د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
في عالم يعيش كومة التراكمات والاختلالات الفكرية والاقتصادية والنفسية الناتجة عن تغييب القيم وتغريبها عن واقع النشء، ومحاولة ركنها في ديباجات القوانين والبروتوكولات وخطط المؤسسات، يأتي حديث الساسة والقادة والمفكرين الإستراتيجيين وأصحاب الرأي عن القيم في ظل استشعار حصيف لدور القيم الحضاري في إنتاج الواقع وتصحيح اختلالاته، والطريق الآمن نحو صناعة الناشئة، وبناء الأوطان، وتعزيز الاقتصاد، وترقية الموارد، والتوجيه الآمن للثروات، والتوظيف الأمثل للكفاءات، والعلاج الأمثل لمشكلات العالم وقضاياه، والخروج من عقدة الأنانية والمصالح الشخصية والأطماع الذاتية التي باتت تغزو العالم وتسيطر على كياناته.
على أن ما يواجه عالم اليوم من أزمات اقتصادية ومالية، وما تعكسه مؤشرات الفقر والجوع والعوز والأمية والمخدرات، وأوضاع المشردين وضحايا الحروب والفتن والأمراض، وما تواجهه حقوق المرأة والأطفال من انتهاكات، ومشكلات الجريمة والانتحار والقتل والسلبية والعدوانية والتنمر الفكري وضياع الهوية وغياب النماذج والقدوات؛ ثم الاستغلال السلبي للتقنية والمنصات الاجتماعية في الترويج للأفكار التحريضية، الإلحادية والنسوية وغرس مفهوم الحريات المطلقة والاستقلالية في حياة النشء والخروج من جلباب الأبوة والأمومة والمجتمع، ودعوتها إلى الانسلاخ عن القيم والمبادئ، وتسطيح صورة القيم وتشويهها من قبل المروجين للدعاية والإعلانات التجارية والمحتوى الهابط والباحثين عن الشهرة، وممن يسمون بمشاهير المنصات الاجتماعية، ومن يغرسون في فقه الناشئة غربة القيم باعتبارها حجر عثرة أمام التقدم والتطور والإنجاز وغيرها من التراكمات الاجتماعية التي بات تئن من وحشيتها المجتمعات وتضيع في غوغائيتها حقوق الإنسان؛ إنما تعكس حالة النفوق القيمي التي يراد أن تعيشها البشرية، وإفراغ المنظومات الحياتية فيها من جوهر القيم.
عليه اتجهت الأنظار نحو أهمية إعادة القيم إلى المشهد الإنساني، وحوزة الواقع العالمي بكل تجلياته ومنظوماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتربوية والأمنية والأسرية، وعبر تقريب الصورة القيمية وانسجام مع جودة الحياة، والبحث في فرص الترابط والتناغم والتآلف الوجداني بين القيم والسلوك الإنساني في تشكيل شخصية الفرد الإنسان، وإزالة حاجز الخوف والرهبة المصاحبة لتطبيقها كنتاج لعملية التدريس، وتعميق الشعور بقيمتها والحاجة إليها كجزء من حياة الفرد لا يستغني عن مفرداتها في حياته للمحافظة على مستوى التوازنات في حياته اليومية في تناغم مع منطق التغيير، وتكامل مع أداء المسؤوليات، وتصالح مع الذات والآخر، ولما يترتب على اقتناعه بها وحرصه على تطبيقها من قدرتها على نقله إلى مرحلة الرقي الذاتي المتناغمة مع دافعية التغيير، وصدق الرغبة في تصحيح الممارسة منسجمة في إنسانيتها، مستجيبة لمتطلبات نجاحها، متحدية صعوبات التطبيق، في إطار اندماجها مع حياة الفرد والمجتمع وقدرتها على صياغة فكر الشباب، وبناء اتجاهات إيجابية لديهم نحو أنفسهم والعالم من حولهم بكل محتوياته وفي ظل ذوق الاستمتاع بها، وحسن الفهم لطبيعتها، ودقة الالتزام بمحدداتها، وحس التعامل مع مفرداتها.
