أثير – الروائي الأردني جلال برجس
حين ازداد عدد الغرف في البيوت اتسعت رقعة خصوصية الفرد، لكن في المقابل تراجعت الحميمية؛ ففراش النوم الجماعي-خصوصا في القرى- بألفته وحكاياته التي تروى بفطرية عالية اختفى لصالح الأَسِّرَّة صاحبة الطقس الفردي. ليس للأمر هنا علاقة بالحنين إلى الماضي -الذي أؤمن أن الاستغراق فيه كثيرًا، دليل على فشل الخطوات نحو المستقبل-بل بالتبدلات السريعة التي أخذت بضراوة تستأصل لذائذ إنسانية لم نكن لننتبه لها لولا صدى فقدها ونحن نستشعره في هذه الأيام. لقد احتلت الفردية بنسبة كبيرة مساحة كانت تشغلها الروح الجماعية في العيش، والسعي إليه، وباتت الحياة أكثر خشية حينما يتأملها الإنسان في لحظة صفاء خارجة على الصخب.
تبدلت الحياة وسبلها بشكل سريع جدًا أوجد العديد من الأسئلة نحو المصير الإنساني؛ فلابد لأي أحد منا إن توقف عند الإشارة الضوئية أن يجد كثيرًا من سائقي السيارات يستثمرون ذلك الوقت القصير بالتحديق بهواتفهم النقالة، بل حتى سنلاحظ بعضهم أثناء القيادة يفعلون ذلك. وسنجد أن هناك الكثير ينزوون صامتين في منازلهم بمعية هواتفهم، يصوبون أعينهم نحو الشاشات، وهم في حالة من السكون الجسدي الغريب. سنراهم في الاجتماعات العائلية التي يقتصر الحديث فيها على تحيات سريعة، أما باقي الوقت فيمضي في تحديق لا ينقطع في عوالم (السوشال ميديا). تحديق مستمر في كثير من الأماكن والمواقف، والمناسبات، حتى في أسرَّة النوم. مشهد غرائبي، ستزداد غرائبيته مع مرور الوقت، بل حتى كان يمكن اعتباره فنتازيًا لو نظرنا إليه من خلال وعي ما قبل حقبة الثمانينات.
لم تقتصر هذه الحالة المريبة على الذين لا يتقنون كيفية إدارة وقتهم، أو على الذين لا وسائل لديهم لملء أوقات الفراغ فقط، بل امتدت حتى إلى بعض الكتّاب الذين فقد الكثير منهم قدرته على القراءة والكتابة جراء الأثر السلبي لتكنولوجيا الاتصالات. انشغال إجباري لا نتائج ترجى منه سوى تبديد الوقت، الذي يصيب الإنسان بشكل من اللوم الذاتي، وصراع يتفاقم إلى حد من الشعور بالخسارة.
ما الذي حدث بحيث صار لا يتحرك من الناس وهم ينظرون في هواتفهم النقالة، واللوحية إلا الإبهام؟ وفي نهاية الأمر إن كان هناك بحث عن نتائج ما، يفاجؤون بالنتيجة صفر، الأمر الذي يشير إلى عبودية جديدة، وسجن بقضبان افتراضية، بات الخروج منها أمر صعب. حالة يرى علم النفس أنها مرض يستوجب علاجًا سلوكيًّا.
لقد ابتكر الإنسان منذ بدء الخليقة وسائله لتصبح الحياة أكثر سهولة، لكنه ما كان يدري أن هذه السلسلة من المحاولات الغريزية لهزيمة الشقاء، وتقريب المسافة بينه وبين الراحة قد تفضي إلى شقاء آخر، حين تصبح لبعض تلك الابتكارات فوهة تردي الإنسانية في مقتل؛ إذ نجح في إيجاد ما يحقق له العيش، واللذة بكل مستوياتها، وتقصير المسافات عبر وسائط مثلما امتدحها، وقف فيما بعد قبالتها مصابًا بالخشية على المصير الآدمي، بعد أن أفضت التراتبية الزمنية عبر العصور إلى ما هو منطقي ومقبول فيما يسعى إليه. لكننا في هذا القرن نشهد تجاوزًا لحاجة الإنسان من الاختراعات التي بطبيعة الحال تحمل في باطنها تهديدًا صريحًا للسلوك الآدمي. وما جاء هذا التهديد إلا عندما تراجعت ثقافة الإنتاج أمام ثقافة الاستهلاك، عبر سعي حثيث منظم لتشييء الإنسان، وتفريغه من مضامين واجباته الآدمية. يحتاج الإنسان للعلم ولمزيد من الابتكارات لتصبح الحياة أكثر سهولة، لكنه يحتاج إلى إنسانيته التي كانت متحققة فيما مضى بشكل أكثر وضوحًا مما هي عليه الآن.
لكل خطوة إلى الأمام ضريبة ما يمكن استيعابها، لكن من الكارثي أن ترافق الخطوة في طريق التقدم العلمي هاوية يستلزم منا تسلق أطرافها لنعود إلى الطريق. هنا تدفعني الأحداث المتسارعة، والتبدلات المريبة إلى الالتفات نحو إرث الفيلسوف الفرنسي (موريس ميرلو بونتي) الذي يرى في مطامح العلم جانبًا كبيرًا من تهديد الإنسانية عبر إيمانه بـ (الفلسفة الفينومينولوجية) التي ترى في العودة إلى الطبيعة والأشياء الأولى حلًّا لما يقاسيه الإنسان من آثار سلبية للعلم وابتكاراته. وبكل تأكيد سيبدو هذا الطرح مثاليًّا وغير منطقي للإنسان الذي تسير معظم شؤون حياته بضغطة من إصبعه على شاشة هاتفه النقال أو اللوحي. لكن كيف لنا أن نغادر هذا السجن الافتراضي الذي دفع بنا إلى عزلة قاسية مقابل وهج جماعي وهمي، سجن قتلَ الروح الجماعية لصالح الفردية، وعقف يد الإنتاج ليطلق يد الاستهلاك. خنق النفَس الطويل لصالح الأشياء القصيرة، وأغرق العميق لصالح السطحي، وأقصى الروح النقدية الجدلية، ليحل محلها قبول الأوهام على أنها حقائق.
لقد دفع العلم بالإنسان إلى فضاءات جعلت منه حضاريًا أكثر من ذي قبل، لكن لا يخلو هذا العلم من الطامحين بالثراء على حساب المصير الإنساني، عبر رؤية نفعية لا عواطف، ولا رؤى حضارية فيها. صحيح أن العلم جعل ملمس حياتنا أكثر نعومة، لكننا نريد الإنسانية حتى لو بخشونتها.