أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
يكاد الفن يكون قدرا إنسانيا لا يمكن تفاديه. يحفر في الأعماق المثقفة أو ذات الثقافات الشعبية المترسخة في الأعماق. فهو من يصنع ذواتنا ويمنحها ماء الحياة، وذاكرتنا المتحولة باستمرار. لماذا تحزن اليوم الكرة الأرضية قاطبة على كاتب لم تعرفه ولم تلتق به إلا من خلال حروفه وتجربته الإنسانية العظيمة؟ لقد كتب الروائي الفرنسي نصوصه بالتشيكية وبالفرنسية لاحقا، ويفترض بمنطق لغة التعبير أن يحزن عليه بلدا لغة الكتابة، ومع ذلك، فالكرة الأرضية كلها اهتزت لرحيله. وأسدل العالم الثقافي أعلام الفن والمعرفة إكراما لهذا الرجل العظيم.
لهذا أقول دوما إن الفن كان قدرا محتوما، وإلا لن تستطيع البشرية العيش والاستمرار بقليل من الجمال، في عز السواد. يحضرني هذا السياق المسرحي الجزائري والعالمي الكبير، والمناضل المعروف، محمد بوديا الذي نُسي أو كاد، للأسف. يجب ألا يصبح الموت آلة محو لأشخاص قدموا حياتهم قرباناً لفنهم ولثقافتهم، ولقناعاتهم الفردية والجماعية. كثير من الجزائريين والعرب، باستثناء المثقفين الكبار الذين عرفوه حيا في الجزائر أو في باريس، لا يتذكرون هذه الشخصية الفذة والاستثنائية، ليس فقط لأن محمد بوديا كان مناضلاً شمولياً وعالمياً من سلالة الفنانين الكبار الذين تشبعوا بالثقافات التنويرية العربية والأجنبية، وانتصر للفن والحقّ أينما كان، ولكنه اشتغل في المسرح، تمثيلاً وإدارة، وتسييراً إذ كان مديراً لمسرح الغرب في باريس، وللمسرح الوطني الجزائري بعد الاستقلال. عاش في المنافي حتى يوم اغتياله في باريس بتفخيخ سيارته بنفس طريقة اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني وكأن قدرا ما جمع بينهما: فلسطين.
ما يعيدنا إلى هذه الشخصية الإشكالية، الوثيقة التي نشرها المكتب الفيديرالي بوزارة خارجية سويسرا وعليها الختم المشمع «سري»، تحت رقم 39519. وعنوان الملف«Le Terrorisme palestinien»: «Genève, Vienne, Paris comme points d’appui» الإرهاب الفلسطيني: جنيف، فيِينا، باريس كنقاط ارتكاز»، تتبعتْ هذه الوثيقة النادرة تحركات المسرحي الملتزم والمناضل محمد بوديا عبر أوروبا، ودوره في تنشيط الكثير من الخلايا النضالية لصالح فلسطين حتى يوم اغتياله.
