أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
أثار هذا الموضوع جدلاً نظرياً كبيراً حول حدود الأجناس، بالخصوص في السنوات الأخيرة. هل هناك حقيقة فواصل صارمة تجعل كل مساحة ذات حدود مقدسة لا يمكن عبورها. شيء لا يختلف حوله اثنان: الرواية جنس إبداعي مهما تقاطع مع أجناس أخرى وعلى رأسها التاريخ. فكثيرا ما تتماهى المساحات بينهما لدرجة ألا نعرف أين يبدأ التاريخ وأين ينتهي. مقابل ذاك يظل التاريخ “علما” مستقلا بذاته مهما كانت آراؤنا فيه. فهو مادة لها متخصصوها وروادها. التقاطع بينهما ليس أكثر من حاجة إبداعية وفنية. لا الإبداع يملك القدرة على أن يكون في دقة التاريخ واشتراطاته الكثيرة والثقيلة والضابطة، ولا التاريخ يمكنه أن يسقط في “هوى” الإبداع وحريته في التعامل مع الظواهر الإنسانية دون أن يخسر خاصياته الجنسية العميقة.
هذه الحرية تفقد التاريخ موضوعيته التي يتشبع بها، بل ويفخر بها مما يمنحه قابلية التعميم ولو أن ذلك نفسه مثار نقاش وجدل كبيرين. قبعة المؤرخ التي يرتديها الروائي ليست أكثر من لعبة مؤقتة كتلك التي يستعملها الساحر الذي يريد إقناع محبيه ومريديه بممارسة ما يراه قادراً على الغواية والإقناع. لأن القبعة المستعارة لو استمرت على رأسه ستُخسره وظيفته الأدبية، وستفُقده حريته وسيكون مؤرخاً فاشلاً. لا هو بالأديب في أدواته الجمالية، ولا هو بالمؤرخ الذي يعتمد وسائط علمية لتفسير الظواهر وحركة البشر التراجيدية. ومثلما استعمل سيرج دوبروفسكي في الكثير من أبحاثه مصطلح “التخييل الذاتي” بدل “السيرة الذاتية” لأنه يرى فيه محدودية كبيرة وغياباً لمصداقية يفترضها الكاتب وهي غير دقيقة ولا صحيحة. من يضمن أن السيرة الذاتية صافية وأن الذاكرة لم تخن صاحبها. من هنا يسقط مفهوم المرجع الصادق. من منا يتذكر تاريخ حياته بكل تفاصيلها؟ لهذا اختار مصطلح “التخييل الذاتي” الذي استنجد الكثير من الباحثين العرب (الدكتور عبد الله إبراهيم وآخرون) بالمصطلح نفسه وطبقوه على الرواية في تعالقها مع التاريخ باستعمال مصطلح «التخييل التاريخي» بدل مصطلح «الرواية التاريخية». الدكتور عبد الله إبراهيم تحديداً خص المصطلح بعمل كبير “التخييل التاريخي” وبأبحاث جانبية أخرى اشتغلت على المصطلح لتفادي الانفصال بين التاريخ والرواية. هذا الخيار المنهجي الذي تبناه الدكتور عبد الله إبراهيم في التحديدات الجنسية، يدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطّي مشكلة حدود الأنواع الأدبية ووظائفها، وعتباتها التقليدية، فالتجأ إلى تفكيك ثنائية التاريخ والرواية، من خلال دمجهما في “هوية سردية جديدة”، محاولاً عدم رهن جنس لجنس آخر، متجاوزاً “أمر البحث في مدى توفر الكتابة على مبدأ المطابقة مع المرجعيات التاريخية، ومدى الإفراط في التخيلات السردية، ثم إنه ينفتح على الكتابة الجديدة التي لم تعد حاملة للتاريخ، ولا معرّفة به، إنما باحثة في طياته عن العِبر المتناظرة، والتمثلات الرمزية، والتأملات، والمصائر، والتوترات، والتجارب، والانهيارات القيمية، والتطلعات الكبرى… المسارات الكبرى في «التخييل التاريخي» تنقل الكتابة السردية من موقع جرى تثبيت حدوده بصرامة إلى تخوم رحبة للكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر بالدرجة نفسها من الحرية والاهتمام”.
