؟
– أخذتم أبي، لم ترجعوه. جئت لأراه. قلت لنا أنه سيعود غدا، مرت العديد من “الغدات” ولم يعد. جاءت أمي إلى هنا ولم تستطيع الدخول.
– طيب. وهذه السلة.
سبقني الحارس إلى الإجابة.
– سيدي جاءت بها السيدة وتريد أن تدخل بها إلى الثكنة، ولا ندري ماذا بداخلها.
قال ماكس بصوت آمر:
– أعد لها سلّتها، اتبعوني،
تكلم مع شخص توقف عند رجليه بسيارة جيب، قريبة من تلك سرقت والدي.
ثم حياه وواصل حركته. تبعناه. كان بابو ينظر من بعيد.
– طلبت من الضابط أن يتركما تدخلان، وسأمر لإخراجكما. السلة تتركانها هنا، لن يلمسها أحد. سأضعها في الخزانة. هل فهمت.
هزت أمي رأسها، وهززت راسي أيضا عندما نظر إليَّ.
سبقنا إلى الداخل بعد أن سحب كرسيين حديديين وأدخلهما معه.
– لا توجد كراسي في الحجز. سأمر عليكما.
أول شيء أحسست به كان هو البرد. شوّك لحمي. قلت لأمي
– يما البرد. راني نرجف.
– اصبر شوي ميما، راح تقوت الرجفة. هذا مش برد، خوف.
عينا أمي هما مقياسي للراحة والأمان. كلما كانتا صافيتين، أشرقت الشمس في قلبي. كلما احمرتا أشعر بكآبتها وحزنهما وأعرف أن شيئا ما جللا قد حدث. كانت عيناها صافيتين بمئات الألوان، رأيت ذلك عندما اخترقهما شعاع شمس حاد لا أدري كيف تسلل على تلك الرطوبة الثقيلة،
انحنت عليّ وكلمتني بخفوت. لتقول لي:
– شششت. المحابسية (السجناء) لا يتحملون أصوات الخارج.
– قلتِ لي الأموات في المقابر وليس المحابسية.
– يا ميما، المحابسي كما الميت. كلاهما في حفرة.
فهمت من أمي أن أصمت.
ثم فتح لنا ماكس الباب الثقيلة للدخول، أحدث تأكل الحديد صوتا وغزغزة حادتين لا أتحملها. لم ينس أن يحك على رأسي. لملمت نفسي داخل نفسي ودخلت متشبثا بعباءتها لأتدفأ بها.
– سأمر عليكما بعد ربع ساعة.
دخلنا. كان والدي في الزاوية الخلفية، لقريبة من الكوة التي كانت تظهر شيئا من وجهه. ظل واقفا باستقامة، كالظل. على الرغم من الروائح الكثيرة التي اختلطت في مخي، شممت رائحة والدي، عطر خفيف ممزوجا بصابون “لوكس”. لم تغادره أبدا وهو يضمني إلى صدره مع أمي. ثم يسحب الكرسي لتجلس عليه أمي. بينما جلست أنا في حجره على الكرسي الثاني. ثم بدأ يحكي لأنه كان يعرف الزمن القليل المتاح لنا.
– كبرت يا سينو. وليت رجلْ ترافق أمك في هذه الظروف الصعبة.
– حنا قالت لي ما تخليش (لا تترك) أمك تروح وحدها.
ثم التفت نحو أمي. حتى قبل أن تسأله.
– استجوبوني ليالي طويلة. لم يحصلوا على شيء. لم نعتد على أحد. كل ما قمنا به هو لتحرير أرضنا، لا أكثر. قلت لماكس الذي يؤمن بنفس الأفكار: لم نعتد عليكم وماذا يفعل المعتدى عليه سوى الدفاع عن نفسه؟ هز رأسه وحكى لي عن والده الذي كان يشعر أنه من حملة “حملة الحقائب” الذين ساعدوا الثوار الجزائريين كثيرا. كانوا يوصلون الوثائق الحساسة لقادة الثورة، دون أن يشكَّ فيهم أحد. جده أيضا اقتيد إلى خلاء كيان وهناك مات ودفن، لأنه دافع عن الفرنسيين من ظلم الفرنسيين.
