أثير – د. سعيد السيابي، أكاديمي في جامعة السلطان قابوس
إن الصورة المشهدية للجمال في الحياة ومن خلفها المدن التي تأسرنا بتفاصيلها لا يقوم بها تخصص بعينه، ولا تشكيل موحد بذاته، ولا المال الوفير المخزن في مصارفها، بل شيء من كل ذلك تتدثر به المدن في تكاملية مشهدية تجعل من أولوياتها خدمة الإنسان قبل النهضة بالعمران، لتكون رؤيتها متجانسة، وفي دائرة الاستقطاب والتميز والحضور اللافت وتستقطب الزائرين من مختلف بقاع العالم، والذي بدأ التنافس فيه محمودا، لتكون المدن وأنسنتها علامة فارقة فيها، ومكانا تتوفر فيه عناصر الرفاهية والعيش الكريم مع اجتماع الفنون بأنواعها مسارح وسينما ومعارض تشكيل، والثقافة بمشاربها ومناسباتها، والتاريخ بحضوره الباذخ في التفاصيل الواقعية والمعنوية، جميع هذه العناصر توجد في بوتقة واحدة وتقدم كواجهة حضارية بعملية التجسير وما يمكن اصطلاحا أن نطلق عليه (السينوغرافيا) وهذا ما قدمه المسرح كخيار فني وجمالي خرج من رحم الجماهير والمتلقين، فالمسرح من أهم صناعته الحديثة وتجاربه الإبداعية التي تتولى عملية الإبهار والتركيز على توحيد عناصر الإضاءة والديكور والموسيقى والأزياء في خدمة الجمالية المشهدية بينها لتقوم به (السينوغرافيا) وهي كلمة مكونة من مفردتين فالسينو وتعني الصورة المشهدية وغرافيا ويقصد بها التصوير، فهذا التخصص حجز مكانته في هندسة الفضاء المسرحي، ووحد أهداف العمل المسرحي لتكون صورته متناسقة لضرورة ما هو مطلوب من رسالته، وما يجب عليها أن تحمله من جمالية حركية وسمعية وبصرية.
إن ما ينطبق على المسرح يمكن أن يستفاد منه في إيجاد جمالية المدن والعمران، بحيث تتضافر عناصر هندسية بلمسات تفيض جمالية كقطع الموزاييك التي عند تركيبها تتكامل لوحتها الفنية ووظيفتها البصرية، فمن المعلوم أن الهندسة والمهندسين بتخصصاتهم لا يمكن بمفردهم أن يحققوا أنسنة المدن، فوجود المصمم السينوغرافي وطاقمه التنفيذي يسهم في توحيد الجهود ويقلل الهدر في المصاريف ويضع المقاييس المناسبة والمقبولة في سلم درجات الرضا للمواطنين والمقيمين وللضيوف القادمين لزيارة المدينة.
والكيمياء المتمازجة مع متطلبات الحياة والعيش المريح وصناعة الجمال في كل الصور والأشكال والزخارف وتنسيق الحدائق والرؤية المشهدية الكاملة للعين هي عنوان مرحلة المدن الحديثة التي حجزت الكثير من تذاكر الزيارة وسحبت البساط من مدن تاريخية كبيرة معروفة، فالتنافس العالمي لا ينتظر في تطوره كثيرا من الخطط، ولا بيروقراطية القرارات، بل يعتمد على انتهاز الفرص، وتحقيق النمو المستدام، والتفاعل مع الحداثة بروح الأصالة، والتمازج مع المعاصرة بقوة وسرعة التقنية القائمة على أقصى درجات الراحة النفسية الممكنة.
من النماذج الشاهدة على واقع الاستفادة من السينوغرافي: الشاطئ واحد في العالم، ولكن هناك سحرًا لشواطئ مدن بعينها، حيث تجتمع فيها كل الخدمات الأساسية التي يحتاجها المصطاف، ويزيد عليها مصمم السينوغرافيا بحضور الإضاءات ودرجاتها اللونية، والموسيقى وتوظيفها وحضور بعض المعزوفات المباشرة في الجدول اليومي أو أثناء الإجازات، وتوزيع الكتل ذات الأشكال الجمالية المعبرة على الشاطئ، ومن النماذج التي يمكن تقديمها أيضا على سبيل المثال لا الحصر: هناك العديد من المباني التاريخية والآثار في المدن، وهي كوحدة متكاملة فيها قيمتها المادية الجاذبة، وسجلها التاريخي الحافل المعنوي، وتجذب إليها الأنظار والاهتمام من الزائرين، ولكن بلمسات من السينوغرافي يستطيع أن يجعل من هذا المبنى التاريخي أو التراثي لوحة بصرية جمالية جاذبة، باستخدام الإضاءة، وبإزالة بعض الحواجز التي تحجب رؤيته بشكل كامل، وتزيين بعض المباني القريبة منه، واستخدام تقنيات بناء حديثة كالزجاج والإطارات والإضاءات وبوابات دخول تحمل سمة المكان وتعكس جوهره، وكتابة الاسم الدال عليه بطريقة بارزة وجاذبة وبألوان حديثة، ووضع لافتات إرشادية لتدل عليه بطريقة جمالية، بالإضافة أن المهندس والسينوغرافي يدرس ما يحتاجه الإنسان في هذا المكان من وسائل راحة كالكراسي والمصطبات ودورات المياه وأماكن للأكل وللتصوير التي تنفذ بلمسات بها إبهار جمالي فيوجِد بيئة جامعة في مكان واحد، فالصورة المتكاملة لتجميع أكثر من تخصص هندسي معماري وتقني وتصميم داخلي ليقوم السينوغرافي بدور تجسير كل العناصر ليحظى الإنسان بالوصول الآمن والمريح فيشبع رغباته التي هي في الأساس تخدم راحة العين والقلب معا.
فالتناسق والإبهار الذي يقدمه السينوغرافي للمدن يجعل أهميته بثقل العناصر الأساسية للبناء والضرورية للحفاظ عليه عمرا، فذات المكان يمكن أن يبقى مهجورا وعدد مرتاديه قليلون ولا يلتفت إليه أحد حتى لو هجمت عليه وسائل التعرية واقتنصت من سنين عمره وأذابت بعض محتوياته الكتابية ونقوشه وزخارفه وارتفعت حواليه المباني الاسمنتية الصارخة والحديدية الثقيلة فيبقى وجوده تحسرا عن عمر كان هو ذائع الصيت وأصبح وجوده ثقلا على المكان والإنسان فالتدخل المحمود أن يتم التأسيس لوجود وظيفة مهندس سينوغرافيا المدن وترشيق الجهات التخطيطية بهؤلاء المبدعين الذين يضعون راحة العين وسهولة الخدمات وجمالية المكان بجوار بعضها البعض خدمة للإنسان بكل أطيافه من الأطفال إلى الشباب والكبار في السن ومن الأصحاء إلى المعاقين ووضع بصمات الإنسان في مسميات الشوارع ومجسمات الميادين واختيار الألوان التي تناسب ضوء الشمس وإنعكاسها وإتجاهاتها لكل بيئة في المدينة.
وتبقى الإرادة هي القوة الدافعة لكل ابتكار وتحديث يوصل الحاضر بالمستقبل ويسعى السينوغرافي بدوره في هذا الحضور فهو ورقة رابحة لمن يستند إلى خبرته وطاقته في التجديد وخدمة الأولويات وليس بالضرورة التكلفة هي العامل الأوحد للنجاح في التغيير إنما في منح الخبز لخبازه بكل تأكيد.