إن العلاقة بين الكاتب، الروائي تحديدا، والمادة التاريخية المنتقاة تنبني بشكل مختلف وأكثر جدوى، من خلال فعل الحرية الذي يحتل مركز الصدارة في العملية الإبداعية، وليس استرجاع التاريخ ككتل يتم رصها روائيا إلا “لعبة أدبية”. فاشلة وضعيفة لا فائدة إبداعية من ورائها وتبين عجزاً كلياً في عملية التوليف الأدبي للمعطيات الإنسانية، تاريخاً كانت أو مجتمعا أو غيرهما. الهدف في النهاية بالنسبة للروائي، ليس استعادة التاريخ، فليست وظيفته، ولكن امتلاك القدرة على السيطرة على المساحات التاريخية التي يريد الاشتغال في حدودها وأطرها. من الصعب على الكاتب كيفما كانت قدراته الإبداعية، أن يتحرك في الفراغ ولكن داخل مساحة يعرفها جيدا، فضاءات يعيد تركيبها بعد تفكيكها وفق إملاءات النص الروائي. لا يمكنه أن يلغي هويته كمبدع روائي ويجيرها لمصلحة التاريخ. التاريخ كما المجتمع، مساحته “غير المقدسة” التي يرتادها بالعقل النقدي الحي وليس بالقفازات مخافة أن يمس “مشاعر” الترسخ. لهذا كثيراً ما يكثر اللغط حول هذه المسألة فيُلام الروائي في كونه لم يحترم “القيم” و”التاريخ” المتفق عليه، و”قضايا” الأمة الكبيرة. وينسى سدنة “الأيديولوجيا” العمياء، أن وظيفة الروائي تتأسس أبدا على الإبداع و”الحرية” التي لا يمكن التساهل فيها. عندما يخسر الإبداع حريته وقدراته النقدية، يخسر هويته ويصبح خاضعا للهويات المسيطرة التي تحدد “الصح” والـ “الغلط” من منطلق أيديولوجيتها ومصالحها السياسية والثقافية والمالية. وكل إبداع ينصاع لها خارج “حرياته” الأساسية يخسر روحه وجدواه، بما في ذلك السردية التاريخية المهيمنة أو الرسمية. قدرات الإبداع، والرواية تحديدا أن تفتح الأبواب التي أغلقت على حقائق مزيفة منذ سنوات وقرون. الرواية لم توجد لخدمة التاريخ المنمّط، فليست وظيفتها، ولكن لإحراج اليقينيات والمطلقات التي تجد فيها الرواية بعض مادتها.
الروائي الفرنسي، باتريك رامبو وهو يكتب ثلاثيته عن نابليون بونابارت (المعركة، كان الثلج يسقط، والغائب)، والروائي جلبير سينوي وهو يكتب سيرة ابن سينا، لا يختلفان كثيرا في نسف قدسية المادة التاريخية المتوارثة فأعادا تركيبها وفق مقتضيات النص الروائي. إن الأمر لا يتعلق بالتاريخ السيري للبشر، ولكن بالسيرة التي يصنعها الروائي من خلال المادة التاريخية، عن نابليون وعن ابن سينا. التاريخ ليس مقصودا لذاته. فهو لا يتجاوز كونه مادة أولية لبناء معمار لغوي قوي ومقنع. فقد ظل باتريك وسينوي، حرّين إلى درجة كبيرة في منجزهما السيري. صحيح أنهما اعتمدا على مادة تاريخية فيها الكثير من الحقيقة المروية، والتتبع الحياتي، لكن هذه الحقيقة ظلت نسبية جدا. باتريك رامبو يقول إنه لا توجد سيرة تاريخية بالمعنى المطلق والصافي ولكن توجد مادة أولية مبعثرة خاضعة للأمزجة والأهواء والإيديولوجيات، للكاتب الحق، كل الحق، في العمل عليها بحرية وتحريكها وفق نسيج الرواية وعملية التخييل الحر، وإعادة تشكيلها بناء على الحاجة الإبداعية والأدبية. يرى باتريك رامو أنه من حق الروائي أن يضع الحرية على رأس انشغالاته الإبداعية، دون ذلك، لن يكون إلا مرددا لأطروحات الغير. تحول نابليون، في ثلاثية باتريك رامبو، الى مطية أدبية تخترق العصور والأزمنة، أكثر منه حقيقة موضوعية، لقراءة عصر قلق وخطير، بدأ بصعود الامبراطورية وانتهى بسقوطها. الثلاثية جعلت من هذا العالم مناخها الأساسي. التاريخ حاضر كضيف على مساحة ليست له، فالعامل الحاسم في العملية الإبداعية هو النص الأدبي ولا شيء آخر. الشيء نفسه حدث مع جيلبير سينوي وهو يتعامل مع المادة التاريخية العربية والإسلامية التي شكلت مركز اهتمامه في أغلب رواياته. فقد اختار في روايته: “ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان”، أحد أتباع الشيخ الرئيس، أبو عبيدة الجوزاني ليروي حياة ابن سينا الغنية بالهزات والصدمات والأفراح والخيبات. سردية ابن سينا هي سردية سينوي وليست السيرة التاريخية كما يكتبها المختصون. كلاهما يؤكد على أن العملية الإبداعية تحتاج إلى قدر واسع من الحرية، خارج الحسابات السياسية والأيديولوجية التي تجير التاريخ للمصالح الصغيرة، وتقهر الإبداعية التي تشكل الحجر الأساس في عملية التشكيل الروائي.