من هو هذا الرجل ذو الأوجه المتعددة كما يصفه التقرير؟ صاحب المائة وجه ووجه. هو بوديا علي (وليس محمد، كما تقول الوثيقة السرية)، ولد في 24 فبراير/ شباط 1932. تزوج في يناير / كانون الثاني من 1968 إلى 1971. شغل مدير مسرح الغرب الباريسي «Théâtre de l’Ouest Parisien» في باريس، يقيم في 29 شارع بوانود، الطابق الرابع، مواطن من جنسية جزائرية. أثناء تنقلاته بين فيينا وجنيف، اختار أسماء مستعارة كثيرة: بوايي موريس أندريس مولود في 20 سبتمبر/ أيلول 1931 في افينيون. بيرتان رولان، ولد في 16 يناير 1931، وفي جوازه الفرنسي فقد ولد في 16 نوفمير 1930، تحت رقم 387، بتاريخ 16 يوليو/ تموز 1968. إضافة إلى أسماء كثيرة مثل بيرتان بيير، روبيرت، رودريغ، روجي، سعيد بن أحمد، ولد في 1935 في المغرب رقم الجواز 12479/737، أبو خليل، أبو خالد، بيتانشان، كان اسمه بين رفاقه السويسريين المناصرين للقضية الفلسطينية: رودريغ بيرتان». ويشير الملف إلى تكوينه في الجزائر. فبعد المدرسة الابتدائية، التحق بوديا بالمركز الجهوي للفنون الدرامية في العاصمة الجزائر. ثم بين 1953 إلى 1955 التحق بالخدمة العسكرية في العاصمة ثم في ديجون. ثم اشتغل ممثلاً في مؤسسة البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنسية ORTF، في باريس. وكان ينشط أيضاً مع فرقة مسرحية جزائرية في الضاحية الباريسية. تركز الوثيقة أيضاً على نشاطه السياسي في الحركة الوطنية الجزائرية. التحق بالثورة في 1957 ليصبح مسؤولاً عن الخلية الباريسية قبل أن يُبعث إلى مرسيليا وكان تحت قيادته أكثر من 3000 مناضل. كان يجمع الأموال للثورة الجزائرية، ورأس حربة في كل العمليات التي تحتاج إلى جرأة، لكنه أوقف في 9 سبتمبر 1958 من طرف الشرطة الفرنسية التي وجدت في بيته أسلحة. حكم عليه بـ 20 سنة سجناً مرفقة بالأشغال الشاقة، بتهمة الخيانة والتواطؤ مع قوى معادية، لكنه تمكن من الهرب في 10 سبتمبر 1961. عيّن بعد الاستقلال مباشرة مديراً للمسرح الوطني الجزائري في سنة 1963، قبل أن يُكلِّفه انقلاب العقيد هواري بومدين ضد ابن بلا في 1965، السجن والمنافي حتى الموت. فقد حوكم في وطنه بتهمة الخيانة: نحن فوضيل عبد القادر، رئيس الدورة العادية الرابعة من سنة 1970، وفي المحكمة الجنائية للجزائر العاصمة، وبناء على التهم المنسوبة للجاني بتاريخ 29 يونيو / حزيران 1970 رقم 197، ضد المسمى بودية محمد بن علي بن سعيد وشلال خدوجة، مولود في 24 فبراير 1932، بجنسية جزائرية والمدير السابق للمسرح الوطني الجزائري، في حالة فرار منذ 16 يوليو 1967، متهم بتكوين مجموعة من المجرمين ومحاولة اغتيال…» فقد كان من أهم الذين بادروا بإنشاء المسرح الوطني وأعطوه حضوراً حقيقياً في الحياة الثقافية». بوديا كان من أنصار مسرح وطني ملتزم، يلعب دوراً تكوينياً وحيوياً مثلما هو الحال في الدول الاشتراكية»، وقد صبغ هذا التوجه المسرح الوطني في عمومه بهذه الصفة السياسية التي لم يتخلص منها إلا في السنوات الأخيرة. فقد ظل مناصراً لكل حركات التحرر الوطن، النضال في أمريكا اللاتينية وفلسطين على وجه الخصوص. كان صاحب المبادرة الرمزية التي قرر بموجبها تخصيص مداخيل الموسم الصيفي للمسرح عام 1964، دعماً لكفاح الشعب الفلسطيني. علاقة محمد بوديا المباشرة والجدية بالقضية الفلسطينية بدأت في كوبا، خلال لقائه بوديع حداد، المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ وبعد هذا اللقاء وضع خبرته النضالية في خدمة النضال الفلسطيني، ثم عاد إلى باريس في مطلع السبعينيات بصفته قائداً للعمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا، متخذاً اسماً حركياً جديداً: أبو ضياء. أول عمل قام به هو التنسيق مع الجماعات اليسارية الأوروبية؛ فقد كان المدبر الرئيسي لجميع عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا في مطلع السبعينيات.