هذا الأمر يتطلب تأصيل دور الأسرة والتعليم والمسجد والإعلام والمنصات الاجتماعية والفضاءات المفتوحة وغيرها من مواقع التأثير والاحتواء في تغيير الصورة النمطية القاتمة المشوهة للقيم كحالة مقاومة للتطوير، ونعتها بالرجعية والهروب من الواقع، وعبر مراجعة جادّة لأساليب تدريس القيم في ثقافة المدرسة وبيئة الصف الدراسي وقاعات التدريس بمؤسسات التعليم العالي والجامعات، أو من خلال نمط التعامل معها في سلوك الفرد والمجتمع، والخطاب اليومي للآباء والأسرة، والخطاب المؤسسي، والنواهي والزواجر المرتبطة بتعاليم الدين، بالإضافة إلى تعزيز مسار الضبطية الأخلاقية والتشريعات النافذة في معالجة فراغ الضوابط في المنصات الاجتماعية وسلوك المروجين للدعاية والإعلانات، وتعظيم حضورها في القرارات الإدارية والوظيفة العامة وأساليب العمل والعلاقات والحوافز والترقيات والمكافآت، وتضمينها في فلسفة التطوير بالمؤسسات، وموقعها في الخطاب الإعلامي والاتصال الرسمي، بما تحمله من سلاسة ووضوح وابتكارية وتوافقية، وما تحققه من تأثير في حياة الفرد، وارتباطها بمفاهيم الإيجابية والفأل الحسن، قادرة على الدخول في العمق الإنساني، والتأثير على قناعاته واتجاهاته، وبناء حس الضمير المسؤول لديه، في ظل توافقها مع طبيعة المتغيرات التي يمر بها السلوك البشري، واستيعابها للتباينات الفكرية ومستويات التفكير، بحيث تتفاعل مع الفرد بطريقة منهجية وممارسة معقولة يترجمها في سلوكه بطريقة ذاتية وقناعة عفوية وفق منهجية واضحة ومبادئ راقية ورقابة والتزام واستدامة لا تتأثر بالظروف والأحوال ولا تغيرها المواقف والعوارض.
من هنا تأتي أهمية تبني إستراتيجيات مبتكرة تقوم على التسويق للمضمون الأخلاقي للقيم في الأسرة والمدارس والمساجد والسلوك المؤسسي والوظيفة العامة والمهنة، وفق منهجيات واضحة، وأطر سليمة، ونماذج تطبيقية لإدارة السلوك القيمي، وإزالة غربة القيم عن أذهان المتعلمين، وتسهيلها عليهم وربطها بنماذج محاكاة في حياتهم في إطار صناعة القدوات وإعادة إنتاج النماذج؛ فإن ردود الأفعال السلبية التي تظهر نحو تطبيق القيم لدى بعض القائمين على تربية الأجيال وأولياء الأمور وما يتبعها من غلق أبواب حوار القيم معهم؛ سوف يكون لها أثرها السلبي على إنتاجية القيم، وقدرتهم على التعاطي مع معطيات الحياة المتجددة بما تحمله من مفردات إنسانية قيمية، وتبصيرهم بأن التناقضات الحاصلة في الممارسة، والتباينات بين البشر في ممارسة القيم، لا تمثل طبيعة القيم ذاتها ولا تعكس موقعها، والتي من غير المقبول حصرها في ممارسة فردية واختزالها في سلوك شخصي مهما تباينت ممارسات الناس بشأنها، إذ تظل قيمتها حاضرة، ويصبح التعميم فيها ضرب من التجني على القيم.
عليه يبقى التحدي الأكبر هو: “كيف نصنع من تآلفية القيم طريق القوة، وإزالة غربة القيم من حياة الناشئة؟ وكيف ننتزع من الأجيال صدأ التشوية الذي ظل يمارس على القيم والأخلاق بحجة الدفاع عن حقوق الانسان والحريات؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات في ظل ما تم طرحه سابقا، دعوة للتأمل والبحث المعمق في العلاقة العضوية بين القيم والحياة، والانطلاقة من المشترك القيمي والمؤتلف الإنساني كمدخل للتغيير، فإن قياس تأثير القيم في فكر الناشئة ووجدانه ومبادئه يستدعي التزام مبدأ تصحيح مسار الممارسة المجتمعية الموجهة نحو القيم، ومعالجة القصور الناتج عن فهم القيمة ذاتها، تحولاتها ومفرداتها وأنماط عملها وتحدياتها، وقراءة طبيعة السلوك البشري الذي تحتاجه القيم كحد أدنى للتطبيق السليم لها وفق أصول الممارسة المقننة لها من قبل شريعة الإسلام الصحيحة ومبادئ الذوق الإنساني في موضوعيتها وصدقها بعيدا عن الاجتهادية الشخصية أو مزاجية التطبيق، وبالتالي تجاوز سياق التعامل معها في ظل ممارسات الأفراد إلى البحث في ماهية القيم الثابت منها والمتغير وهويتها، وما تؤديه من أجل إنسانية الإنسان في وعيها وصدقها ومبادئها وأخلاقياتها، وتبني آليات مبتكره تتفاعل مع طبيعة الزمان والمكان والمتغيرات التي يعيشها إنسان العصر كعامل مهم في استثمار الفرص المتاحة ماليا وتقنيا وتشريعيا وتنظيميا لتجديد الاهتمام بالقيم وإعادتها في حاضرة الممارسة، وصياغة آليات عملها في معالجة فجوة التطبيق، بحيث تستوعب حجم التغيير الحاصل في طبيعة الفرد النفسية والفكرية في عالم مضطرب، وهو المعنى الذي أراده جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم من حديثه المتدرج والأبوي والمعمق حول استلهام جوهر المبادئ والقيم العمانية للانطلاقة بعمان إلى المستقبل، لتظل القيم محطة إنسانية حضارية راقية ورابطة وطنية مشتركة، تعبّر عن أسمى أهداف الوجود الإنساني وتتحقق في ظلها استحقاقات التكريم الإلهي.