أثـيـر – مـحـمـد الـعـريــمـي
“لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ” آية أنزلها الله سبحانه وتعالى في كتابه تأكيدا على أن الإنسان سُيكابد المشقة والمصائب في الحياة الدنيا. وكي نعبر بسفينتنا إلى أرض الأمان ونبلغ أحلامنا ونحقق أهدافنا يجب علينا الثقة في الله، والصبر على قدره فهما طوق نجاتنا من بحار الدنيا المتعددة وأمواجها المتلاطمة، وظُلماتها الدامسة.
نسرد في السطور القادمة عبر “أثير” قصة لإحدى الأخوات وزميلات المهنة المواطنة علياء العامرية، التي عانت من المشقة والمصائب وواجهت الشدائد والبلايا منذ أن وُلدت وهي كفيفة لا تبصر إلى أن ابتُليت بـ “سرطان الدم” وهي على مقاعد الدراسة الإعدادية، فتجمّلت بالصبر ولم تجزع وتحلت بالرضا ولم تيأس مؤمنة بقوله تعالى “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”.
قدّر الله وشاء أن تولد علياء كفيفة البصر، ومنذ ولادتها لم تشعر بهذا النقص بين أسرتها التي أبصرت عنها الحياة ولوّنت لها من العدم كل شيء وأضاءت لها كل ما هو مُظلم، إلا أن سفينة الحياة لا بد لها أن تُبحر نحو أهداف قبطانها وأحلامه، وعلياء أبحرت بسفينتها وهي مُدركة بما ستواجهه من عواصف تأخذها يمينًا وشمالًا.
لم تكن علياء تشعر بالنقص مع عائلتها خصوصًا أمها التي أوصلتها للدراسة في معهد عمر بن الخطاب في مسقط وعادت دونها إلى صحار حتى تبدأ علياء تعليمها، فقد كانت أمها هي الشراع الذي يُسيّرها بأمان، فأقامت علياء عند جدتها طوال فترة دراستها في مسقط، وفي الصف الثاني الابتدائي بدأ حُبها وشغفها بالإذاعة، ففي الصباح تُقدّم في الطابور الصباحي، وفي المساء تُقلد مقدمي الإذاعة المدرسية، فكبرت على هذا وكُبر حُبها للإذاعة.
قُدِّر لعلياء البلاء وهي في الصف التاسع، فقد أُصيبت بالمرض الذي يُباغت الإنسان على حِينِ غِرَّة ولا يُفرق بين صغير وكبير وهو “السرطان” الذي شاءت الإرادة الإلهية أن يستوطن دمها، لكنها توكلت على ربها الذي لا يُخيّب الظن به، وعدّت رحلتها مع “سرطان الدم” ماتعة رغم شقائها، مُتمسكةً بأمل النجاة والانتصار على هذا الوحش السرطاني، سلاحها في حربها الثقة بالله والصبر.
سافرت علياء في رحلة علاجية لزراعة النخاع، وفي هذه الرحلة بدأ شغفها في الإعلام يكبر أكثر، فحولت رحلتها العلاجية من تعب وابتلاء إلى راحة وانتصار؛ فصنعت من كل ما يحيط بها أستوديو، وحوّلت جرس مناداة الطبيب إلى مايكروفون وهاتفًا إذا تطلب الأمر، وحولت السرير إلى كرسي، والجهاز المغذي إلى كاميرا، وبعض الممرضات اللاتي غمرنها بُلطفهن إما مشاهدات أو ضيفات، وهكذا عاشت علياء وتعايشت مع رحلة علاجها ممارسةً شغفها ومتمسكة بالأمل والحلم، واثقة بالله أن الابتلاء والشفاء منه سبحانه وتعالى وما على الإنسان إلا الرضا والصبر والثقة بخالقه.
عادت علياء منتصرة على السرطان وهي في الصف العاشر حيث تشافت منه بفضل الله، لتواصل إبحارها تاركةً وراءها الذكريات السيئة وحاملةً معها ذكريات جميلة ودروسا تمدّها بالقوة والمثابرة. انضمت علياء بعد اجتيازها المرحلة الإعدادية والثانوية إلى جامعة السلطان قابوس وكان حلمها تخصص الإذاعة، إلا أنها رُفِضت في هذا التخصص فكان الرفض بمثابة العاصفة التي غيرت اتجاه سفينتها، لكنها لم تحد عن تجاه حلمها وشغفها فاختارت تخصص الصحافة.
بعد أن وجهت علياء دفة السفينة إلى مجال الصحافة أحبت هذا المجال لكن ليس كحُبها للإذاعة الذي وُلد بداخلها منذ سنوات ومارسته وتدربت عليه في أحلك الظروف، فانضمت علياء إلى صحيفة النبأ الإلكترونية ككاتبة ثم مُحررة، وبعد تعب ومرض ورفض كافأها الله على صبرها وأعطتها الحياة فرصة لتحقيق حلمها في الإذاعة، فقد وجدت فرصة تدريب في إذاعة فنون الإلكترونية وسارعت في التسجيل، تدربت ثم قدمت برنامج “إلى النور”، وبعدها قدمت “زوايا أدبية”.
في شهر يونيو من العام الجاري تخرجت علياء من تخصص الإعلام في جامعة السلطان قابوس، محققةً حُلمها الذي كبر معها ولازمها في رحلة الحياة بكل تقلباتها، فلم تكن الأمواج المتلاطمة والعواصف التي واجهتها خلال رحلتها كفيلةً بكسرِ عزيمتها وسلب أحلامها وأهدافها منها، فصبرت على هوج العواصف ولم تجزع، مُدركةً أن الخير يولد من باطن الشر وأن النور يجيء من عمق الظلام وأن بعد الابتلاء فرج أعده اللهُ لأهل البلاء والمحن وأنه جل جلاله يُعطي خيرًا ممّا أخَذ.