لم تكن أمي معنية كثيرا بما كان يقوله إذ بدا لها كلامه بعيدا عما جاءت من أجله.
سألته ببرود.
– ما عندي ثقة حتى في أحد. هل عذبوك؟ متى ستغادر هذا المكان.
– كان البحث معي عنيفا. لا يوجد ما يخيف. قريبا سأخرج. هذا ما قاله لي ماكس. لكنه نصحني بمحام من فرنسا. فكرت في “مغنية” (ماريا). لكن كيف الاتصال بها؟ قال ماكس أنا سأساعدك، يجب أن تخرج من هذا الجحر. كان يتكلم بحذر. كتبت الرقم في كفه بعد أن وضع قلما بين يدي. وهو يتواصل معها عن طريق شخص ثالث. أملي كبير فيه.
– رجل طيب. هو من أدخلنا.
– وبابو.
– كان فرحانا بسلة البيض والدجاجة الكحلة، واللويزة.
– ما فهمت.
– ضريبة الدخول.
– كلاب. أعطيتِه هذا كله؟
– بقات اللويزة برك. نعطيها له عندما أخرج.
– ما تعطيه والو (ولا شيء). أنا تحدثت مع ماكس عندما مر عليّ. تليفون مغنية راه من وراء صورتها مع أوراقي التي لم يأخذوها. أحكي معها. امرأة طيبة، وتعرف أنك زوجتي. نقابية شاطره، وستجد محاميا مناسبا.
– حكيتَ معها؟
– لا. الأمر صعب جدا. يخافون من أمرين، الصحافة والقضاء.
– إن شاء الله. ربي يقدرها على الخير.
نكس ابي عينيه قليلا باتجاه الأرض. شعرت كأني فهمت شيئا لكني كنت عاجزا عن استيعابه. لم أكن أرى ملامح أمي جيدا في تلك الظلمة. لكني تخيلتها.
– المهم شيء واحد ما تفرطي فيه. درسي الأولاد. بالفرنسية ما عليهش. يكبرون ويذهبون نحو لغتهم. اليوم ممنوعة، غدا سيصبح بإمكانهم تعلمها. أخطر شي هي الأمية. ذهبت إلى فرنسا بحثا عن العمل وعمري 16 سنة، وأدركت يومها ما معنى أن يكون الإنسان أميا، خارج كل حياة، وتعلمت لأني كنت مصرا على التعلم وإلا سأكون بائسا ووحيدا. دخلت المدرسة العمالية، “مغنية” كانت صاحبة الفكرة، قالت يومها وأنا أشعر بثقل الأمية: Il n’est jamais trop tard pour bien faire، أحسست بالحاجة. اسهري عليهم، وعلميهم.
بعد لحظات دخل ماكس.
– للأسف سأضطر للخروج. انتظركما.
– شكرا ماكس.
قال والدي.
ضمنا والدي إلى صدره. وخرجنا. لم تلتفت أمي وراءها. أنا التفت. كان والدي في الزاوية المضاءة من الكوة. بدا كبيرا جدا ونحيفا على غير العادة، ومبتسما. ربما تخيلته كذلك فقط. لم ار رجليه وهو جالس، لكنه لم يكن مقيدا.
عندما وضعتني امي في الخرج، ووضع الحارس الحجرة في العين الأخرى، سال أمي:
– وين السلة؟ واللويزة.
– السلة نسيتها في مكتب ماكس, نروح نجيبها لك.
لكن ماكس ألحقها لنا. وضعها من جهة في العين الثانية من الخرج.
ابتعد الحارس تلقائيا وكأنه لم يكن معنيا بالسلة. بينما ظل بابو يدور في الساحة كالذئب الضائع. ركبت أمي على ظهر البغل. تحركنا باتجاه بيتنا
ظل ماكس في مكانه حتى اختفى عن نظرنا.