أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
حفل قانون التعليم المدرسي الصادر بالمرسوم السلطاني ( 31/2023) في مواده وأحكامه بالعديد من المفردات والموجهات المرتبطة بمفهوم التمكين واللامركزية، ولعلنا نصدق القول بأن القانون جاء التزاماً تربوياً أصيلاً نحو وضع اللامركزية كمسار مهني في الأداء التعليمي ومحطة تحول لتعظيم دور الرأسمال البشري ممثلا في أعضاء الهيئة التعليمية والطلبة وأولياء الأمور على حد سواء بما أسنده لكل هذه الفئات من مسؤوليات وممكنات وحضور في أبجديات القانون ، ولعلنا لسنا في موضع حصر عدد ورود هذه المفردات بشكل صريح أو ضمني ، ولكن نشير هنا إلى بعض هذه المواد التي تعطي إشارات ودلالات مباشرة أو غير مباشرة حول اللامركزية والتمكين في قانون التعليم المدرسي ، ومن ذلك ما ورد في نص المادة (7) ” … وتعمل كذلك على تحديث الأنظمة واللوائح التي تهدف إلى الارتقاء بالإدارة المدرسية وتعزيز اللامركزية في إدارة النظام التعليمي …”، وانطلاقا من تفعيل الدور الفني والتربوي والاشرافي لمدير المدرسة ومجلس إدارة المدرسة فقد جاءت المادة (68) “تقوم الوزارة بالعمل على تمكين إدارات المدارس في مجال الاشراف التربوي من خلال تشخيص احتياجات المدرسة وأعضاء الهيئة التعليمية وفق مؤشرات الأداء، واقتراح برامج التطوير المهني الفاعلة ومتابعة تنفيذها بهدف تقديم الدعم والمساندة لها” ، وكذلك فإن المادة (87) “.. المدارس مسؤولة عن تحسين أدائها وفق مستويات الأداء ومعاييره المعتمدة”، وضعت المدارس ممثلة في مدير المدرسة ومجلس الادارة وأعضاء الهيئة التعليمية أمام مسؤولية توظيف الفرص المتاحة، والبحث عن كل ما من شأنه تحسين أداء المدرسة وفق مستويات الأداء ومعاييره المعتمدة من الوزارة، أو كذلك استيفائها لجملة المعايير والتزامها بتنفيذ الاستراتيجيات التي تعتمدها نتائج التقويم الصادرة من الهيئة العمانية للاعتماد الاكاديمي وضمان جودة التعليم .
وبالتالي تطرح قراءتنا لمفهوم اللامركزية في ظل معطيات قانون التعليم المدرسي جملة من التساؤلات، منها: ما أطر العمل التي يمكن تبنيها استنادا إلى مواد قانون التعليم المدرسي في تطبيق نظام لامركزية كفؤ وفاعل بين المدارس والوزارة يراعي السياسة العامة للتعليم بسلطنة عُمان وفي الوقت نفسه يحقق آمال وطموحات الشركاء في التعليم ؟، وكيف يمكن أن تصل وزارة التربية والتعليم إلى تبني مسار مستدام للشراكة في إطار اللامركزية تعمل على نقل محور الشراكة لدى المدرسة من دائرة الاهتمام إلى دائرة التأثير والرغبة الحقيقية من المدرسة وعناصرها المختلفة في تحقيق شراكة واقعية تظهر في نتائج تقويم المدارس ومؤشرات النجاح التي تحققها وتصنع لولي الأمر حضوراً في تعلم وتعليم أبنائه لتجاوز تبعات الجزاءات والعقوبات الواردة في القانون ، ولتصنع له التزاماً ذاتياً يعبر عن اهتمامه وحرصه نحو تعلم أبنائه ومتابعتهم دراسيا؟، وأخيرا كيف يمكن ضمان قدرة إدارات المدارس على تحقيق غايات اللامركزية في تطوير التعليم في ضوء مستوى الوعي والاستعداد والجاهزية والحس المهني المتوفر لديهم، ومدى تفاعل الشركاء الداخليين ( إدارات المدارس، المشرفون، الطلاب) والخارجين ( أولياء الأمور ومؤسسات المجتمع المدني) مع ما يستجد من مرئيات ووجهات نظر للتطوير التعليمي؟