بعد الخسائر الفادحة، أمرت غولدا مئير، رئيسة الحكومة وقتها، بالانتقام من مرتكبي عملية ميونيخ. شُكلت لجنة وزراء مكونة من غولدا مايير، ووزير الدفاع موشيه ديان، ووزير الخارجية يغئال ألون، وإسرائيل جليلي، وهو وزير بلا حقيبة والممسك بخيوط اللعبة، وأهارون ياريف ورحبعام زئيفي، كمستشارين لرئيسة الحكومة للاستخبارات، ورئيس الموساد تسفيكا زمير، وكان القرار النهائي هو الحكم بالإعدام ضد الذين كانوا وراء عملية ميونيخ. وتم تجميع وتجنيد أفضل ضباط المخابرات العسكريين، ومنهم شموليك غورين، وباروخ كوهين، وتصادوق أوفير، ورافي سيتون، وغايزي تسفرير وآخرون. كانت القيادة تضم مايك هراري رئيس الوحدة التنفيذية، وشموليك غورين رئيس «كيشت»، وحدة تجميع الاستخبارات، وناحوم أدموني رئيس «تفيل»، المسؤولة عن العلاقات بالجهات الاستخبارية الأجنبية. لم يكن الأمر ثانوياً، لكن جهز له كما يجب ومن طرف دولة. لنقرأ ما قاله إيتان هابر، رئيس ديوان رابين سابقاً في جريدة يديعوت أحرونوت بتاريخ 3-10-2005: “كان محمد بوديا إرهابياً حقيقياً. كان أحد أفراد جبهة تحرير الجزائر. سُجن في فرنسا لثلاث سنوات، وأدار بعد إطلاق سراحه مسرحاً صغيراً في باريس. وكان رجل نساء. في 1972 تطوع بوديا لمساعدة الفلسطينيين، وأرسل إلى إسرائيل جماعة مخربين: إيفلن بارج، التي كانت المسؤولة عن صندوق مسرحه وعشيقته خارج ساعات العمل، والأختين ناديا ومارلين برادلي، وزوجين مسنين من الناس الغامضين. عندما وصلوا إلى مطار اللد، لم يوجد في حقائبهم أي شيء يثير الشبهة: فقد وجدت ملابس، وأحذية، وأدوات استحمام وقطن. لكن المحققين اكتشفوا أن الملابس والقطن، كلها قد تغلغلت فيهما مادة متفجرة سائلة جُففت. جلب زوجا الشيوخ معهما مُفجِّرات في مستقبِل راديو، وكان وصلها بالملابس المُشربة بالمادة المتفجرة سينتج عدداً من القنابل. لقد كانوا ينوون وضعها في فنادق في تل أبيب. في التحقيق معهم، قاد المعتقلون المحققين إلى بوديا». وأدرك بوديا أنهم يبحثون عنه، وعليه أن يغير من عاداته. لقد بدّل كمدير للمسرح الهويات والملابس والعناوين على عجل. كان تتبعه صعباً جداً. عندما كانوا على شفا اليأس، قرر الموساد ترصد بوديا في الممرات تحت الأرض للمشاة… وقد حدث ما لا يُصدق: لقد عثروا عليه. ومنذ تلك اللحظة، لم يتركوه. بعد مضي بضعة أيام استيقظ بوديا عند إحدى صديقاته في باريس. أكل فطوره، وشرب القهوة، ولبس، ونزل إلى سيارته للذهاب إلى مهامه. وعلى الرغم من حرصه، فقد وصلته يد الموساد بزرع لغم تحت مقعد سيارته، الرونو 16 الزرقاء اللون، التي كان يملكها، في صباح 28 يونيو 1973 أمام المركز الجامعي لشارع فوسي برنار في باريس. بمجرد جلوسه على الكرسي انفجرت السيارة كليا ليموت في اللحظة نفسها الرجل ذو المائة وجه ووجه.