لا غرابة في ذلك، فالكاتب غير مجبر على إعادة إنتاج المادة التاريخية المرجعية وإن توفرت بشكل ملحوظ في الرواية التاريخية. التخييل الذي يشكل حجر الزاوية في الرواية مهم جدا وأكثر، فلا رواية بدونه. فهو مادتها الداخلية التي تبعد النص الروائي عن سلطة المؤرخ المؤقتة. زيارة الأمكنة، والتشبع بها لتأثيث الرواية أكثر، في الأدب الاستقصائي، مهمة جدا، فهي الوسيلة التي يعلق بها الكاتب التاريخي ويذهب نحو “تاريخ” الرواية الذي يقوم بتصنيعه جزئيا، من مشاهداته وما رآه وأحس به وشمه. فإذا كان تلمس المكان وتحسسه يحد من عملية التخييل، فالتعرف المباشر عليه يدفع بحواس الشم والبصر والسمع واللمس إلى الاستيقاظ بقوة والعمل بشكل جماعي لإشباع الرواية ببقايا التاريخ وعلاماته الحية، في مدارات التخييل وليس التاريخ المكتوب. سوء الفهم لوظيفة الكاتب وعلاقاته مع “الحرية” والتسطح المعرفي، وتسيد اليقين والظلم، هي منشأ الكثير من الصدامات التي تنشأ اليوم حول مسألة التطابق مع المرجعيات المجتمعية والتاريخية. خلافات تصل حد التهديد، تديرها “زمرة” من بشر لا يختلفون عن حراس التاريخ المقدس في القرون الوسطى، وحراس النوايا، وانكشارية البحار التي لا عمل لها إلا تصيد ما يسير وفق شهواتها وكسر كل اجتهاد يلتقي فيه العنصران التاريخي وحرية التعامل وفق إملاءات النص. العلاقة التاريخ/ الرواية ليست بهذا التعقيد الذي يصعب فهمه. فمتى ما تحول التاريخ إلى مادة روائية يتوقف عن أن يكون تاريخاً بالمعنى العلمي. الشرط الوحيد أن يصبح جزءاً عميقاً وفاعلاً أدبياً في النص الإبداعي. لا تهم الحادثة التاريخية في حد ذاتها بقدر ما تهم الوظائف الجديدة التي اكتسبتها في النص المُبدَع.
ليس عبثا ان تحتل الرواية التاريخية المشهد الأدبي اليوم نقاشاً وإبداعاً، فحياة البشرية لا تقع خارج هذين المفهومين مهما كان تطورها: أولا: التاريخ بوصفه منتجاً بشرياً يحفظ الذاكرة من التلف بغض النظر عن الأهواء والإيديولوجيات والمصالح المخفية، يعود له الناس لاستنطاقه وفهم أزمنتهم الماضية، بل وتصويب المعطيات الغامضة بحقائق جديدة. ثانيا: الحرية التي تشكل رهانا حقيقيا لأي تطور وانتقال نوعي من مرحلة إلى مرحلة، من عبودية المعلومة وقداسها إلى فتح الحوار حولها. وهنا يدخل الإبداع بوصفه مجالا حيويا لاستعادة زمن مضى وفق المعطيات المستجدة التي تفتحها الحرية والتي تضعنا في مدارات خلاقة جديدة، شبيهة لما وقع في زمن مضى، ولكنها ليست هو. الإيهام بالحقيقة إذ هي في النهاية إبداع وليست تاريخا.