إن الأخذ بمفهوم اللامركزية يمثل اليوم نهجاً وطنياً والتزاماً مؤسسياً في ثقافة العمل الوطني عامة وحوكمة أداء مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وبنية الإدارة المحلية بالمحافظات وعبر نظام المحافظات وقانون المجالس البلدية، لضمان تحقيق الإنتاجية، وحفزاً للقدرات والكفاءات الوطنية، وجاء الهدف الاستراتيجي في محور تنمية المحافظات والمدن المستدامة ، هدف “مجتمعات ممكنة تسهم في صياغة أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وتعمل ضمن إطار اللامركزية الإدارية والاقتصادية”؛ وهو في العمل التربوي والتعليمي مظهراً من مظاهر التشاركية ، وتفعيل المشاركة المجتمعية في التعليم، واحتياج تعليمي تقاس به جودة أداء المدارس وفاعليتها، ذلك أن تحسين جودة التعليم يأتي من خلال إتاحة الفرصة للمشاركة الواسعة وتقليل المركزية، وأن جودة مخرجاته قد تتحسن عندما تتخذ القرارات من مكان تطبيقها؛ بيد أن المسالة التعليمية رغم تأكيدها على أولوية تحقيق اللامركزية فيها، إلا أن الخصوصية التعليمية ذاتها تفرض واقعا جديدا يقوم على مساحة التوازنات والتكاملية بين المركزية واللامركزية ، كونه التحدي الأكبر والغاية الأسمى التي تتجه الأنظار إليها في إطار مفاهيم الحوكمة الإدارية ، وهو أمر أدركه قانون التعليم المدرسي، في إطار المركزية القائمة على وضوح المعايير وكفاءة المؤشرات وإنتاجية القدرات وتعظيم مسار ضبطية القانون، من خلال فرض قواعد الانتظام الدراسي والانضباط السلوكي، وكل حق يقابله واجب أو التزام ويغلظ ذلك إلى أن يصل إلى المحظور، ذلك أن الأخذ باللامركزية هدفه توفير المساواة في التعليم ونوعيته لمختلف فئات المجتمع، واستمرار معادلة التوازن نحو الإبقاء على درجة المركزية المقننة حاضرة في مسؤولية الوزارة في توفير احتياجات المدارس والرجوع إليها في كل ما يتعلق بالجوانب المالية وقبول الهبات من الداخل او الخارج، وغيرها كثير، إنما يستهدف ضمان المحافظة على المعايير الوطنية في المدارس في جميع أرجاء البلاد، وللسماح بتطوير آليات محاسبية قوية، حيث أن هناك حاجة دائمة لوجود إطار تربوي يشمل الأهداف والسياسات والمعايير والمحاسبية والدعم وفق أسلوب منظم وإطار مقنن، وفي المقابل أيضا تدرك الوزارة أن الزيادة السريعة في أعداد الطلبة والمعلمين والمدارس تتطلب سرعة وصول الخدمات التعليمية في وقت محدد وفوري وتتطلب اتخاذ قرار عاجل، بما لا يؤثر على سير العمل وسرعة الإنجاز، لهذا اتجهت نحو تبني أسلوب اللامركزية في سياستها التعليمية، وفي عمليات صنع القرار ومنح المحافظات والمدارس صلاحيات إدارية وفنية ومالية ولوجستية أكبر في تسيير شؤونها الداخلية، في إطار السياسة التعليمية، وأحكام قانون التعليم المدرسي واللائحة التنفيذية له.
إن نجاح الوزارة في تحقيق مفهوم متكافئ للامركزية يترجم المعنى العلمي والمؤسسي والتنفيذي لها، في إطار مواد قانون التعليم المدرسي وبما لا يتعارض مع أحكامه ، يستدعي تعزيز المرونة وتبسيط إجراءات وآليات العمل، وهو ما يلقي على اللائحة التنفيذية للقانون مسؤولية توفير تفاصيل أكثر ونماذج تطبيقية مجربة، ومن جهة أخرى وجود جهة مرجعية في الوزارة تنظم وتتابع وتقييم جوانب العمل في تطبيق المفهوم، وتقوم بعمل مراجعة مستمرة لعملية التطبيق ومدى قدرتها على تحقيق أهداف ومتطلبات اللامركزية، ومع القناعة بأن عملية اللامركزية ليس حالة منفصلة عن هيكلية المؤسسة بل هي ضمن نطاق العمل المؤسسي، وتظهر كممارسات في الواقع، لذلك فإن وجود المرجعية التشريعية والتنظيمية والتخطيطية لمنظومة اللامركزية، سوف يتيح توفر رصد دقيق لكل الممارسات الحاصلة وتحليليها ودراستها ..