تذكرت، وأنا في جريدة الجمهورية (وهران) أني قرأت حواراً مهماً لمحمد بوديا (1936 ـ 1973) المناضل والمسرحي الجزائري، الذي اختار مناصرة فلسطين حتى وجد نفسه في أعالي المسؤوليات في منظمة التحرير، فقد كان صديقاً لوديع حداد وحسن سلامة، إلى يوم اغتياله بسيارة ملغومة في باريس كما حدث لصديقه غسان كنفاني. يقول في الحوار المذكور مدافعاً عن نفسه من تهمة الإرهاب: «من يحدد مفهوم الإرهاب؟ المنتصر أم المنهزم؟ القوي طبعاً. أنا أمام قضية انتميت إليها كما انتمى أجدادي الأوائل إلى الثورة الجزائرية التي كانت تعني تصفية الاستعمار. في فلسطين، أنا أشتغل بالمنطق نفسه. عصابات الهاغاناه والشتيرن في 1948، إرهابية لأنها هاجمت ناساً بسطاء وطردتهم من أراضيهم. نحن لا نفعل هذا أبداً، ولكننا نناضل من أجل حق تاريخي، لهذا، فاستشهادي منتمياً للقضية الفلسطينية هو خياري». لا يكفي التذكر لإعادة قراءة التاريخ، ولكن نحتاج إلى عين حيوية تعيد ترتيب الأشياء في خصوصياتها، ولكن أيضاً في سياقاتها العامة. قتل الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ، التي يقال إن بوديا اشترك فيها تنظيميا، هو بلا شك عمل مرفوض إنسانياً، لكن هذه الإنسانية غير مفصولة عن السياق العام. هل يكفي هذا التصور التبسيطي عندما يكون الفلسطيني في مواجهة دولة بنت مشروعها على إحلال شعب مكان شعب آخر تم جلبه من مختلف أصقاع الدنيا؟
وكما ذكرنا سابقا، فقد اغتيل بوديا في سيارة ملغومة من طرف المخابرات الإسرائيلية، ولكن ذلك لم يحل أي إشكال بل عقده. فالإرباك الذي قاد في سبتمبر/أيلول 1972 الدولة والحكومة وجهاز الأمن في إسرائيل إلى إيجاد الحلول، أكد في التاريخ أن إرهاب الدولة يولد ردة فعل أقسى وأخطر، وحق الدفاع عن النفس. يمكن أن نفتح اليوم كل الملفات من جديد، ونعيد قراءتها بكثير من الموضوعية حتى في جانبها القاسي على الفلسطينيين والعرب. ما قاله إيتان هابر، رئيس ديوان رابين سابقاً في جريدة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 3-10-2005 عن حالة محمد بوديا، يؤكد على هذه الرؤية العمياء التي لا ترى الإشكال إلا من زاوية واحدة، ولا تريد أن تتسع قليلاً مستعملة كل وسائل التقزيم السياسية والعسكرية وحتى الأخلاقية.
مات الرجل الذي جنن المخابرات الإسرائيلية، بأوجهه المائة وواحد، وطلت قضيته مخفيه: من كان وراء المعلومات التي قادت إلى اغتياله؟ ما هي التواطئات الممكنة؟ من المرأة التي قضى معها آخر ليلة في حياته؟ هل هي صديقة أم وُضِعَت له لجره نحو الموت؟ أسئلة كثيرة تظل معلقة مثل قضية المناضل المغربي المهدي بن بركة. دُفنت القضية التي تولى البحث والتحقيق فيها ومتابعتها، القاضي جون باسكال، لكن لا شيء في الأفق حتى اليوم. الموساد اعترف علناً، في السنوات الأخيرة، أنه كان وراء العملية التي استهدفت حياة محمد بوديا. سمحت السلطات الجزائرية بنقل جثمانه ودفنه في الجزائر، في مقبرة القطّار في العاصمة، على الرغم من أنه ظل مناهضاً للرئيس هواري بومدين منذ انقلاب 1965 ضد الرئيس أحمد بن بيلا.