إذا كانت الوزارة وفي ظل خطابها الرسمي تسعى إلى منح صلاحيات أوسع لإدارات المدارس، ودفعها لتكون شريكا في اتخاذ القرار، وعاملاً فاعلاً في تحقيق التطوير المستقبلي على أرض الواقع المدرسي، ومتابعة ما تم تنفيذه وليس مجرد أداة تنفيذية لتعليمات الوزارة ومتلقية لتوجيهاتها، فإن ذلك يتطلب إخضاع الانجاز الإداري بكل تفصيلاته وشرائحه إلى عملية التقييم الدوري المستمر، ودفع الهياكل الإدارية المركزية على التفرغ المبرمج للمحافظات، وإعادة تنظيم الهياكل التنظيمية للمحافظات التعليمية بما يعزز من تطبيق اللامركزية، وبشكل يضمن تطابق التنوع في دوائرها وأقسامها ووحداتها مع دوائر وأقسام الوزارة تحقيقا لحسن الأداء ويسر وسهولة العمل ، وأن نقرأ في تحولات البنية التنظيمية والادارية والهيكلية للمدرسة، مساحات أكبر للإنتاجية، والاستثمار الأمثل للجهود والخبرات والتجارب والمبادرات، كونها بيت خبرة وطني (تربوي واجتماعي وتعليمي وتدريبي) ، وقاعدة بيانات متكاملة ، تضم المبتكرين والمخترعين، وأصحاب المبادرات والملهمين وغيرهم، بالشكل الذي يسهّل انخراطهم في أنشطة المجتمع؛ وبما يعزز من استقلالية المدارس، وإدارة العمليات التعليمية بروح المنافسة ، ولغة المعايير والمؤشرات.
وبالتالي الاستفادة من تقويم أداء المدارس الذي تقوم به الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي وضبط جودة التعليم بحيث يكون مسار اللامركزية والتمكين أحد مؤشرات العمل. وفي الوقت نفسه فإن منح الصلاحيات المرتبطة باللامركزية والتمكين ينبغي أن ينظر فيه إلى طبيعة المدرسة وإلى مجموعة من المتغيرات من قرب المدرسة وبعدها، وحجم الكادر الإداري والتدريسي والطلاب، والبرامج والمشاريع المطبقة بالمدرسة وأولويات العمل بالمدرسة إلى غيرها من الأمور، إذ أن مفهوم الصلاحيات الممنوحة قد يختلف من مدرسة لأخرى، كما ينبغي أن يتسم بالتدرج وتوزيع الصلاحيات على عدد من المدارس في مجالات مختلفة، إذ أن مثل هذا التوجه سوف يوفر فرص للمقارنة إعادة النظر في الأولويات ويعطي جهات التقييم والتحليل والرصد الفرصة في تقديم التغذية الراجعة وإعادة التصحيح وتحديد الأولوية في التعليم.
أخيرا يمثل قانون التعليم المدرسي في تقديرنا الشخصي القوة الناعمة ذات التأثير الإستراتيجي القادم في القرار التعليمي، وضبطه وتحريره من الارتجالية والفردانية والتدخلات المجتمعية، وخلق حشد مجتمعي عام نحو التعليم وقدسية رسالة المعلم ومهنية التعليم ، وأن العمومية التي أبداها القانون في التعامل مع الصلاحيات وغياب مسار واضح للمحفزات المالية والترقيات الداعمة للمنافسة والمبادرات والإنتاجية، وانتفاء صفة الخصوصية التعليمية في البعد المالي والوظيفي منها تحديدا ( ترقيات أعضاء الهيئات التعليمية والامتيازات والحوافز والمكافآت وغيرها) ، والتي تنطلق من خصوصية التعليم وعمل أعضاء الهيئة التعليمية الذي لا يمكن التعامل معه كنمط إداري مجرد أو كأي وظيفة عامة في الجهاز الإداري للدولة؛ تلقي بثقلها على اللائحة التنفيذية للقانون في استدراك هذا الجانب وتأطيره وتوسيع الخيارات والبدائل التي تضمن حضور البعد المالي وتوجيهه نحو النوعية والجودة في المسار المهني والوظيفي للمعلم وأعضاء الهيئة التعليمية الآخرين لضمان تحقيق أفضل الممارسات التعليمية في المدارس وأنضجها وأكثر تعبيرا عن استحقاقات القانون، للوصول إلى الجودة والكفاءة والإنتاجية.